في المقابل تمتلك جنوب أفريقيا خلفية عرقية من أعقد وأشد العرقيات في العالم. فالمجتمع كله متشرح ومتشعب لعرقيات صغيرة لا تكاد تهدأ ثائرتها حتى تعود من جديد ولم تخمد نارها بعد. لذا تصدرت جنوب أفريقيا الدول التي تعاني من الخوف من الأجانب Xenophobia وأصبحت سلسلة ثورات الخوف من الأجانب من أكثر القلاقل التي تضرب البلاد سياسيا واقتصاديا وتطيح بملف الاستقرار في البلاد حتى ترضخ الحكومة للمطالب الجماهيرية العريضة وتعيد توجيه البوصلة في إطار مستجدات الوضع الاجتماعي الديموغرافي.

عرقيات جنوب أفريقيا

منذ اكتشاف رأس الرجاء الصالح، تسارعت أمم عديدة للارتحال لجنوب أفريقيا واستيطانها لما وجدوه فيها من عوامل جذب لا تحصي. دخلها الهولنديون من الجنوب حيث كيب تاون فسيطروا عليها من جنوبها، ثم دخلها الإنجليز من شرقها وشمالها فاحتدمت بينهما الحرب لسنوات كل يريد أن يوسع حيازته الاستعمارية ونطاق سيطرته الإقليمية. تشكل العرق الأول في جنوب أفريقيا من مزيج من الهولنديين والإنجليز وهو المعروف بالعرق الأبيض، والذي شكل نسبة عالية من السكان بلغت 22% عام 1911 ثم انحدرت لتصل إلى أقل معدلاتها عام 2011 لتصل إلى 9.1%.

ثم العرق الثاني المؤثر في مجريات كل الأحداث المشكِّل لعصب الدولة وكيانها، العرق الأسود. في الحقيقة يتكون العرق الأسود من عرقيات داخلية متداخلة تتصنف إلى تسعة أعراق، ينفرد كل عرق فيها بلغته وشكله ومزاجه وإقليمه وخلفيته الثقافية المؤثرة في كيان الدولة بلا ريب. بلغ عددهم حسب إحصاء 1998 ليصل إلى 75.2% ثم تزايد ليصل 76.4% حسب إحصاء 2011.

ثم العرق الثالث الذي يملك اعتبارا اقتصاديا أكثر من غيره رغم ضآلاته في الإحصاء، العرق الآسيوي. تشكل هذا العرق مع قدوم المستعمرين في القرن السادس عشر ليشكلوا كتلةً جديدةً في السكان، تنفرد بشكلها ولغتها ودياناتها وثقافتها التي حملتها معها من شبه الجزيرة الهندية. يشمل العرق الهنود القادمين من شمال وجنوب الهند وكذا الأندونيسيين والماليزيين والصينيين القادمين إلى كيب تاون في وقت مبكر في منتصف القرن السابع عشر. ولم يتجاوز عددهم إلى الآن 2.5% حسب آخر إحصاء للسكان عام 2011.

ثم العرق الرابع المتشكل من تمازج العرق الأول والثالث، الأبيض والآسيوي، المسمي بالملوّنين. ولا يملك هذا العرق زخما اقتصاديا أو سياسياً أو حظوةً اجتماعيةً كما هو حال الأعراق المتقدمة، بيد أنه لم يثبت تميزه بينهم. لكن لم تتجاوز نسبته إلى الآن حسب آخر إحصاء 9%.

في وجود هذه الأعراق، يصعب بلا شك الجمع بينهم في إطار دولة ديمقراطية مستقلة لا يطغى فيها عرق على عرق ولا يستعلي فيها جنس على جنس، وخاصة مع الأخذ في الاعتبار تماسك كل عرق وانكفاؤه على نفسه لفترة طويلة. إلا أنه قد يسهل على ذوي السلطة والجاه فصل هذه العرقيات وتنحيتها واستعبادها ووضعها في بوتقة واحدة تجمعها المعاناة ولا تفرقها المنزلة.

