مع اختلاف الأسباب والدوافع وراء قيام ثورات وانتفاضات الربيع العربي؛ إلا أن ما يميز تلك الثورات أنها حدثت نتيجة نشوء وعي في الشعوب العربية بضرورة التغيير الأمر الذي دفع الملايين للنزول للميادين، والتظاهر.

هذا كله ليس فقط من أجل حياة اقتصادية وسياسية أفضل؛ بل قد نرى أن النقاشات في مرحلة ما بعد قيام الثورات تنادي بالتغيير بكل أبعاده السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والشخصية على مستوى الأفراد.

وكما نشأ عند الشعوب وعي بضرورة التغيير، فإن الأنظمة العربية التي قامت الثورات لتغييرها؛ نشأ لديها وعي وحاجة ومصلحة ملحة من أجل مواجهة تلك الثورات بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، حتى لا تتهدد مصالحها الحيوية والتي ظلت تحافظ عليها طيلة عقود، فلن تسمح أن تقوم الثورات والانتفاضات بهدم تلك المصالح.


ردود أفعال الأنظمة العربية تجاه الثورات

تراوحت ردود أفعال الأنظمة باختلاف الظروف، العقليات، والأشخاص كالآتي:-

أولا: لحظة قيام الثورات

يعرف «عزمي بشارة» الثورة بأنها «هي تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة». شرط في الثورة أن تكون لها نهاية محتومة غير ذلك تسمى انتفاضة.

تعددت ردود الأفعال تجاه الثورات بدءًا من محاولات الاحتواء حتى يتم تدارك الأزمة وحلها دون الدخول في سلسلة من العنف لا حصر لها، إلى رد الفعل العنيف الذي اقتضى المواجهة مع الثوار. وقد نتج عن ذلك حالة من عدم الاستقرار السياسي والمجتمعي والاقتصادي، بل وفي بعض دول الربيع العربي ظلت الأحداث العنيفة هي عنوان تلك الدول مثل سوريا، اليمن، وليبيا.

إستراتيجية الاحتواء

إن تغيير وضع قائم لفترة عقود من الزمان بني عليه شبكات من المصالح الاقتصادية والسياسية، وارتباطات بالخارج الاستعماري. كل ذلك لا يمكن اقتلاعه بمجرد النزول للشارع من أجل التظاهر لمدة معينة -(18 يومًا) في الحالة المصرية كمثال- فكان على الأنظمة السياسية في هذه البلدان، أن تلتف حول هذه الثورات من أجل الخروج من الأزمة بأقل خسائر ممكن.

فنرى أن في الحالتين المصرية والتونسية؛ أن النظام السياسي قام باحتواء الأزمة. ففي تونس كان رد «بن علي» السريع للغاية «لقد فهمتكم» والتي ترجمت بعد ذلك بتنحيه وهروبه إلى السعودية، وأنه لم يعد مقبولًا في الحكم بعد ذلك.

أما في الحالة المصرية؛ فإن القوات المسلحة قد ادعت انحيازها للشعب في 25 يناير/ كانون الثاني ضد «مبارك» ومن حوله من الفاسدين، وقامت بالضغط عليه حتى قبل أن يتنحى تاركًا السلطة في يد المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية، لادارة المرحلة الانتقالية.

ففي الحالتين بات واضحًا أن التغيير الذي حدث؛ هو تغيير رؤوس الأنظمة السياسية، مما قام باحتواء غضب الشباب الثائرين وتخفيف حدة نبرة الانتفاضات والتظاهرات في الميادين، إلا أن تغيير رؤوس الأنظمة لا يعني أن الأنظمة السياسية بعمقها قد تغيرت تمامًا.

فلقد كان على الثوار والشباب العربي أن يعوا أن أنظمتهم لن تتنازل بمنتهى السهولة عن مصلحتها الاستراتيجية في إدارة شؤون البلاد، لما في ذلك من استمرار لوضع سياسي واقتصادي متميز بالنسبة للطبقة الحاكمة.

إستراتيجية المواجهة المسلحة

من جانب آخر شهدت الحالة السورية واليمنية والليبية؛ استراتيجيات للأنظمة في بداية لحظة اشعال الثورة كان هدفها الأساسي هو وأد الثورات العربية؛ بل والقضاء عليها وافناءها بالقوة. الأمر الذي نتج عنه حالات العنف المتزايدة من اليوم الأول للثورات في تلك الدول، ناهيك عن زيادة تداول الأسلحة في يد أفراد الدولة المدنيين.

