مخاوف خليجية

طالب الخليجيون كثيراً بأن يتم تضمينهم في مفاوضات حل الأزمة النووية الإيرانية ليكون لديهم الفرصة لعرض وفرض مطالبهم والحصول على الضمانات اللازمة، لكن بالرغم من ذلك لم يتم الاستجابة لهم. والذي يثير المخاوف الخليجية أكثر من ذلك هي حالة عدم الاقتناع التي يبديها الرئيس الأمريكي أوباما تجاه الخطر الإيراني على الخليجيين والتهوين منه من خلال ترديد مقولات أن الخطر الحقيقي على الخليجيين ربما لا ينبع من إيران وإنما من الداخل الخليجي.

باراك أوباما
باراك أوباما

وبعيداً عن قناعات أوباما، فإن هناك عدة مخاوف جوهرية يخشى الخليجيون أن تنتج عن الاتفاق النووي، جُلّها يتعلق بالآثار الإقليمية التي يُتوقع أن تظهر، والقليل منها ينصب على الاتفاق ذاته.

مخاوف إقليمية

أول هذه المشكلات تتعلق باحتمالات استمرار إيران في اتباع سياسات توسعية في المنطقة بعد إتمام الاتفاق، وقد أعلى من أسهم هذا الاحتمال تزامن تصاعد أحداث الأزمة اليمنية والدور الإيراني الكبير فيها مع المراحل الدقيقة من المفاوضات، وهو ما يؤشر إلى أن الاتفاق لن يلعب دوراً مساهماً في كبح رغبات إيران في توسيع نفوذها في المنطقة، خصوصاً من خلال دعم الجماعات الشيعية في الدول الأخرى كما حدث مع الحوثيين في اليمن.

وبدلاً من العمل على الحد من رغبات إيران التوسعية، يبدو أن الاتفاق سيعمل على الدفع بالاتجاه المعاكس، أي باتجاه تعزيز تلك الرغبات، وبالأخص مع الإفراج المُنتظر عن الأموال الإيرانية المُجمّدة في الخارج بفعل العقوبات. وتخشى دول الخليج كثيراً من أن يتم استخدام هذه الأموال، التي تُقدّر بنحو 100-140 مليار دولار، في دعم محاولات الهيمنة الإيرانية في المنطقة، وهي محقة في ذلك.

وقد جاء موقف المملكة السعودية واضحاً في هذا الشأن من خلال دعوة إيران لاستغلال مواردها في خدمة التنمية الداخلية وتحسين الوضع الداخلي بدل استخدامها في إثارة القلاقل في المنطقة. فإذا كان بمقدور إيران أن تحافظ على قدراتها السياسية ونفوذها في المنطقة، بل وتعزيز هذا النفوذ وتضمين مناطق أخرى جديدة لم تكن تقليدياً خاضعة للنفوذ الإيراني مثل اليمن، بالرغم من كل العقوبات التي فُرِضت عليها والآثار الاقتصادية والاجتماعية العميقة التي نتجت عن تلك العقوبات، فبعد كل ذلك ألا تستطيع إيران مع الإفراج عن أموالها، ورفع العقوبات، وكذلك خفض الضغوطات الأمريكية الأوروبية عليها، أن تعزز سياساتها التوسعية؟

وتتضاعف هذه التخوّفات مع استمرار ظهور المؤشرات على تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، وهو الحليف الإستراتيجي الأول والضامن الأساسي لأمن الخليج، منذ تولي أوباما رئاسة الولايات المتحدة وسحبه للقوات الأمريكية من العراق في نهاية 2011 وترك الميدان فارغاً لإيران لبسط نفوذها بشكل تام على البلاد، ثم بعد ذلك إعلان إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في 2012 التي تضمنت التركيز على التوجه الآسيوي.

