قرأت كتاب «الحرية» لجون ستيوارت مل لأول مرة قبل عدة عقود مضت، ولما قرأته انشرح فؤادي، ولكن لم أنلْ منه نهاية أمنيتي، وهي: أن أعثر على كتاب، أو أكثر من كتاب، في موضوع الحرية ذاته، على أن يكون من تأليف فيلسوف أو مفكر أو عالم عربي. إذ بقيت بعض مسائله في ذهني غائمة وغير واضحة، وبخاصة أن الأمثال الشارحة التي ضربها المؤلف ظهرت لي غريبة، ويحتاج فهمها إلى قراءات أخرى عديدة في تاريخ المجتمعات الأوروبية إبان سعيها للنهضة والفكاك من أسر الأغلال التي قيدتها في عصورها الوسطى.

انشرح فؤادي بقراءة كتاب «مِل» لأن أفكاره وردت بتسلسل منطقي، وبعمق معرفي؛ ولأن دفاعه عن «الحرية» جاء عميق الغور مُترعاً بالحجج العقلية المقنعة، والأدلة التاريخية البارعة، والشواهد الواقعية الواضحة تمام الوضوح. وفيه تناول ثلاث قضايا كبرى هي: حرية الفكر والمناقشة، واستقلال الشخصية وكونها من أركان صلاح المعيشة، وحدود سلطة المجتمع على الفرد.

وزاد في انشراح صدري: أن لغة الكتاب في ترجمته العربية (132 صفحة من القطع المتوسط) التي ترجمها طه السباعي باشا، قد جاءت فائقة الفصاحة، واتسمت ألفاظها ومبانيها بأنها منسجمة مع دلالاتها ومعانيها؛ حتى إن القارئ لا يشعر بتعب ولا نصب في إدراك مراميها. وكانت النسخة التي قرأتها مكتوباً عليها إهداء بخط يد المترجم قال فيه:

إلى صديقي الفاضل الأستاذ السنهوري باشا… للتذكار.
طه السباعي.

كتاب «الحرية» لجون ستيوارت مل يعتبره الغربيون من أعمدة بناء وعيهم بالحرية في عصر نهضتهم الحديثة. وقد رحت بعد قراءته أبحث عن كتب في مسألة الحرية بالعربية -تراثية أو معاصرة- بحيث تكون في مستوى عمق كتاب «مل»، أو أفضل منه، أو تقترب من مستواه في وضوح القضية التي يدافع عنها، وفي حضور وكفاية الأدلة التي يقيم دفاعه عليها؛ فأعياني البحث سنين عدداً.

وكنت كلما عثرت على كتاب اقتنيته وقرأته واحتفظت به، وبحثت عن غيره، وهكذا أملاً في بلوغ «نهاية أمنيتي». وبعد عشرات السنين، لم يزد عدد الكتب التي عثرت عليها بالعربية عن تسعة كتب، فإذا أضفنا إليها «ترجمة» طه السباعي باشا لكتاب «الحرية» لجون ستيوارت مل، تصبح عشرة كاملة؛ مع شيء من المسامحة في إضافة كتاب «مل» إلى هذا العدد لكون مؤلفه لم يكن يخاطب مجتمعاتنا بكتابه، وإنما حاول مترجمه أن يفعل شيئاً من ذلك. وتلك العشرة الكتب ظهرت تباعاً على مدى مائة عام كاملة من 1318هـ/1900م إلى 1421هـ/2000م. وهي:

1. كتاب «الحرية في الإسلام»

للشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الأزهر سابقاً، وقد صدر كتابه عندما كان قاضياً شرعياً في مدينة بنزرت التونسية في سنة 1318هـ/ 1900م. ويغلبُ على ظني أن كتابه هذا رغم صغر حجمه (77 صفحة، طبعة دار الاعتصام بالقاهرة في سنة 1982)، هو أولُ مؤلف كتبه أحد علمائنا تحت عنوان صريح ينص على «الحرية في الإسلام». وفيه ناقش معنى الحرية في اللغة، وتناول بعض تجلياتها في: المساواة، والتملك، وصون الأعراض، والاعتقاد، وألمح إلى مساوئ الاستبداد.

