يقف الحزب الشيوعي منتصرًا لا على أعدائه وحدهم بل على الزمن كذلك، فالانتصار يرافقه احتفال بمئوية عسيرة. في خلفية تلك المئوية يتذكر الحزب الشيوعي الصيني قواته وهى تسير، تسير لمسافة تقارب 10 آلاف كيلومتر، تسير لمدة عامين هربًا من الموت والإبادة.

يلاحقهم القوميون الصينيون، الكومينتانج، راغبين في محو 100 ألف جندي، لكن بعد مدة لا تُذكر في قياسات الأمم، 10 سنوات، سار الحزب الشيوعي المسيرة الطويلة في الاتجاه الآخر، نحو السلطة، ولم يسر منذ وصل إليها في اتجاه البعد عنها.

ليس ذلك الحادث هو الوحيد في خلفية الحزب الشيوعي الصيني، بل أحداث أشد دموية، ربما كانت بذرتها الأولى حين اجتمع 13 شابًّا بشكل سري عام 1921 وقرروا تكوين منظمة تجابه الاحتلال، بوجود ممثلي الشيوعية الروسية والهولندية اُعتبر الكيان الوليد امتدادًا للحركة الشيوعية الكبرى. زاد عدد الأعضاء إلى 50 عضوًا في العام التالي، ثم 300 في الذي يليه، ثم 1500 عام 1925.

 لم يكن الشباب يدركون أنهم كشيوعيين سوف يدخلون في صدامات عنيفة بعد 4 أعوام فقط من التأسيس مع القوميين. تلك المواجهات تُوِّجت عام 1927 بارتكارب القوميين البروجوازيين مجازر في حق الشيوعيين والبروليتاريا.

 العنف يُولِّد العنف، هرب الشيوعيون من تلك المجازر لكنهم قرروا أن يخوضوا معركة مسلحةً مع القوميين، وبدأت بذلك حرب عصابات بين شقي الشعب الصيني. ظل الطرفان يتناحران حتى جاء العدو الخارجي، اليابان، ووحَّد الصينيين جميعًا في القتل، فلم تفرق مذابحه، ولا مذبحة نانجينج، أكبر مذابح الحرب، بين الفصائل الصينية.

لولا اليابان لأفنت الصين نفسها

اضطر القوميون والشيوعيون إلى التحالف تحت راية القوميين بشكل صوري كي يقاتلوا عدوهم المشترك. وبات زعيم الكومينتانج، صن يات صن، المعروف بوالد الصين الحديثة أول زعيم حزب للكومينتانج، أو أول رئيس مؤقت لجمهورية الصين.

لكن عام 1940 حدث خلاف بين شركاء اليوم وفرقاء الأمس، فانفض التحالف وعادوا إلى التقاتل بينهم. وبعد هزيمة اليابان بالقنبلة النووية الأمريكية، بدأ النزاع بين أعظم قوتين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، على امتلاك الدول الأخرى عسكريًّا أو بتولية موالين.

ستالين أرسل أعدادًا ضخمة من جيشه الأحمر لمساندة ماو سي تونج، الولايات المتحدة دعمت القوميين بالعتاد والمال، فبُعثت نيران الحرب الأهلية بصورة أشد عسكريًّا ودعائيًّا. بينما ركز القوميون على حرب الأسلحة فحسب، انتبه الشيوعيون إلى أن العامة هم كلمة السر، فبدأوا بتوجيه دعاية تُجنِّدهم في الحرب بشكل غير مباشر.

مثلًا نشر الشيوعيون دعاية تؤكد أن انتصارهم يعني حصول كل الفلاحين على نصيب من الأراضي الزراعية التي يمتلكها الأثرياء وحدهم. لاقى الأمر صدًى في نفوس العامة فانضم 5 ملايين فلاح إلى لواء الشيوعيين.

الشيوعيون كوَّنوا جيشهم الخاص، الجيش الأحمر، تحت اسم جيش التحرير الشعبي، الذي سيصبح في مئوية الحزب أكبر جيش في العالم. الجنود الحُمر وروسيا من خلفهم، يستولون على المدينة تلو الأخرى، حتى بدأ التفكير في الدخول إلى العاصمة لحسم الأمر. استنفر القوميون ففرضوا حصارًا خناقًا على المدن التي استولى عليها الشيوعيون، حصار خانق قتل 300 ألف مدني، فازداد الحنق تجاه القوميين والولايات المتحدة من خلفهم.

بكين تسقط وماو يرتفع

عاد ماو ورفاقه إلى المدن المحاصرة ونجحوا في فك الحصار عنها، فباتوا الأبطال في الرواية الشعبية، وصارت العاصمة على مرمى حجر منهم. خاصة أن ماو كان قد حقق انتصارًا سياسيًّا في الحزب على خصومه المعترضين على سياساته الثورية. أخذ ماو نصره إلى الكهوف حيث عاش في نانيوان، وحاول مع جنوده تحقيق اكتفاء ذاتي من المحاصيل لإطعام الجيش الجائع.

