في عام 1946 انتفض طلاب مصر ضد الاحتلال البريطاني وأعوانه، فخرجوا إلى شوارع القاهرة ومختلف المحافظات والمدن يطالبون بجلاء قواته، وينددون بالسياسيين المصريين الذين يقفون حجر عثرة أمام تحقيق الاستقلال التام، ما أسفر عن عدد من النتائج التي لم تكن لتتحقق من دون هذه الانتفاضة.

وبشكل عام، لا يمكن فصل الانتفاضة الطلابية في مصر سنة 1946 عن معطيات سياسية تعود إلى عام 1936، عندما وقّعت مصر مع بريطانيا معاهدة تقدم مصر بموجبها خدمات لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية مقابل وعد بحصولها على الاستقلال.

ويذكر أشرف صالح في كتابه «الطلاب والعمل السياسي في القرن العشرين»، أنه في غضون الحرب تم استخدام مصر وجيشها ومواردها المادية عن طريق بريطانيا لشن عمليات عسكرية ضد القوات الألمانية والإيطالية في ليبيا، تنفيذاً لبنود المعاهدة، والتي كانت تنص على إمكانية إعادة النظر فيها وتعديلها بعد عشر سنوات من إبرامها، أي في سنة 1946، عن طريق التفاوض بين الطرفين.

مقدمات الانتفاضة

قبل بدء عام 1946، كان شباب الجامعة في حالة هياج تام، ولم تعد صحف مصر الفتاة والوفد والإخوان المسلمين تطالب فقط بإعادة النظر في المعاهدة، بل أخذت تطالب بعدم الاعتراف بها، وأخذت الافتتاحيات الملتهبة تُنشر كل يوم وتدعو إلى «الكفاح والتضحية»، بحسب صالح.

إضافة إلى ذلك، وجه طلاب جامعة فؤاد الأول (القاهرة الآن) مذكرة إلى الملك فاروق، يطالبون فيها بالتحرك فوراً لبدء المحادثات التي لم يكن قد تحدد تاريخ بدايتها بعد.

غير أن الطلاب أيقنوا استهتار الملك فاروق، والاتجاه الجديد الذي سلكه مع بريطانيا وتسلطه على حكومته، فطرحوا خلافاتهم الحزبية وحشدوا صفوفهم، وقرروا تنظيم مؤتمر عام يوم 9 فبراير في الجامعة، حيث اجتمع الطلبة من مختلف الكليات حول النصب التذكاري، وانضم إليهم طلبة المدارس العليا والثانوية، وحملت كل مدرسة لوحة كتبت عليها عبارات «وحدة وادي النيل» و«الجلاء»، وتعاقب الخطباء متحدثين عن قضية مصر في هذه الظروف، وما يجب أن يؤديه الطلبة لتحقيق الاستقلال.

وبحسب صالح، اعتبر المؤتمر أن المفاوضة مع الإنجليز خيانة، وطالب بإلغاء معاهدة 1936 واتفاق 1899 بشأن السودان، وجلاء الإنجليز فوراً.

أحداث كوبري عباس

عندما دقت الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم خرجت جموع الطلاب تهتف بالاستقلال ووحدة وادي النيل والجلاء السريع، ورفعت شعار «الجلاء.. لا مفاوضة إلا بعد الجلاء». ويروي صالح، أن المظاهرة كانت سلمية، وعبرت شارع الجامعة، ثم ميدان الجيزة إلى كوبري عباس المؤدي إلى الروضة.

ويذكر صالح، أنه كان من واجب رئيس الوزراء آنذاك محمود فهمي النقراشي باشا أن يأمر البوليس بعدم التعرض للمظاهرة، لكنه أصدر أوامره بألا يُسمح للمتظاهرين بتخطي مديرية الجيزة، وألا يدخلوا القاهرة، لذا عمل حكمدار الجيزة فيتز باتريك باشا فوق كوبري عباس على نصح الطلاب المتظاهرين بالعودة إلى كلياتهم فلم يستمعوا لنصحه، وحاولوا أن يستمروا في طريقهم.

