خريطة العراق وموقع البصرة
خريطة العراق وموقع البصرة

أفسحت قصور القرن التاسع عشر الأنيقة المجال لمبانٍ سكنيةٍ قصيرةٍ متهدلة، يميل الكثير منها متوعدا على طرقٍ مليئةٍ بالحفر. حتى شط العرب، الممر المائي الطيني الذي بنيت على ضفته ثروات المدينة، قد تغير حتى لم يعد من الممكن معرفته. السفن الغارقة أو التي تم إغراقها تغلق المضيق، بينما هجر أغلب الصيادين المحليين شباكهم لصالح تهريب النفط وبضائع أخرى محظورة من إيران المجاورة.

الوضع الذي وصلت إليه أكبر المدن العراقية أكثر إدهاشا نظرا للدور الحيوي الذي تلعبه في اقتصاد البلاد. تستمد الحكومة المركزية حوالي 97 بالمئة من عوائدها من النفط، ويُستخرج 90 بالمئة تقريبا من ذلك النفط من الحقول الضخمة التي تطوق الأحياء الخارجية الكئيبة للبصرة. مع الطفرة التي حدثت في الصادرات – لتصل مؤخرا إلى رقم قياسي جديد بلغ 3.145 مليون برميل يوميا – يشعر المواطنون بالغبن وأن مدينتهم كان يجب أن تحصد فوائد غنى المنطقة بالثروات الطبيعية.

“اقتصاد العراق هو نفط البصرة”، قال علي عباسي، والذي يملك متجرا للأدوات على بعد خطوات من الكورنيش الذي يمتد على ضفاف النهر. “من المنطقي أن يأخذونه بالكامل، لكن أن لا يعطونا كهرباء؟ إنهم يستخدمون ميناءنا، فلماذا لا يوفرون لنا طرقا ممهدة؟”

حافظ معاوني صدام من البعثيين لعقودٍ على سيطرةٍ محكمة على أي معارضة في الجنوب ذي الأغلبية الشيعية. لقد امتصوا موارد المنطقة بينما كانوا يقمعون الانتفاضات المتكررة بوحشية. لكن بعد تحررهم من أصفاد الدكتاتورية وبعد أن سئموا عدم قدرة الحكومات على تلبية احتياجاتهم، يتطلع بعض البصراويين إلى أن ينأوا بأنفسهم عن بغداد.

“إن أفضل طريق سهل لوضع حد لهذا الصراع الأبدي هو عبر أقاليم”، قال رمضان البدران، وهو رجل أعمال عراقي-أمريكي وأحد الأشخاص الثلاثة الذين يقودون حملة من أجل الفيدرالية. “أظهرت بغداد أنها لا تستطيع التعامل مع السلطة، لذا فلتعيدها إلى الشعب”.

البصرة هي واحدة فقط من عدة كيانات في العراق تتحمس إلى إعادة صياغة علاقتها مع بغداد. يتطلع الأكراد وبعض قادة السنة في شمال البلاد إلى نيل قدرٍ أكبر من الحكم الذاتي، بينما تبدو ايضا ميليشيات شيعية عديدة غير مستعدة للتخلي عن استقلالها الجديد طواعيةً. كما خطر للولايات المتحدة ايضا دعم عراقٍ أقل مركزية، حيث درس الكونجرس مشروع قانون يسمح لواشنطن بتسليح المقاتلين السنة والأكراد بدون تمرير الأسلحة على بغداد، بينما أعرب وزير الدفاع أشتون كارتر علنا عن قلقه من مستقبل “يتضح فيه أن عراقا متعدد الطوائف غير ممكن”.

حفز ايضا اندفاع الدولة الإسلامية عبر شمال وغرب العراق البدران وحلفاءه، والذين يصرون أن العراق كدولة موحدة يتم إدارتها من بغداد قد انتهت.

“العراق هو نهاية مسدودة. لذا فإما أن نستمر بالسقوط، أو أن نندفع إلى الأمام بنموذجٍ فيدرالي”، قال البدران.

يعرض هؤلاء الذين يدعمون حملة البصرة مجموعة من الآراء حول كيف يتصورون أن تحسن “الأقلمة” محافظتهم.