في عام 1949 سقطت بكين، وتلاها تساقط معاقل القوميين تباعًا،  فأصبحت الشيوعية رسميًّا في الحكم، والولاء تابع للسوفييت، واللون الأحمر يكسو كل شيء. لا ماكياج، لا كعب عاليًا للنساء، لا مقامرة أو دعارة أو أفيون، تلك هى الصين الجديدة التي رسمها ماو.

الإله ماو في كرسي الحكم، يحاول الخروج بالصين من مآزقها وجعلها دولة صناعية لا زراعية، ففي رأيه أن التقدم الصناعي سوف يؤدي إلى التقدم الزراعي. كانت خطة ماو بدايةً تمثل خيبة أمل للفلاحين الذي حلموا طوال سنوات الحرب بامتلاك أراضيهم الزراعية؛ لأنه خلق لهم نظام الكوميونة. نظام شيوعي يضم فئات مختلفة تقوم بالمهام المطلوبة منها لتحقيق نتيجة محددة.

ماو هو من يُحدد النتيجة المرجوة، ولا يملك الفرد الصيني الاعتراض أو النقاش لأن مصيره هو الاتهام بالبرجوازية إذا ناقش أو اعترض، وأيضًا لا يضع ماو احتمالًا أن يعجز الأفراد عن تحقيق ما يطلبه، فالفرد الصيني في روايته هو بطل خارق يمكنه القيام بأي شيء.

سحق 100 زهرة متفتحة

نجح ماو في تحويل الأفراد إلى ماكينات تحقق له الأرقام المطلوبة، لكن كان كذلك في أول عام فقط، أما في العام التالي مباشرة فاصطدم الصينيون بجهلهم بالصناعة المطلوب منهم العمل فيها. ترك الصينيون الزراعة التي يتقنونها، ولم يدخلوا الصناعة التي يرغبون فيها، فانخفضت المحاصيل الزراعية، وبات الانهيار وشيكًا بدخول مجاعة قتلت 9 ملايين فرد في بداياتها. وأمام عجز ماو وانهيار الثقة فيه استمرت المجاعة أعوامًا أخرى، فحصدت 20 مليون فرد آخر.

عام 1963 أعلن ماو أنه زعيم ثورة فاشل لأن شعبه بات يأكل التراب، ويبيع أولاده لبقايا الأثرياء، لكن اعترافه لم يعنِ أنه سيتخلى عن الحكم، بل يكشف أن الرجل بات ديكتاتورًا أشد فتكًا من سابقيه، لا يبالي بالغضب الشعبي، ولا بالانقسام الحزبي. كان الرجل قد أطلق أول حملة سياسية له بعنوان قمع أعداء الثورة، جمع فيها قرابة 3 ملايين فرد من أنصار الكومينتانج القدامى، ومن أصحاب الأملاك، وأرسلهم إلى معسكرات العمل.

هؤلاء الملايين الثلاثة هم من أخذوا فرصة للنجاة، أو للموت إرهاقًا في معسكرات العمل، لكن هناك مليوني فرد أُعدموا مباشرة في تلك الحملة. ثم لاحقًا خدع ماو الجميع وأطلق حملة 100 زهرة تتفتح، دعا فيها المثقفين للحديث، وحين تحدثوا أرسل منهم نصف مليون للعمل في المعسكرات، فيما عُرف بخدعة إخراج الثعبان من جحره.

بات ماو والحزب الشيوعي يفرض نفسه على الساحة الدولية كممثل شرعي ووحيد عن الشعب الصيني، فاعترفت به الولايات المتحدة، وأزاحوا تايوان من الأمم المتحدة، وباتت جمهورية الصين الشعبية هي المُعترف بها في المحافل الدولية. حتى مات ماو عام 1976.

لا مكان لليبرالية أو معارضة القمع

بعد وفاته تولى دنغ شياو بينغ السلطة، لكنه تراجع عن سياسات ماو، وأخذ سبيله نحو سياسات إصلاحية واقتصادية، فدخل في عصر الانفتاح الاقتصادي، وفتح الطريق أمام المجتمع الصيني لرؤية العالم. لكن ذلك الانفتاح أتى ومعه الفساد وتركز الثروة في يد فئة دون الأخرى.

بدأ دنغ في العودة إلى قوة الحزب الصارمة، فأطاح  بسكرتير الحزب لأنه ليبرالي للغاية، توفي السكرتير الليبرالي بعد عامين، اشتعلت مظاهرات تيانانمين تعاطفًا مع الرجل، فسحق بينغ المظاهرات بصورة استدعت تطبيق عقوبات دولية على الصين.

تشاو زيانج، السكرتير العام الجديد للحزب، رفض حملة القمع، فأُقيل من منصبه ووضع تحت الإقامة الجبرية طوال 16 عامًا، حتى توفي عام 2005، بتهمة تقسيم الحزب. بعد سنوات من وفاة بينغ، قفز شي جين، الرئيس الحالي، إلى اللجنة الدائمة للحزب بصفته الوريث المُعيَّن لذلك المنصب، ليبدأ رحلته في الحكم وفي جمع المناصب الحيوية، فهو صاحب أكبر منصب في الحزب، وصاحب أكبر منصب في الجيش، ثم رئيس البلاد للأبد، أو مدى حياته، أيهما ينتهي أولًا.