تاريخ جديد

رزحت جنوب أفريقيا قرابة الخمسة وأربعين عاما تعاني من تفرقة عنصرية قادتها حكومة البيض لتنحي الأعراق الأخرى وتستعبدها وتستبد بالقرار الوطني دون منازع.

سنت حكومة الفصل العنصري في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين قوانين جائرة فصلت بموجبها أعراق جنوب أفريقيا فصلا هو الأميز في التاريخ البربري العنصري. فرضت هذه القوانين بالقوة وحاربت كل من وقف أمامها معارضا ولو بالقول. لكن استمر النضال مع تشكل المجلس الأفريقي القومي ANC حتى كُتب التاريخ الجديد الذي أشرقت عليه البلاد بالقضاء على العنصرية وحكومتها بعد استقالة آخر رئيس للبيض، دي كلارك، عام 1994.

نشأة الجالية وتشكلها

وقف الأب الأشهر في جنوب أفريقيا، ديسموند توتو، عام 1994 بعد سقوط حكومة الفصل العنصري ونجاح المجلس الأفريقي القومي ليعلن أمام الحشد الهائل أن مجتمع جنوب أفريقي هو “مجتمع ألوان طيف” “Rainbow Society” ليفتح الباب أمام تعددية دينية لا حد لها. لم تقف الجالية الإسلامية مكتوفة الأيدي أمام هذا السباق المحتدم بل سارعت بخطة جديدة لتمتلك مقعدها الاجتماعي والسياسي الذي دفع طبقات عديدة للتعرف على الإسلام واقتناعها به ومن ثم زيادة الزخم الاجتماعي حول المسلمين كأداة دينية اجتماعية مناسبة للحراك.

تدفقت أعداد كبيرة من المهاجرين قسرا والمسجونين ظلما إلى كيب تاون قادمين من أندونيسيا ودول شرق آسيا ليكوّنوا مجتمعا جديدا في جنوب أفريقيا في الجنوب منه. قدم الأمير عبد الله قاضي عبد السلام ضمن هذا الفوج عام 1760 حسب الإحصاءات وتم سجنه لمدة ما في سجن روبن آيلند ثم خرج فكوّن نواة للمسلمين باشرها بعده شيخ يوسف الذي أقام أول تجمع للجالية الإسلامية في كيب تاون في زاندفلايت المعروفة باسم ماكاسر.

تنامت الجالية في كيب تاون وقد تشكلت من أعداد المسجونين والمهجّرين قسرا ليتبعها تنامٍ جديدٌ في الشرق مع قدوم العمالة الهندية للعمل في إقليم ناتال في حقول السكر والمناجم في القرن الثامن عشر.

ثم تنامي العدد في مرحلته الثالثة بعد تولي المجلس الأفريقي القومي ANC زمام البلاد ليقود تدفقا لا تزال قناته مفتوحة إلى الآن بين الهند وجنوب أفريقيا، قدر العدد في ذلك الحين بعشرات الآلاف.

تمتاز الجالية الإسلامية في جنوب أفريقيا بتماسك وتمسك ديني كان من أهم الأسباب وراء بقائها حية في أوقات محن عظيمة ضربت البلاد في الثلاثة قرون الأخيرة التي شكلت المجتمع وآلياته. جاؤوا قادمين من بلادهم كرها وقسرا فكان هذا من أهم الدوافع النفسية لعدم ذوبانهم في المجتمع وإحداث طفرة في الدعوة وجذب أهل البلاد الأصليين للإسلام بسماحة ويسر.

الجالية إبان حكومة العنصرية

لم تستثنِ الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا فصيلا دينيا أو عرقا من أعراق جنوب أفريقيا من إجراءاتها القمعية القسرية العنصرية. فتم فصل المسلمين جغرافيا وتعليميا واقتصاديا، فاستفاد المسلمون من فترة الفصل هذه فعكفوا على تنمية ذواتهم التعليمية الدينية؛ فأقاموا مدارس داخلية للتعليم الديني ما زالت منارة كل قاصد للمسلمين في جنوب أفريقيا إلى الآن. استفادت الجالية بلا شك من هذا الانكفاء القسري، إلاّ أنّ بعض أفرادها لم ينصَعْ إلى قرارات مجالس العلماء وقادة الجالية فبادر بالإنضمام إلى الجبهات الثورية والكتائب المسلحة معلنا قوميته غير متخلٍ عن دينه.

