قيل يومًا أن السبب في قلة عدد الساسة من النساء هو أنه من الصعب جدًا وضع المكياج على وجهين، في تندر بأن معظم الساسة أصحاب وجهين. يبدو أن أحمد داود أوغلو – أستاذ العلوم السياسية ورئيس وزراء تركيا المستقيل-، لم يستطع الاستمرار في وضع «المكياج السياسي» طويلًا،فآثر الرحيل بغير ضجيج. وفيما قد نختلف كثيرًا في تقييم تلك التجربة لشخص جمع بين الأكاديمي والسياسة، فإن من الواجب علينا أن نتتبع الجذور النظرية التي انطلق منها الرجل الذي نسج خيوط السياسة التركية منذ بداية القرن الحالي، ونستقرئ مواطن التقاطع أو التنافر بين النظرية والتطبيق، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، تلك الحالة المزرية التي ربما لم يتوقعها داود أوغلو «المفكر» يومًا، فضلاً عن أنه قد لا يرتضيها بالضرورة.


داود أوغلو والسعي لإعادة تعريف «الذات التركية»

سعى داود أوغلو إلى إعادة رسم خطوط الإستراتيجية التركية خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة، فانطلق من تعريف جديد للهوية التركية، متجاوزًا النظرة التقليدية إليها كـ«دولة جسرية» تصل بين الشرق والغرب، فيراها الشرقي غربية ويراها الغربي شرقية، ويقتصر دورها على نقل الحضارة، أو بوصفها حائط صد لأوروبا ضد الشيوعية، إلى النظر إليها بوصفها بلدًا ذات هوية مركبة؛ شرق أوسطية وآسيوية وبلقانية، تعلن هويتها الشرقية دون امتعاض، وتسعى إلى مناقشة مستقبل أوروبا في المحافل الغربية، وتسعى إلى أن تكون منتجة للحضارة لا مجرد ممرّ لها، ببساطة كان على تركيا أن تنتقل من الهامش إلى المتن، ومن طرف السياسة إلى مركزها.

http://gty.im/514205998

رأى الرجل أن «العمق الإستراتيجي» لتركيا لا يتأتى بغير إدراك حقائق الجغرافيا والتاريخ، والتخلي عن السياسة الدفاعية لصالح سياسة أكثر مبادَرة، فالإستراتيجية الفعالة هي أن تمتلك أكبر قدر من التأثير في مجالك الحيوي بدل الاعتماد على قدرتك على الدفاع عن أراضيك ضد هجوم الأعداء، وهو هنا كان يدعو إلى حالة وسط بين «السيطرة المطلقة» و «التخلي المطلق»، ويرى أن تمسك حكم الاتحاد والترقي بتلك الثنائية قد أدى إلى تقزيم الدولة التركية بعد أن فقدت قدرتها على التأثير في مجالها الحيوي المذكور والذي كان لقرون طويلة جزءًا من الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطراف. ومن وجهة نظره فإنه ما من وسيلة لاستعادة تركيا دورها المركزي إلا إذا استرجعت ذاتها الحضارية، وتجاوزت واقعها كدولة ممزقة بين الهوية التاريخية العثمانية والهوية الأتاتوركية؛ أي أن عليها أن تتصالح مع التاريخ بميزاته وعيوبه، ويرفض أن تُرسم إستراتيجية الدولة انطلاقًا من التهديدات، بل يتم تعريف التهديد بناءً على مدى مقاطعته أو مقابلته للإستراتيجية، ومن هنا فقد رفض نظرة الدولة الأتاتوركية المتشككة أو المتوجسة تجاه شعوب المنطقة، والتي رأت في أقليات البلقان المسلمة مأوى لأعداء النظام، واعتبرت توطيد العلاقات بالشرق الأوسط ضربًا من ضروب الرجعية.