يشير كثيرون إلى إقليم كردستان شبه ذاتي الحكم كمثالٍ لما يريدون أن يروه في البصرة. “في كردستان، هناك حياة جيدة. إنهم يقررون على ماذا يحصلون وكيف ينفقونه”، يقول حيدر التميمي، الذي يبيع حلوى القطن (غزل البنات) للعائلات التي تتنزه في الأراضي غير المهذبة لأحد قصور صدام السابقة. “بالطبع سوف يظل هناك فساد، لكنه سوف يكون أمام أعيننا، حتى نستطيع أن نفعل شيئا بشأنه”.

يتمنى آخرون فقط تحسن الخدمات الأساسية، لكن بعد 12 عاما من الفوضى، استنتجوا أن الحكومة المركزية ببساطة أكثر تعفنا من أن تفي بوعودها.

” جعل سعر النفط (المنخفض) كل شيء أسوأ، لكن بالأساس كل المشاكل تأتي من بغداد. ينبغي أن نخرج وحدنا”، قال علي محمد الشميري. يدفع الشميري 100 دولار شهريا مقابل 13 أمبير من الكهرباء ليدير مطعمه الصغير في جانب الشارع، لكن مع انقطاع الكهرباء لمدة 18 ساعة يوميا على الأقل وفساد بعض أطعمته في حرارة أواخر ابريل الحارقة، فإن صبره يقارب على النفاذ.

فوق كل شيء، يأمل البصراويون الفيدراليون ان تغيرا في النظام السياسي سوف يقلل من البيروقراطية بالنسبة للأعمال التجارية ويوفر فرص عمل للطابور المتنامي من الشباب الذي يعاني من البطالة – والذين، ليس من قبيل مصادفةً، يشكلون العمود الفقري لدعم الفيدراليين.

تفضل القوانين العراقية حاليا الأعمال التجارية المملوكة للدولة أو التي يقع مقرها في بغداد، واضعةً منافسيهم من البصرة في موقف ضعف عندما يتعلق الأمر بمناقصات العقود الحكومية المربحة. ومع طلب البنوك المحلية لفائدة تبلغ 14 بالمئة على الأقل، تستطيع القليل من شركات المدينة الصغيرة فقط تحمل تكلفة الاقتراض، حسب صبيح الهاشمي، رئيس فرع البصرة باتحاد رجال الأعمال العراقيين.

“مع الفساد وعدم وجود أعمال تجارية جديدة، أحلم شخصيا بالعودة 50 عاما إلى الوراء”، قال الهاشمي. “كانت الأمور أفضل حينذاك”.

كما تظهر تعليقات مثل هذه، يبدو الكثير من كبار السن حاملين لتقديرٍ تاريخيٍ مبالغ فيه لمكانة مدينتهم. يساعد هذا ايضا في شرح لماذا، من بين جميع الحملات الوليدة عبر البلاد التي تنادي بالفيدرالية، فإن حملة البصرة هي التي أسرت خيال قاطنيها.

بعد فترةٍ قصيرة من سقوط المدينة في أيدي البريطانيين عام 1914 عقب أكثر من 400 عام من الحكم العثماني، قام التجار والأقليات المحلية بالدفع نحو فصل أنفسهم عن الشمال الحبيس (الذي لا يطل على بحارٍ مفتوحة). كان هدفهم هو “تأسيس المدينة وجوارها المباشر كجمهوريةٍ تجارية كوزموبوليتانية منفصلة”، حسب ما ذكره المختص بالشأن العراقي رايدر فيسر في كتابه البصرة، الدولة الخليجية الفاشلة: الانفصالية والقومية في جنوب العراق.

في النهاية فاز القوميون العراقيون بعد ما يدعوه فيسر “جهود بروباجندا وبناء دولة بارعة”. لكن اكتشاف الثروات النفطية بالجوار عمل كوقود أشعله تجاهل بغداد المستمر مما جعل فكرة هوية مميزة للبصرة تستمر في الحياة.

“ينبغي أن نكون، في البصرة، أغنى مدينة في الشرق الأوسط. نحن ننظر إلى دبي ونبكي”، يقول محمد الطائي، وهو عضو مجلس شعب مستقل، ومركز قوى إعلامي، ونصير بارز آخر للفيدرالية. “لكن بدلا من ذلك، نعاني من المياه المالحة (من الصنابير) ولدينا ديون. إنها نكتة”.