هذا وقد كانت قرارات الجهات المعتبرة لقيادة الجالية آنذاك تصب في الانكفاء وعدم المشاركة الجمعية للمسلمين في فعاليات إسقاط النظام العنصري، لكنها أوحت بطرف خفي لبعض الأفراد المؤثرين بإمكانية اللحاق بالجبهات المناوئة للنظام العنصري الجاثي فوق صدورهم.

لذا ظهر أحمد كاثرادا (المعروف بـ كاثي) شاهدا على مشاركة المسلمين في النضال ضد العنصرية ما بين الخمسينات والتسعينات. تربى أحمد كاثرادا في وسط إسلامي هندي خالص، وساءه ما ساء الكثير من أهل وطنه من هذه العنصرية الفاضحة الكاشفة، وخاصةً أنه كان صغيرا ولا يملك تعليما جديا موازيا لتعليم غيره من البيض. قاده مقته للنظام على الثورة عليه وهو ابن الثانية عشر من عمره فانضم إلى النضال ضمن صفوف اليساريين الاشتراكيين ثم علت مرتبته حتى انضم إلى صفوف المجلس الأفريقي القومي، ليتم اتهامه ضمن قضية ريفونيا الشهيرة التي غيبته في سجون روبن آيلند جنبا إلى جنب مع مانديلا ورفاقه ليصبح من أهم الشخصيات الإسلامية البارزة بعد انقضاء فترة العنصرية ويتولى منصب مستشار مانديلا للشؤون البرلمانية المنصب الذي اُستحدث في أوانه.

اتجاه ما بعد العنصرية

تولى السود البلاد بعقلانية شديدة بدون إقصاء لطرف حتى وإن صغر تمثيله الاجتماعي، فبادرت الجالية في أوائل التسعينات برسم خارطة جديدة تستهدف السود في تنميتها ودعوتها للانضمام لصفوف المسلمين.

هو بلال متساو أشهر من اعتنقوا الإسلام في مجتمع السود وفي أشهر تجمع لهم، في سويتو تاون شيب، أشهر معسكر لمجابهة العنصرية في جنوب أفريقيا ومهبط مانديلا والمجلس القومي الأفريقي. يؤكد بلال حسب Christian Science Monitor أن الاتجاه الإسلامي في وسط السود لم يلقَ رواجا في أول الأمر وذلك لمعرفتهم الحثيثة عن انطواء المسلمين ووصفهم لدينهم بأنه “دين هندي” لا يجوز لغير المسلمين أن يقربه.

لكن ما لبثت العنصرية أن انقضت حتى دخل السود في الإسلام أفواجا أفواجا وقدرت أعداد المسلمين في سويتو بعشرات الآلاف حسب مراقبين. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل:

  • انفتاح المسلمين على مجتمع السود بالخدمة والترقية وإثبات حقيقة أن الدين الإسلامي ليس دينا عرقيا يمكن للسود أن يكونوا يوما ما قادته كما الدعاة الهنود تماما
  • فرارا من قسوة الحياة الأسرية وانتشار الأمراض المعدية وغيرها، بينما ضمنت الحياة وسط الجالية المسلمة الابتعاد عن هذا النمط.
  • التخلص من المسيحية التي كرست للعنصرية ضمن إستراتيجية كنيسة الهولنديين الإصلاحية Dutch Reformed Church التي حثت على الرضا بالواقع وعدم الثورة عليه إبان العنصرية، مما أطاح بها في أول اختبار.

هذا، وما زالت الجالية الإسلامية في جنوب أفريقيا في طور بناءها، لذا تجد زخما كبيرا في الاختلافات المذهبية الشرعية. فجوهانسبرج وضواحيها ما زالت تنتمي للمذهب الحنفي الكلاسيكي القديم، بينما رضيت البقية من المحافظات بالفقه الشافعي مذهبًا لها، على خلفية انتمائها العرقي الآسيوي الشافعي المذهب منذ قديم.