2. كتاب «طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد»

لعبد الرحمن الكواكبي. وهو كتاب ذائعُ الصيت، وقد صدر في عدة طبعات، كان أولها عقيب وفاة مؤلفه مسموماً في القاهرة في سنة 1320هــ/ 1902م. وفيه يحلل ظاهرة الاستبداد المطلق، وجنايته على الحرية الفردية والجماعية.

3. كتاب «الإسلام دين الفطرة والحرية»

للشيخ عبد العزيز جاويش، وقد صدرت طبعته الأولى في سنة 1338هـ/1920م. وفيه يبرهن على أن الحريةَ من صميم الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وأن الاعتداء عليها يزلزل كيان الإنسان، ويهدر كرامته التي كرمه الله بها.

4. كتاب «الحرية»

لجون ستيوارت مل، الذي ترجمه طه السباعي باشا في سنة 1922م، وصدرت طبعته الأولى عن دار المعارف بمصر في سنة 1946م. وقد سبقت الإشارة إلى مضمونه وأهميته في الفكر الأوروبي الحديث.

5. كتاب «الحرية الدينية في الإسلام»

للشيخ عبد المتعال الصعيدي، وقد صدرت طبعته الأولى في سنة 1375هـ/1955م. وهو يناقشُ مسألة «الردة»، ويذهب إلى نفي أن يكون القتل عقوبتها؛ لأن ذلك يناقض حرية الاعتقاد المنصوص عليها في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى:

«فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»
سورة الكهف – آية 29.

6. كتاب «مفهوم الحرية في الإسلام»

لفرانتز روزنتال، وهو مستشرق معروف، وليس عالماً مسلماً، ومع هذا أدخلناه في عداد المؤلفات التي تناولت مسألة الحرية؛ في الفترة التي نتحدث عنها لاختصاصه المباشر بهذه المسألة، وقد صدرتْ طبعته الأولى في سنة 1379هــ/ 1960م. وهو يُقَمِّشُ بين دفتيه معلومات وحكايات عن الحرية، بعد أن جمعها من مصادر شتى من التراث الإسلامي، ويمتلئ بالغمز واللمز والتنبيه إلى قصور معنى الحرية في الثقافة العربية والإسلامية.

7. كتاب «الحرية في الإسلام»

للدكتور علي عبد الواحد وافي، وقد صدرت طبعته الأولى في سنة 1388هــ/1968م. وهو من أفضل ما صدر بالعربية في مفهوم الحرية، وإذا قارنَّاه بغيره فسنجده يتسم بالوضوح والشمول والعمق في الوقت نفسه.

8. كتاب «مفهوم الحرية»

للدكتور عبد الله العروي، وقد صدرت طبعته الأولى في سنة 1403هــ/ 1983م. وهو يبحث في سؤال الحرية بحثاً تاريخياً من خلال التجارب الواقعية، ويقول إنه ينتقد مذاهب المستشرقين في نقدهم مسألة الحرية في الاجتماع الإسلامي، ولكنه يعتمد مفاهيم الحرية الليبرالية الغربية في بحثه.

9. كتاب «الحريات العامة في الدولة الإسلامية»

للشيخ راشد الغنوشي، وقد صدرت طبعته الأولى في سنة 1413هــ/ 1993م. وهو يقدم أطروحةً أكثر اتساعاً في مسائل الحرية، ويحاول أن يبرهنَ على أن الرؤية الإسلامية وتجربتها التاريخية تستوعب الحريات الليبرالية وتتميز عنها بمرجعيتها المعرفية الإسلامية.

10. فصل في كتاب «المدرسة القرآنية»

لمحمد باقر الصدر، وقد صدرت طبعته الأولى في سنة 1421هــ/2000م. والفصل الذي خصصه لسؤال الحرية يتسم بالعمق، وينهض على رؤية واضحة للمفاصلة – بعد المقارنة – بين المفهوم الإسلامي للحرية ومفهومها الليبرالي العلماني.