وما إن وصل الطلاب إلى كوبري عباس حتى رأوه مفتوحاً لمرور المراكب، فنزل بعضهم في القوارب وأغلقوا الكوبري ليكون صالحاً للمرور من فوقه، ولكن الكوبري أُغلق بطريقة غير نظامية، وأوضحت قيادات البوليس للمتظاهرين أن إقفال الكوبري بهذا الشكل لا يجدي نفعاً، وأن المظاهرات ممنوعة، وأن استمرارهم يمثل خطورة كبرى، ولكنهم لم يسمعوا وأصروا على سير المظاهرة، فتقدم إليهم مرة أخرى وكيلا الحكمدار بمفردهما، وأعادا على الطلاب النصح فأبى المتظاهرون وأخذوا في رشق رجال البوليس بالحجارة.

وبناءً على أوامر رئيس الوزراء، أحاط البوليس المصري بكوبري عباس، وصعدوا عليه وحاصروا المتظاهرين فوقه، وراحوا يضربون الطلاب بالسياط والهراوات على رؤوسهم، ما أسفر عن إصابة 84 طالباً بإصابات بالغة، ونُقل كثير منهم إلى مستشفى قصر العيني، وروت مصادر أخرى أن بعض الطلبة سقطوا من أعلى الكوبري إلى النيل تحت وابل رصاص البوليس، واختلفت الصحف وقتها في تقدير الخسائر البشرية، روى صالح.

وقابل فاروق هذه الأحداث بمنحه رتبة الباشوية للوزراء الذين لا يحملونها، مما أعطى الانطباع بتأييده لحكومته في هذا التصرف، ولكن سرعان ما شعر الملك بحماقة الإجراء الذي اتخذه النقراشي، ولذلك عمل فاروق على إرضاء الطلبة، وتعمد إظهار عطفه عليهم.

وبناءً على ضغط القوى الوطنية تقدمت وزارة النقراشي باستقالتها، وكلّف الملك إسماعيل صدقي باشا بتكليف وزارة جديدة.

وبعد يومين فقط من تعيين صدقي باشا في الوزارة، أعلنت اللجنة الوطنية للطلبة ميثاق 17 فبراير، الذي أكد ضرورة الجلاء التام عن كل شبر في وادي النيل، ودولية القضية المصرية، والتحرر من الديون الاقتصادية، وخُتم الميثاق بقول الشاعر أبي القاسم الشابي «إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلابد أن يستجيب القدر».

وقالت اللجنة في بيان لها «إن دماءنا التي قدمناها للوطن لم تكن لإسقاط حكومة ولا لقيام أخرى، وإنما الغرض الأسمى الذي وطدنا عزمنا عليه، هو الجلاء التام ووحدة وادي النيل».

انتفاضة 1946

يذكر سيد محمود حسن، في كتابه «دم الطلبة.. قراءة جديدة لدور الطلبة في الحركة الوطنية 1946»، أن الطلاب أدركوا طوال الفترة التي أعقبت حادث كوبري عباس معنى أن يكون لهم جهاز ثوري يعبر عن إرادة الجماهير، قادر على أن يوحد الصفوف، ولا يرتبط بالأحزاب الأخرى، وكانت السمة المميزة لتلك الفترة هي تكوين اللجان.

وشهدت هذه الفترة لأول مرة محاولات التنسيق بين الحركة العمالية والطلاب، وعاد شعار «يحيا الطلبة مع العمال» من جديد، وهو شعار مستمد من ثورة 1919، ثم تشكلت اللجنة الوطنية للطلبة والعمال بين يومي 18 و19 فبراير، بعد سلسلة اجتماعات شارك فيها ممثلون من اللجنة الوطنية لعمال شبرا الخيمة وترام القاهرة والمطابع، وكان من بين أعضاء هذه اللجنة من الطلاب فؤاد محيي الدين وفاطمة زكي.

وقررت اللجنة، أن يكون الخميس 21 فبراير 1946 يوماً للجلاء، ودعت جميع هيئات الشعب وطوائفه إلى إضراب عام، وفي ذلك اليوم احتشد ما بين 40 إلى 100 ألف شخص، بينهم 15 ألف عامل من شبرا الخيمة.

وبحسب حسن، طافت هذه الحشود شوارع القاهرة وهي تردد نشيداً ألّفه الطالب عبدالواحد بصيلة باسم «نشيد الجلاء»، وصاغ علي عبدالقادر الطالب بكلية الطب لحناً سهلاً للنشيد، الذي تقول كلماته: «يا شعب قم خض بحر الدماء.. لا تبك فالآن وقت للفداء».

ولما وصلت المظاهرات إلى ميدان الخديوي إسماعيل «التحرير الآن»، تصدت لها أربع سيارات بريطانية مُصفحة، ووقعت اشتباكات أسفرت عن وقوع 23 قتيلاً و120 جريحاً.