فضلًا عن تحول الأزمات بشكل واضح وجلي وخاصة بعد رحيل رؤوس الأنظمة في اليمن وليبيا، (حيث قتل رأس النظام)؛ إلى صراع طائفي بامتياز تديره كلا من المصالح العربية، والغربية إلى حدٍ كبير.

فلقد لجأت تلك الدول إلى تبني الحل الأمني كحل وحيد من أجل القضاء على تلك الثورات من مهدها، وفي التعامل معها كما سيذكر في هذا التقرير في المراحل الانتقالية. إن من الملاحظ أن الأنظمة التي حدثت بها الثورات مع اختلاف ردود افعال أنظمتها السياسية لهذه الثورات، إلا أنها جميعها نظم جمهورية.

فما بال الأنظمة الملكية في المنطقة؟

إن الأنظمة الملكية في المنطقة لديها أيضًا ما تعانيه من أوجه الفساد والظلم الذي تعاني منه شعوبها، وترغب في تغييره؛ إلا أن النظم الملكية العربية تستند على أنواع من الشرعية، جعلتها تحتوي قيام ثورات بالمعنى الذي واجهته الأنظمة الأخرى.

فالأنظمة الملكية العربية تمتلك أشكالًا متعددة للشرعية. منهم من يمتلك الشرعية الدينية (المملكة العربية السعودية)، وهناك شرعية عائلية (سلطنة عمان)، وهناك شرعية تراكم انجازات (المملكة الأردنية الهاشمية).

كان ذلك مثبطًا لأي محاولة للانتفاض في وجه تلك الأنظمة. وهناك وجهة نظر تقول أن الأنظمة الملكية أقل دموية من الأنظمة الجمهورية؛ إلا أن ذلك تاريخيًا ليس دقيق خاصة في مرحلة صراع الامبراطوريات قبل تكوين الدول القومية الحديثة، والتي كانت أغلب النظم السياسية في الحكم آنذاك ملكية.


ثانيا: مرحلة إدارة المراحل الانتقالية وما بعدها

بداية يمكن الادعاء بأن النظرة العامة للأنظمة العربية تجاه ثورات الربيع العربي؛ كانت نظرة ريبة وشك، واستهجان على أحسن تقدير؛ فضلًا عما تحول بعد ذلك إلى استعداء، ومحاولة لاقصاء الآخر «الثوار».

هناك عدة أدوات استخدمتها الأنظمة العربية لاجهاض ولتغيير هذا الربيع العربي، إلى شئ آخر أطلق عليه البعض «الخريف العربي»، أو «ربيع الأنظمة» وليس الشعوب، وتراوحت تلك الأدوات ما بين: الإعلام، الاقتصاد، الأمن.

الإعلام: من شباب الثورة إلى الحرب على الإرهاب

أما الإعلام فلقد قامت الأنظمة العربية -المصرية مثلًا- باستخدام الإعلام في تغيير صور ذهنية عن شباب الثورة، وعن الربيع العربي ككل وترسيخ تلك الصور. فلقد حولت نطاق الحديث عن الربيع العربي بدلًا من النظرة الاقليمية إلى النظرة الوطنية فحسب.

ثم جاءت مرحلة (شيطنة) شباب الثورة، والتي من خلالها تم الحديث عن قيام هؤلاء الشباب بالتدريب على قلب أنظمة الحكم، وأن الموضوع لا يتعدى أن يكون مجرد «مؤامرة» من الخارج. ثم التأكيد على انقضاض فصيل بعينه على الثورة ومكتسابتها -الإخوان- الأمر الذي أخفى دور شباب الثورة في مرحلة الثورة نفسها، وما بعدها.

ثم جاءت مرحلة الترويع من فصيل سياسي بعينه، واستدعاء شرعية الشعب لمواجهة الخطر الذي أصبح ضمنًا يمثل «الثورة ذاتها» في أذهان وعقول المجتمع العربي. ولقد تم تصوير الإسلام السياسي على أنه الخطر الذي لابد على المجتمع من الاصطفاف مع الدولة لمواجهته.