هذا عدد – من حيث كميته – قليل جد قليلٍ في موضوع جليل جد جليلٍ، ومن حيثُ مضمونه هو مفيد ونافع، ولكنه غير كافٍ وغير مشبع، وبعضه غير مقنع، إذا قارناه بكتاب جون ستيوارت مل، على سبيل المثال. وفوق هذا كله؛ فإن أغلب تلك الكتب العشرة قليلة الانتشار، ولا تكاد تجد مناقشةً جادة، أو نقداً معتبراً، أو حتى تعريفاً وافياً لأي منها، وهذه ظاهرة تستحق التأمل لمعرفة أسبابها وكيفية التعامل معها.

ومما نتج عن ذلك كله في واقع مجتمعات أمتنا وراهنها؛ نشوءُ فراغٍ هائل في الوعي العام بسؤال الحرية ومقتضياته. وكما يحدث في كل فراغ، من حيث إنه يستدعي ما يملؤه، استدعى هذا الفراغ تيارات الفكر التغريبي التي نشطت في ملء هذا الفراغ، ولم تفوت الفرصة؛ وبخاصة أن أنصار هذه التيارات تلقوا – ولا يزالون يتلقون – الدعم والمساندة من السلطات الرسمية في الداخل ومن الدوائر الاستعمارية في الخارج.

وساعدهم على نشر أفكارهم أنهم قد سيطروا على مقاليد أغلب مؤسسات تشكيل الوعي في مجتمعاتنا عبر برامج التنشئة والتعليم والإعلام والثقافة والفنون؛ حتى بات من المسلمات أن أي حديث عن «الحرية» يعني تقليد الأوروبيين في حرياتهم، والتشبه بهم في نمط حياتهم، في حلوها ومرها، ما يُحَبُّ منها وما يُستَكره، حسب تعبير طه حسين.

أدى كل من «الفراغ»، و«ملء الفراغ» على النحو المشار إليه، إلى نشوءِ «ازدواجية» في النظر إلى مسألة الحرية وانقسامها ذهنياً بين مرجعيتين: الأولى وافدة تتبناها تيارات علمانية تغريبية، والثانية موروثة تتبناها تيارات محافظة أو إصلاحية. وفي الفجوة بين أنصار المرجعيتين، انتهزت السلطاتُ الحاكمة – في أغلب البلدان – الفرصة لتضيق الخناق على الجميع، فانتقصت من الحريات العامة والخاصة، بدعوى «التصدي» للتدخل الأجنبي والمحافظة على الخصوصية الثقافية تارة، وبدعوى مواجهة التيارات المحافظة والإصلاحية تارة أخرى.

وراحت حرية السواد الأعظم من أبناء مجتمعات أمتنا ضحية هذه الحالة البائسة. ووقعت شعوب الأمة – في بعض الحالات – في شرك الاستبداد والقوانين الاستثنائية وأحكام الطوارئ التي عصفت، ولا تزال تعصف، بالحريات العامة والخاصة.

أن تظهر في فضاءات الثقافة العربية عشرة كتب فقط تحت عنوان الحرية في خلال مائة سنة؛ أي بمعدل كتاب واحد فقط كل عشر سنوات، لهو أمر غير معقول، وبخاصة إذا علمنا أن كل مجتمع من مجتمعات ما يسمونه «العالم الحر» كان يستقبل في الفترة نفسها – ولا يزال يستقبل – عشرات المؤلفات سنوياً في مسألة الحرية، ويتنافس مئات الكُتَّاب في أن تحظى مؤلفاتهم بأن تكون ضمن قائمة «أفضل عشرة كتب في الحرية» Top Ten.

إن استمرار شح التأليف والنشر والمناقشة في هذا الموضوع في مجتمعاتنا لهو أمر غير مقبول وليس غير معقول فقط، أليس كذلك؟!