ووضع المشاركون في المظاهرة شارة في عروة «الجاكيت» سميت بـ«شارة الجلاء»، وكان الشعار الرئيسي في المظاهرة «لا حزبية بعد اليوم».

رد فعل بريطانيا والملك فاروق

يذكر حسن، أن مشاركة العمال في المظاهرات أقلقت السفارة البريطانية، لاعتقادها أن ذلك جاء بسبب الدعاية الشيوعية والعناصر الموالية للاتحاد السوفييتي في مصر، لكن في نفس الوقت اعترفت السفارة البريطانية بسوء حال العمال في مصر، وبخطأ الحكومات المتعاقبة في تجاهل ممثليهم، وعدم الاستجابة لمطالبهم، وقدّم القائم بالأعمال البريطاني في مصر احتجاجاً رسمياً لدى الملك على أحداث الجلاء، وقال «إن الحكومة أطلقت العنان لهتافات عدائية ضد بريطانيا».

وكان فاروق أبدى أسفه على الأحداث وصرح بأنه على ثقة من مقدرة صدقي باشا على معالجة الحالة وتقبل الاحتجاج، وبناءً على ذلك أصدر صدقي بياناً بمنع المظاهرات، وأصدر بياناً أكد فيه أن «المظاهرات السلمية قد تحولت ببعض الأيدي بعد أن اندست الدهماء بين صفوف الطلبة الأبرياء، وكل هذا حولها إلى مظاهرات غلب عليها طابع الشر».

والغريب أن صدقي باشا أصدر هذا البيان، رغم أن جريدة «الأهرام» أكدت أن المظاهرات كانت ذات طابع سلمي ولم تخرج عن النطاق المرسوم لها إلا بعد الأحداث التي وقعت في ميدان الخديوي، بدليل أن المظاهرات التي شملت المحافظات لم يكن فيها ما يستفز الجماهير وانتهت بسلام.

إعلان الحداد العام

وإزاء موقف الحكومة المتخاذل، والذي تمثل في قبولها للاحتجاج البريطاني، اجتمعت اللجنة التنفيذية للطلبة وقررت إعلان الحداد العام، والموافقة على قرارات اللجنة الوطنية للطلبة والعمال بإصدار ميثاق وطني يوقع عليه جميع زعماء الأحزاب، يلزمهم بعدم قبول الحكم إلا على أساس تصريح بريطاني يعترف بالجلاء التام عن وادي النيل، مع سحب الموظفين الإنجليز من البوليس المصري، وإعلان استنكار بيان رئيس الحكومة، حسب ما ذكر حسن.

أما اللجنة الوطنية للطلبة والعمال فأصدرت قرارات تتضمن إقامة صلاة الغائب يوم الحداد العام، ومطالبة الحكومة بالعمل على تنفيذ الجلاء البريطاني عن المدن الكبرى، وإصدار تصريح واضح بأن يكون أساس المفاوضة هو تحديد يوم للجلاء التام عن وادي النيل، واستنكرت اللجنة الحظر الذي أقامته الحكومة على الصحافة بشأن نشر أنباء الحركة الوطنية.

وتخليداً لذكرى الطلاب الذين استُشهدوا في مظاهرات يوم الجلاء، أعلنت اللجنة الوطنية 4 مارس يوماً للحداد العام، وطالب ممثلو الطلاب بأن يشارك في الحداد موظفو الحكومة ومعهم رجال البوليس، لكن صدقي رفض ذلك، ونصح الطلاب بعدم التمادي خشية تدخل القوات البريطانية في الأحداث، إلا أن الطلبة أصروا على موقفهم، بل طالبوا رئيس الوزراء بأن يمدهم بالسلاح لو تدخل البريطانيون فعلاً.

وفي اليوم المحدد للحداد – كما يروي حسن – نُظم الحداد في هدوء وسكينة وسكون استجاب له الشعب في كل المدن، باستثناء الإسكندرية التي شهدت أعمال عنف بعد أن شاهد متظاهرون علماً بريطانياً مرفوعاً في أثناء سير المظاهرة، فاعتبروه استفزازاً لشعورهم الوطني، فأنزله المتظاهرون ومزقوه فأطلق البوليس النار عليهم وحدثت معركة انتهت بقتل 28 شهيداً، وجرح 342 وطنياً، مما جدد المظاهرات في الأيام التالية.