لقد قامت الدولة بحشد الآراء والفتاوي الشرعية لخدمة ذلك الهدف، وأن الثورات والحريات كانت كارثة كبرى نشرت الفوضى والإرهاب. ومن ثم تحوّل الخطاب إلى الحرب على الإرهاب.

الاقتصاد

إن بنية الأنظمة العربية من الناحية الاقتصادية تتسم بالهشاشة والضعف، حتى وإن باتت قوتها وتأثيرها واضحين. فالدول العربية قل ما يوجد بها طبقة برجوازية حقيقية تعبّر عن المصلحة العامة في الحفاظ، والإبقاء على نظام اقتصادي قوي.

وقل ما توجد عملية الفصل بين من يمتلك رأس المال، ومن يمتلك أدوات الحكم والإكراه. ففي الحالة المصرية مثلًا، نجد أن القوات المسلحة التي تمتلك أدوات الإكراه والحكم، هي نفسها تمتلك حوالي 40% من الاقتصاد المصري من خلال الشركات الخاصة بها.

فضلًا عن علاقاتها الوطيدة بعدد من رجال الأعمال، الأمر الذي يؤكد على امتلاك القوات المسلحة لرأس المال، مما يستتبع قدرتها على توجيه عجلة الاقتصاد، وارتباطها بالعملية السياسية في الوجهة التي تراها صحيحة -بمعنى آخر تحافظ على هذه البنية من التغيير- مقارنة بأي محاولات أخرى للتغيير.

أيضًا من أهم ملامح البنية الاقتصادية للدول الخمسة التي قامت فيها ثورات الربيع العربية، هي العلاقة الطردية بين النمو الاقتصادي والفساد، وهو ما عمق الفجوة بين القلة الثرية التي تزداد ثراء، وبين الأكثرية الفقيرة التي تزداد فقرًا، والتي تتزايد معاناتها بسبب الفساد؛ الذي بدوره يؤثر على عدالة توزيع الثروة.

من ناحية أخرى إنّ بنية الاقتصاد العربي، قد دعمت وبشدة الثورات المضادة «عودة الأنظمة السياسية السابقة» من خلال المساعدات المالية كما حدث في حالة مصر بعد 30 يونيو/ حزيران من خلال المساعدات السعودية والاماراتية للنظام المصري.

فبذلك تعتبر بنية رأس المال العربي غير مؤهلة لاستيعاب أي نوع من أنواع التغيير الاجتماعي أو السياسي والاقتصادي بالتبعية في المنطقة، خاصة في الدول المحورية التي تشكل عنصرًا فعالًا بالنسبة للمصالح العربية المختلفة مثل مصر واليمن.

الأمن

منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي فيها حصلت العديد من الدول العربية والأفريقية استقلالها من ربقة الاستعمار العسكري، إلا أنها شهدت صعود أنظمة ذات خلفيات عسكرية إلى حد كبير، تلك التي تميزت بالضرورة بأن يكون رأس النظام فيها ذو رتبة عسكرية «أي ما كان درجة تلك الرتبة».

وهذا استتبع أن كثيرًا من الحلول التي تم استخدامها للخروج من الأزمات، خاصة السياسية منها، كانت حلول ذات طابع أمني في أغلبها. فضلًا عن التصور الخاص بأن الدولة هي التي تحتكر حق استخدام العنف. ولقد بات ذلك واضحًا في تقنين أفعال الدولة الاستثنائية في الحالة المصرية، والسورية.

وقد نرى ذلك جليًا الآن في دول الربيع العربي. فلقد تراوحت حدة استخدام الوسائل الأمنية من حالات اعتقالات سياسية، واخفاء قسري، وفض اعتصامات، ومظاهرات بالقوة (الحالة المصرية)، إلى قصف مدن بأكملها كما في الحالتين سوريا حتى الآن، وليبيا في بداية الثورة.

بعد ذلك تطور الأمر إلى حالات العنف الطائفي، مثل ما نرى الآن في اليمن حيث تم استغلال الخلاف الطائفي بين السنة والشيعة في تغيير وجهة الربيع العربي، من خلال استخدام القوة المفرطة أيضًا.