الشرق الأوسط أم أوروبا؟، اللعب على كل الحبال

رأى في الشرق الأوسط ساحة مثالية للنفوذ التركي، وحدد أسس السياسة الخارجية التركية في ضرورة الالتزام بستة مبادئ تتجسد في: التوازن السليم بين الحرية والأمن، ومبدأ تصفير المشكلات مع دول الجوار، والتأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، ومبدأ السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، ومبدأ الدبلوماسية المتناغمة، واتباع أسلوب دبلوماسي جديد. وهو وإن كان يرفض مصطلح «العثمانيين الجدد» الذي تكثر المصادر الغربية من استخدامه -ذمًا أو تعبيرًا عن خوف كامن من الأصول الإسلامية لمشروع العدالة والتنمية-، فهو يرفضه بوصفه حالة إمبريالية قائمة على أنقاض الدولة العثمانية القديمة اعتمادًا على مبدأ الهيمنة والصراع، لكنه لا يمانع – بل يحبذ جدًا في الحقيقة – من استغلال الإرث التاريخي القائم على قرون من الحكم العثماني للعالم الإسلامي، والاستثمار في المشتركات الثقافية والفكرية مع المحيط الإسلامي، بل يراها وسيلة لا غنى عنها لتشكيل غطاء جامع عابر للغات والقوميات يمكن لتركيا من خلاله أن تمارس نفوذها لا بوصفها قوة إقليمية فحسب، بل كقوة عالمية ذات بعد رسالي أممي. ولا يعني هذا أنه يتبنى خطابًا شرقيًا كاملًا في مواجهة التطلعات التركية التاريخية نحو الغرب، بل إنه يحاول أن يكون متوازنًا، فيؤصل لأهمية عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، من حيث كون هذه العضوية ستكون مفيدة للعالم الإسلامي نفسه في النظام العالمي الجديد، كما أن وجود أنقرة في النادي الأوروبي سيمهد المجال أمام تحولها من قوة قارية إلى قوة عالمية، إذ ستفتح للأوروبيين أبواب القارة الآسيوية المليئة بالموارد الطبيعية والبشرية، هذا التوازن الذي يسعى إليه الرجل بين الحضور الإقليمي التركي الذي ينزع عنها إحساسها بالاغتراب الذي طالما عانت منه منذ تأسيس الجمهورية -بوصفها وكيلاً للعالم الغربي في بلاد المشرق- ،وبين الانفتاح نحو الغرب، يحتل مساحة مهمة في تفكيره، وهو مع ذلك يدعو للاستعداد لرفض الأوروبيين أن تنضم تركيا إلى ناديهم، ويرى ضرورة أن تسير عجلة الإصلاح الداخلية بقوة الدفع الذاتية، سواء قبل بهم الأوروبيون أم لم يقبلوا. ومن المفارقات أن رحيل الرجل جاء بعد ساعات قليلة من إعلان الاتحاد الأوروبي عزمه السماح للمواطنين الأتراك بدخول فضاء شنغن بدون تأشيرة، وهو حلم تركي قديم لم يتحقق إلا في مقابل قبول الأتراك بالوقوف سدًا أمام طوفان الهروب السوري نحو الشمال؛ أي أن القبول الأوروبي بتمدد تركيا غربًا لم يتحقق إلا بقبولها الاضطلاع بدور أكبر تجاه محيطها الشرق أوسطي، كما أنه أعطى تأكيدًا على أن القبول بأنقرة عضوًا بالنادي الأوروبي لم يصدر عن قناعة أصيلة بل عن اعتبارات مصلحية محضة؛ ومن ثم فهو قبول آني لا يمكن الركون إليه أو الاطمئنان لسلاسة مساره، تمامًا كما توقع الرجل منذ سنوات في أدبياته.