لكن على الفيدراليين المعاصرين في البصرة أن يتعاملوا مع عقباتٍ أكثر خطورة بكثير عن سابقيهم الذين لم يحالفهم النجاح في عشرينيات القرن الماضي. فهم يواجهون تحدياتٍ من السياسيين في بغداد والزعماء الدينيين الشيعة – وحتى في تنظيم صفوفهم.

ينص الدستور العراقي على أن أي محافظة يمكنها أن تقدم عريضة إلى المفوضية العليا للانتخابات للسماح باستفتاء إذا استطاعت الحصول على دعم 2 بالمئة من جمهور الناخبين أو ثلث أعضاء المجلس التشريعي المحلي السبع والعشرين.

مع قيام معظم سياسيي البصرة بتلقي الأوامر من رؤسائهم في بغداد، فإن قادة الحملة قد غسلوا أيديهم من الأحزاب الرئيسية ونشروا فرقا من الناشطين الشباب منذ يناير لجمع التوقيعات المطلوبة – والتي في حالة البصرة تبلغ أكثر من 30 ألف بقليل من مجموع 1.8 مليون ناخب مؤهل بالمحافظة.

لكن مع بدء بغداد الانتباه للخطر الملوح، انهار التحالف الموسع الذي كان يدير الحملة وسط سلسلةٍ من الاتهامات المشينة والادعاءات المضادة. في 15 ابريل، اختلف الطائي مع زملائه، والذين يقولون إنهم كانوا ينوون الانتظار حتى يستطيعوا السيطرة على أغلبيةٍ مطلقة من الأصوات، وتقدم منفردا بطلبٍ لتنظيم استفتاء.

“كان لدينا اتفاق. لن يتقدم أحد بمفرده”، قال البدران بصوتٍ محتد عندما قابلناه بعد أيام من تقديم الطائي لطلبه. “قلنا إننا سننتظر حتى نعلم أن لدينا مليون صوتٍ تقريبا”.

لكن الطائي يدعي أن أقرانه كانوا بالكاد يسبحون في أماكنهم عندما كان الوقت مواتيا لدفع قضيتهم للأمام. “لقد اكتفوا بالوقوف فوق التل للمشاهدة”، قال الطائي. “إنها معركة بين الصواب والخطأ، لكن بعضهم لم يملك الشجاعة”.

الذي حدث بعد ذلك يعتمد على أي طرفٍ تصدق. رفضت بغداد بسرعة أوراق الطائي بسبب ما يقول الطائي إنها أسباب سياسية بحتة. لكن شريكه السابق يقول إن بغداد لم تكن تخادع حينما ذكرت عدة مخالفات في الطلب الذي تقدم به.

“لقد زيفوا الكثير من الأسماء للوصول إلى العدد المطلوب”، قال البدران أثناء تناول القهوة بفندق شيراتون البصرة القديم، حيث تتمركز وكالات الأمم المتحدة والقليل من البعثات الدبلوماسية. “بالطبع هناك الكثير من الدعم، لكنهم حددوا 15 ابريل كتاريخٍ للتقدم، ثم أدركوا أنهم لا يملكون ما يكفي قبل ذلك الموعد، فقاموا بالغش”.

لكن الأمر الأكثر إشكالا ربما هو نفوذ المؤسسة الدينية الشيعية، التي تملك سطوةً هائلة في المنطقة.

عارض آية الله العظمى علي السيستاني، أكبر سلطة شيعية في العراق، حتى الآن جميع المبادرات التي يخشى من أنها ربما تضعف العراق. سارع رجال الدين المحليين، الذين أفسح صمته المجال لهم، بشجب الحملة واصفين إياها بمشروع رفاهية تقوده المصالح.

“من هؤلاء الأشخاص الذين يريدون تأسيس إقليم؟”، سأل الشيخ أبو سمير المياحي، الذي يقود عمليات البصرة بمنظمة بدر القوية. “إنهم رجال الأعمال الذين يتحدثون عن مستقبلٍ جيد، لكنهم يريدون الحصول على فرصة خاصة لأنفسهم”.