الجالية بين تيارين

بدأت جماعة التبليغ والدعوة نشاطها في البلاد منذ قديم فاستأثرت على جزء كبير من البلاد وفعّلته حركيا ونظاميا وخاصةً في جوهانسبرج وناتال. وكانت هذه الجماعة منذ قديم مدفوعة بخوف كبير على مستقبل الهوية الإسلامية في جنوب أفريقيا، والخوف من طمسها وذوبانها في مجتمعِ انفتحت أبوابه على مصراعيها في أوائل التسعينات. بنت المدارس الشرعية وأغدقت عليها أموال الزكاة واهتمت بها كما يهتم الوالد بولده. إلا أن رُبّان الجماعة في الهند لم يتركوا ربيبتهم في جنوب أفريقيا دون تدخل، فسيطروا على مدارسها ووجّهوا التعليم الديني فيها ليكون مجرد فرع من المدارس الشرعية الدينية المنتشرة في أنحاء الهند وباكستان، ومدارس دار العلوم هناك خير شاهد. لا زالت جنوب أفريقيا على الحال تلك حتى وصلت إلى التسعينات والتحول السياسي الحاصل في البلاد.

هنا بدأ تيار آخر يأخذ حظوته في البلاد، يشارك الحكومة في خطتها التنموية ويسعي لبناء مؤسسات تعمل على تحريك المياه الراكدة داخل الجالية المنكفئة على نفسها منذ قديم. أنشا هذا التيار مؤسسات نوعية رسمت جنوب أفريقيا رسما جديدا. تم إنشاء صندوق الزكاة الجنوب أفريقي ليكون من أهم محاور التنمية التي تتشارك فيها الجالية مع الحكومة في إطار الخطة التنموية التعليمية والاجتماعية. أعقبه إنشاء المؤسسة الطبية الإسلامية للتشارك في النهضة الطبية لجنوب أفريقيا ولجنة مسلمي أفريقيا التي عملت على سد حاجات المجتمع في إطار خطة اكتفاء ودعم ما زالت تطور من دعمها إلى الآن.

وفي إطار التعليم الشرعي الديني، الملف الأكثر أرقا للجالية بجنوب أفريقيا، بادر تيار التجديد من خلال مؤسساته الكامنة في مدينة ديربن وكيب تاون بفتح الجالية على الجاليات الإسلامية في أوروبا والاستفادة من خبراتهم وتصعيد قيادات جديدة تمزج بين العلم الشرعي الرصين والتخصص العلمي الذي يهدف إلى الانخراط في روتين الدولة بشهادات معتمدة، مما يضمن للجالية الوصول لمقاعد القيادة والريادة بسهولة ويسر.

كان ضمن أهم ثمرات تيار التجديد في التعليم الشرعي الديني، الشيخ أحمد ديدات الذي قُرن اسمه بأهم المناظرات الدينية العقدية في التاريخ الحديث.

لكن ما زال تيار جماعة التبليغ الكلاسيكي يملك حظوةً كبيرة لدي المؤسسات الشرعية في جوهانسبرج وبعض ناتال وبعض محافظات الشمال متمثلا في كيانها القديم جمعية علماء جنوب أفريقيا، بينما تقف كيب تاون وبعض مناطق الشرق خلف مؤسساتها الشرعية ذات الإنطلاقات الشرعية الجديدة متمثلة في مجلس القضاء الإسلامي.

ثم الصوفية لها من هذا نصيب وإن لم يكن بالكبير. ينحدر معظمهم من باكستان وجنوب الهند متمثلين في فرق صوفية مأخوذة نسخة بالكربون من أصولها الهندية بلغتها المتغربة عن المجتمع وثقافته.

وفي الختام، يبدو أن الجالية الإسلامية في جنوب أفريقيا تقف حجر عثرة أمام ضمها لقائمة الجاليات المصدرة للخوف من الإسلام Islamophobia رغم محاولات عنيدة لزجها في هذه الحفرة التي لم يُستثنَ منها إلا القليل القليل.