ضِف إلى ذلك عدم رغبة الولايات المتحدة في مواجهة داعش على الأرض بشكل مباشر والاكتفاء بتوجيه ضربات جوية ودعم لجيش دولة مزّقتها الطائفية، العراق، ومليشيات شيعية مدعومة بشكل جَليّ من إيران ومُتهمة بارتكاب جرائم بحق العراقيين السُنّة، في الوقت الذي خرجت التقارير المختلفة لتؤكد على الحضور العسكري الإيراني في العراق بحجة حماية العتبات المقدسة ومحاربة الإرهاب تحت أنظار الولايات المتحدة. كل هذا أدّى إلى تعزيز نفوذ إيران بشكل صارخ في مواجهة الخليجيين الذين ظهرت لديهم مخاوف إضافية من أن يتم اعتبار إيران فاعلاً أساسياً في مواجهة الإرهاب.

ويتمثل ثاني هذه المخاوف الرئيسية في قلق الخليجيين من غض الأمريكيين الطرف عن هذا التوسع الإيراني في المنطقة على شاكلة ما حدث في العراق بعد 2003، وهو ما ظهر جليّاً في الموقف الأمريكي من الأزمة في سوريا والذي تحول بشكل كبير من معارضة تامة لبقاء النظام السوري وصلت إلى حد إمكانية توجية ضربة عسكرية للنظام في 2013، إلى خطابات أقل حدة في التعامل مع النظام وأكثر اقتناعاً بتحول سياسي قد يُبقي على جزء من نظام الأسد دون الأسد ذاته.

وكذلك الأزمة في اليمن والتي ظل الموقف الأمريكي منها ضعيفاً، بالرغم من تصاعد الأحداث قبل عاصفة الحزم بشكل كبير، ولم يتخط بعض التنديدات المُعتادة ودعوة إيران للضغط على حلفائها الحوثيين، وحتى بعد عاصفة الحزم لم تشارك الولايات المتحدة في العمليات واكتفى أوباما بالتعهد بتوفير الدعم الإستخباراتي واللوجيستي للعمليات فقط.

الحوثيين
الحوثيين

الداخل الخليجي وإيران .. إمكانية ظهور بحرين جديدة

وإن كانت المخاوف السابقة تتعلق بمخاوف خليجية من دور إيراني في جوارهم، فإن هذا لا يعني أن الداخل الخليجي آمن، بل على العكس هناك خشية خليجية من قيام إيران، بعد الاتفاق النووي، بالإلتفات إلى الداخل الخليجي ومحاولة التأثير على الأقليات الشيعية الكبيرة، كما في الكويت والسعودية والبحرين، في بلدانه على غِرار ما حدث في الأزمة البحرينية في 2011 حينما استغلت إيران الوضع بشكل واضح من أجل انتقاد الخليجيين ومحاولة استثارة الشيعة البحرينيين وإظهار حراكهم على أنه امتداد للثورة الإسلامية، قبل أن تتدخل قوات درع الجزيرة الخليجية وتسيطر على الوضع.

الاحتجاجات البحرينية 2011
الاحتجاجات البحرينية 2011

ويبدو أن مثل هذا الأمر مواتياً الآن في الوقت الذي تشهد فيه الساحة شحناً طائفياً كبيراً واستحضار غير مسبوق للعامل المذهبي بامتداد المنطقة وكافة أزماتها بدءاً من لبنان وسوريا مروراً بالعراق وحتى اليمن. وذلك تزامناً مع عودة التفجيرات الإرهابية إلى الداخل الخليجي مرة أخرى، ولكنه هذه المرة جاء متشحاً بالوشاح الذي يغلّف المنطقة، الطائفية، حيث جاءت التفجيرات موجهة إلى مساجد الطائفة الشيعية فقط كما حدث في استهداف مساجد الشيعة في السعودية والكويت. هذا إلى جانب أن الأزمة البحرينية أساساً لم تنته بشكل نهائي ولا زالت حلقاتها مستمرة بين السلطة والمعارضة الشيعية والتي كان آخرها احكاماً بالسجن على قادة في المعارضة، ولاتزال معرّضة في أي وقت وقت للإنفجار من جديد.