وتابع “بالإضافة إلى ذلك، فإن جميع أموال العراق تأتي من البصرة. إذا أصبحنا إقليما، فإن هذا سوف ينهي قاعدة دعم العراق بالكامل”.

لم يرتدع أيا من البدران أو الطائي. يقول كلاهما إنهما تواصلا مع ممثلين للسيستاني وقابلا ردودا مشجعة.

“قيل لنا إن السيستاني ليس له رأي بعد حول إقليم البصرة، لكن إذا دعمه الناس، فإنه لن يقف في طريقه”، قال البدران.

ليس هناك الكثير من الشك في أن حملة البصرة تتمتع بدعمٍ شعبيٍ واسعٍ نسبيا هنا. لكن المحللين الذين يراقبون القتال من أجل الفيدرالية من بعيد يعتقدون أن فرصتها ضئيلة في النجاح الفوري.

“على المدى القصير، فإن حملة إقليم البصرة ليس لديها فرصة للنجاح تقريبا، والسبب الأساسي هو أن معظم السياسيين والجماعات منخرطون بشدة في مجال بغداد السياسي وسوف يرفضون دعم اي مبادرة تؤدي إلى إضعاف قبضة بغداد على البلاد أكثر”، يقول زيد العلي، الخبير المختص بالدساتير العربية بالمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية.

حتى الطائي، ربما أكثر المتفائلين من بين أعضاء الحملة، يبدو متقبلا لمعركةٍ ممتدة “إذا خسرنا، فإنها سوف تكون أول ضربة في وجه الكتل السياسية التي خرَّبت البلاد”، يقول الطائي.

لكن على المدى البعيد يتخيل العلي أن الدعوات من أجل حكمٍ ذاتيٍ اكبر سوف تصبح فقط أكثر قوة إذا لم تستطع الحكومة العراقية جمع شتات نفسها.

“إن نزعة القومية والولاء لبغداد هي بالفعل أضعف مما كانت عليه في عام 2003، وسوف تستمر في التآكل ما لم تبدأ بغداد في تنظيف شوارع البصرة وخلق نوع البيئة الذي يسمح للبصراويين بالازدهار”، قال العلي.

بالفعل، يبدو زخم الفيدرالية يتصاعد في أنحاء البلاد. وجد استطلاع رأي أجري مؤخرا أن نسبة المواطنين الذين يعرفون أنفسهم على انهم “عراقيون قبل كل شيء” قد انخفضت من 80 بالمئة إلى 40 بالمئة بين عامي 2008 و2014. في نفس الوقت، نجح الفيدراليون في كربلاء، وهي محافظة جنوبية أخرى، في استقطاب عددٍ من السياسيين المحليين – 5 من بين 27 في مجلسهم التشريعي حتى الآن – عبر اقتراح أن تحولا عن بغداد قد يكون الطريق الوحيد للمحافظة على وحدة البلاد.

وحيث يبدو أن الأكراد يقتربون أكثر من الاستقلال، كانت أحزابهم السياسية سعيدة للغاية بإعطاء النصح لفيدراليي البصرة والفيدراليين المحليين الآخرين. ظل الطائي على اتصال بحركة كوران التابعة لحكومة إقليم كردستان، والتي عرضت المساعدة في بناء مؤسسات البصرة. ايضا صرح مسؤولٌ كرديٌ سابق بحكومة الإقليم، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، أن دائرة العلاقات الخارجية التي يتبع لها قامت ايضا بالتواصل مع حملة البصرة.

لكن بالنسبة لهؤلاء في شوارع البصرة الذين ما زالوا يكافحون لتغطية نفقاتهم، فإن هذه التفاصيل هامشية. هم عراقيون فخورون تعبوا فقط من الفساد والفوضى وعدم الكفاءة الذين لا ينتهون. الفيدرالية، يقولون، توفر على الأقل فرصة للتغيير.

“مع هذه الحكومة، ليس هناك أمل”، قال عباسي، مالك متجر الأدوات. “لكن مع الشعب العراقي، دائما هناك أمل”.

المصدر

*ترجمة فريق موقع راقب