الدبلوماسية الهادئة تتحطم على صخرة أردوغان

يؤمن داود أوغلو كذلك بالأحزاب ومراكز الأبحاث الإستراتيجية والمعاهد والجامعات، بوصفها مؤسسات مساهمة في صنع وتوجيه السياسة الخارجية، ويرى أن دولة كبيرة كتركيا لا تستطيع فيها وزارة الخارجية بمفردها أن تضطلع بتلك المهمة من دون مساعدة كل السياسيين والأكاديميين في هذا الجهد، حتى تتحول عملية صناعة السياسة الخارجية من حالة روتينية قاصرة على بيروقراطية السياسة الخارجية، إلى جهد اجتماعي سياسي ذي حيوية بعيد عن الرتابة والجمود، وربما يوفر ذلك المعطى مدخلاً لفهم الإشكال الواقع حاليًا بين رفيقي الماضي.

ظهر الخلاف جليًا بين رؤيته، وبين رؤية أردوغان المغرق في براجماتية دهاليز السياسة، فالأكاديمي عميق الإيمان بالمؤسسة الحزبية ربما صار يجد حرجًا في تدخلات أردوغان المستمرة التي لا يستند فيها إلى اللوائح الحزبية، بل بفضل رجاله الموالين له المتغلغلين في صفوف القيادة الحزبية مكونين شبكة علاقات غير رسمية موالية لرئيس البلاد لا رئيس الحزب.

آمن داود أوغلو كذلك بمبدأ «الدبلوماسية المتناغمة»، وهو ما يتطلب أن تسير المؤسسات كلها – رئاسة وحكومة ووزارات وهيئات – وفق رؤية وإستراتيجية موحدة قدر الإمكان، لتحقيق أكبر قدر من التأثير، ويرى أن أحد أسباب الانتكاسة في السياسات الخارجية التركية في مرحلة التسعينيات هو أن الحكومات الائتلافية لم تنجح في تأسيس وجهة نظر مشتركة ومتجانسة، بحيث تشكل الخطوات التكتيكية رؤية إستراتيجية موحدة مستندة على معطيات الواقع والتاريخ، ويمكن تفسير إصراره على الانسحاب الهادئ، وتأكيده على الاستمرار ضمن صفوف الحزب دون موقع قيادي، ورفضه الانجرار إلى مهاترات إعلامية ضد أردوغان وأنصاره، ضمن هذا المبدأ؛ «التناغم».

http://gty.im/453912852

كما أنه وهو الذي كان أحد أسباب شعبيته السابقة أنه صاحب مبدأ «تصفير المشكلات»، ربما يكون قد ضاق ذرعًا بمشكلات أردوغان المتكررة مع الجميع ، فالرئيس التركي بات يضيق به الأصدقاء كما الأعداء، من واشنطن إلى موسكو مرورًا بباريس وبرلين فضلاً عن أعدائه التقليديين في الشرق الأوسط، الصحافة والإعلام كما المسؤولون الرسميون، وسواء اصطنع أردوغان تلك العداوات أو فرضت عليه، فإنه لم يكن متحمسًا تماما لتخفيف حدتها.لو كان للرجل ترف العودة إلى الماضي قليلاً ليختار الوقت الأنسب لخروجه من السلطة، لربما اختار العام 2011 وما قبله، كان الأتراك أصدقاء الجميع تقريبًا، وكان مبدأ الـ «صفر مشكلات» يسير بثبات نحو التحقق، في تناغم واتساق مؤسساتي كبير، حينها بدا أن أفكار الرجل التي طرحها في كتابه «العمق الإستراتيجي» مثلت روشتة علاج نموذجية للوهن الذي أصاب الأتراك على مدار عقود. أما اليوم فهو يغادر الجزيرة وسط محيط هائج، مليء بالحروب والنزاعات، الأعداء كثر، والحلفاء غاضبون وناقمون. لم يعد مبدأ تصفير المشكلات هو الحاكم للسياسة التركية، بل صارت المشاكل في الداخل والخارج أكبر من أن تعد وتحصى. انسحب الرجل لتعمل أتراس الآلة بالتناغم المطلوب كما تمناها يومًا، وإن كان ذلك التناغم قد يسير بها في اتجاه لا يرتضيه.