كل هذه الأوضاع الداخلية الخليجية تجعل إمكانية التدخل الإيراني في أي وقت خياراً حاضراً وبقوة في حال حدوث أي شئ صغيراً كان أو كبيراً، ولا أدل على ذلك من التنديدات المستمرة بالأحكام في البحرين. وما يبدو ملفتاً في الأمر أن إيران لم تعد وحدها تشجب وتدين، بل وأصبح حلفائها كذلك يعتبرون أنفسهم مدعوين لإعلان مثل تلك التصريحات، كتلك التصريحات المتعلقة بانتقاد أحكام البحرين والتي أطلقتها العراق وكذلك حزب الله اللبناني.

فرصة التقاط الأنفاس

المخاوف السابقة، كما هو واضح، انصبّت بشكل رئيس على الوضع الإقليمي الذي يمكن أن يُنتجه الاتفاق، لكن هناك أيضاً تخوف خليجي واضح ينصب على الاتفاق ذاته يتمثل في الخشية من أن يكون الاتفاق مجرد محاولة من إيران للحصول على فرصة لإعادة شحن قدراتها التي أنهكتها العقوبات. يكون ذلك من خلال الاستفادة من عوائد رفع العقوبات والفرص الإستثمارية التي يمكن أن تنهمر على إيران خلال فترة الاتفاق، وكذلك تطوير قدرات الجيش مع رفع قيود التسليح المفروضة على إيران، حتى وإن نص الاتفاق على استمرار عقوبات التسليح لخمس سنوات أخرى.

وقد جاءت أولى نتائجها من خلال موافقة الرئيس الروسي بعد الاتفاق الإطاري في أبريل الماضي على إعطاء إيران صفقة صواريخ إس 300 شديدة التطور والتي كانت قد توقفت بسبب العقوبات. ثم بعد انتهاء مدة الاتفاق تكون العودة إلى تطوير برنامجها من جديد.

مخاوف اقتصادية

صواريخ اس 300
صواريخ اس 300

وفي الوقت الذي تمثل فيه المخاوف السياسية الشغل الشاغل والأولوية الكبرى للخليجيين، يلعب العامل الاقتصادي دوراً، ربما أقل تأثيراً، ولكنه مهماً في تعزيز مخاوف الخليجيين.

يخشى الخليجيون من إمكانية بروز إيران كقوى اقتصادية كبرى بعد إتمام الاتفاق، من خلال الاعتماد بشكل أساسي على الأموال المُتوقع أن يتم الإفراج عنها بعد الاتفاق، هذا فضلاً عن الفرص الإستثمارية الكبيرة التي تمتلكها إيران، خصوصاً في مجال الطاقة، والتي تجعل هذا المجال جذاباً بدرجة كبيرة للمستثمرين.

النفط الإيراني
النفط الإيراني

ولذا يمكن للاقتصاد الإيراني تهديد أو مزاحمة الأسواق الخليجية المجاورة في الفرص الإستثمارية الخارجية، خصوصاً إذا استمر الصراع مع إيران على نفس وتيرته، والتي لن تؤثر على إيران بنفس الدرجة التي ستؤثر بها على الخليجيين؛ ذلك أن إيران قد نقلت، ومنذ فترة طويلة، ميدان الصراع إلى قلب الجزيرة العربية ومحيطها بعيداً عن الحدود الإيرانية.

وكذلك تمثل عودة إيران إلى أسواق الطاقة العالمية إقتطاعاً من نصيب الخليجيين، بالأخص السعودية، التي تولت بشكل كبير مهمة تعويض الأسواق بحصة إيران أثناء العقوبات، وهو ما يمثل خبراً سيئاً لها في ظل الأسعار المنخفضة أساساً للبترول في هذه الفترة. والجدير بالذكر في هذا الإطار أن الاوضاع الاقتصادية للمملكة في تدهور منذ فترة، ليس فقط بسبب انخفاض أسعار البترول ولكن أيضاً بسبب تزايد الإنفاق السعودي بشكل كبير منذ تولي الملك سلمان سواء على العطايا المختلفة أو الحرب في اليمن، وهو ما قد يؤدي بالمملكة إلى اللجوء للإقتراض لأول مرة منذ فترة طويلة.

في الجزء الثاني من التقرير نستعرض كيف سيواجه الخليجيون هذه المخاوف.