نستخلص من هذا المشهد الأمني -بالدرجة الأولى- أن الهدف هو تغيير مجرى الربيع العربي من مواجهة مع الأنظمة السياسية ذاتها، ورفع الظلم والاستبداد والقهر، وتحسين الحالة المعيشية للفرد؛ إلى حالة تصفية حسابات سياسية وطائفية.

زاد ذلك من حدة الصراع الذي حوّل الربيع العربي إلى حالة من التوتر العام في المنطقة، وأتاح الفرصة لبروز واضح ومؤثر للجماعات الجهادية المسلحة مثل تنظيم الدولة الإسلامية «داعش». وتقوم الأنظمة في هذه المرحلة باستخدام بروز تلك الجماعات في توجيه شعوبها «الطائعين» أو «من لديه شك» في أن الربيع العربي ما كان سوى محاولة لسيطرة فصيل معين «الإسلام السياسي»، وان بروز الجماعات المسلحة هو نتيجة ومحاولة أخرى لتحقيق ذلك الهدف.

ركائز دعمت هذا التعامل

هناك ركائز متعددة ساعدت الأنظمة العربية في تعاملها مع الانتفاضات العربية بالطريقة المذكورة وهي:

1. ديناميكية العلاقات التي تجمع بين الأنظمة السياسية العربية وبعضها البعض. وقد تجلى ذلك في تدعيم النظامين السعودي والامارتي ما حدث في 3 يوليو/ تموز عام 2013 والأحداث التي تلتها؛ بل وتدعيمهم للخطاب المتعلق بأن 30 يونيو/ حزيران في مصر هي استكمال لما حدث في 25 يناير/ كانون الثاني التي كانوا يقفون منها موقف العداء!.

2. التحالف والتدخل من أجل حماية الأنظمة الحاكمة؛ مثل تدخل النظام السعودي في البحرين لحماية النظام السني.

3.الأساس الأيديولوجي للقمع كأداة من أدوات الأنظمة العربية، التي تعاملت بها مع الانتفاضات العربية، من خلال خطابات حماية الأمن القومي، ومحاربة التطرف الإسلامي؛ بما في ذلك الإسلام السياسي.

4. النظرة الدونية الطبقية الموجودة داخل المجتمعات العربية، ساهمت في تجذر الاستبداد داخل هياكل المجتمعات العربية الأمر الذي دعم هذه السياسات.

5. تركيز الغرب على سردية الصراع بين الاستبداد والاسلاميين معضد بتصوّر الغرب للإسلام السياسي، وربطه بمصطلح الإرهاب من الناحية السياسية والعسكرية العملياتية.


خاتمة

لابد من التفرقة بين رصد الأخطاء وصناعة الأكاذيب، أو التدليس حيث قد تكون الانتفاضات العربية الأولى التي خرج بها الشباب العربي؛ قد أخطأت في تحديد وجهتها، أو في الوسائل المستخدمة بعد ذلك في الوصول إلى ما كانت ترنو إليه من أهداف وأحلام.

ولا يتم تصحيح الأخطاء من خلال عملية «تصنيع الموافقة» كما ذكر «نعوم تشومسكي» في كتابه «أنظمة القوة». الأمر الذي استدعى التنكيل بالمعارضين السياسيين والحقوقيين في عدة أقطار عربية، بحجة الحرب على الإرهاب حتى إن لم يكونوا من الفصيل السياسي في الصراع؛ «الإخوان المسلمين في الحالة المصرية».

وهناك فرق أيضًا بين إعلان الحقيقة لإصلاح ما فسد، وبين مخاصمة الحقيقة لهدم ما هو قائم. وفي هذا تدليس أيضًا بمعنى تزييف الإدراك، وتشكيله على النحو الذي تتوخاه أبواق الأنظمة السياسية، وليس انطلاقا من اقتناع حقيق يشكله وعي المتلقي من المجتمع.

نهاية القول؛ هناك حالة من التخبط وعدم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وزائف؛ بسبب تعمد الأنظمة السياسية العربية في التعامل مع الانتفاضات العربية، وثورات الربيع العربي بنفس عقلية التآمر والحلول الأمنية فقط دون النظر إلى الأبعاد النفسية والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية لهذا التحول الطارئ على المجتمع العربي، لاسيما فئة الشباب.

فهل إلى خروج من سبيل؟!