وبعد شهر واحد من مظاهرات يوم الحداد، أصبحت الجامعة غير صالحة لعمل القوة الطلابية داخلها، إذ حل فصل الربيع وجاءت معه الامتحانات، وبدأ انشغال الطلبة عن العمل السياسي ولو بشكل مؤقت، وفي الفترة ذاتها كان إسماعيل صدقي قد أعد خطة لقمع الحركة الوطنية وشق صفوفها بغرض التمهيد لإجراء المفاوضات.

ولم تهدأ اللجنة الوطنية، فأصدرت في 8 يوليو 1946 نداءً دعت فيه إلى وقف المفاوضات واعتبار يوم 11 يوليو 1946 (ذكرى ضرب الإنجليز للإسكندرية قبل الاحتلال عام 1882) يوماً لتجديد الجهاد الوطني.

وفي تلك الأثناء، رأى صدقي أن يضرب ضربته باعتقال الوطنيين في ما سُمي وقتها بقضية الشيوعية الكبرى في 10 يوليو 1946، حيث أصدر قراراً بحل عدد من الهيئات والمنظمات والمجلات والصحف الوطنية، وبلغ عدد المنظمات التي ضربها صدقي بقراره 16 منظمة، وشملت الحملة القبض على 19 مناضلاً وكاتباً وطنياً، اتهمهم صدقي بالشيوعية رغم انتمائهم لأكثر من تيار فكري.

ويذكر حسن، أن كل من سُئل في التحقيقات من بين المقبوض عليهم أنكر تهمة الشيوعية، وقرر أن مصر لا تصلح لها، وأن الإصلاح يجب أن يتم طبقًا للدستور وفي حدود النظام السياسي القائم.

ومع هذه القضية انتهت أحداث انتفاضة 1946 الطلابية، وبدأت مرحلة جديدة في الحركة الوطنية.

الآثار المباشرة للانتفاضة

ويقدم أحمد عبدالله، في كتابه «الطلاب والسياسة في مصر»، تقييماً لأبرز الآثار المباشرة لانتفاضة الطلاب في 1946، ومنها إعلان كلمنت أتلي رئيس الوزراء البريطاني في 8 مارس 1946 عزم القوات البريطانية على الانسحاب من القاهرة والدلتا، وتمركزها بدلاً من ذلك في القاعدة البريطانية بمنطقة قناة السويس.

أما الأثر الأكثر أهمية لهذه الانتفاضة وما تلاها من اضطرابات طلابية، فهو فتح ملف قضية معاهدة 1936، حيث ظلت المفاوضات المصرية الإنجليزية متوقفة، وباءت كل المحاولات لحل المشكلة عن طريق مجلس الأمن بالفشل، فكان الطريق الوحيد المتاح أمام الحركة الوطنية المصرية هو الضغط على الحكومة لإلغاء المعاهدة من طرف واحد.

وبحسب عبدالله، لعبت التنظيمات الناشئة غير الممثلة في البرلمان – بما لها من نفوذ في الحركة الطلابية على وجه الخصوص – دوراً مهماً في ممارسة هذا الضغط، وهو ما تحقق في 8 أكتوبر 1951، عندما أعلن رئيس الوزراء مصطفى النحاس إلغاء الاتفاقية بقوله «من أجل مصر وقعتها.. ومن أجل مصر ألغيها».

وقوبل هذا القرار بترحيب حاد من الأغلبية العظمى في مصر، وانسحب كل من العمال والموظفين المصريين البالغ عددهم ثمانية آلاف عامل من العمل بالقاعدة البريطانية في منطقة السويس، وبدأت الأعمال الفدائية ضد القنوات البريطانية هناك.

وبحسب عبدالله، تحولت الجامعة نفسها إلى معسكر تدريب عسكري، يتلقى فيه نحو 10 آلاف طالب تدريباتهم بعد توفير السلاح لهم، وساهم الطلاب من كل التيارات السياسية في الأعمال الفدائية جنباً إلى جنب مع غيرهم من فلاحي منطقة القناة، وكذلك العمال الذين كان العديد منهم يعمل سابقاً في القاعدة البريطانية، فضلاً عن المثقفين، ومجموعة من صغار الضباط الذين تطوعوا لتدريب الفدائيين على استخدام السلاح.

ولم يكن الضباط الأحرار، الذين تولوا السلطة في 23 يوليو 1952، بعيدين عن تأثير الحركة الطلابية، فعدد منهم اكتسب وعيه السياسي في فترة دراسته الثانوية، وكانت هناك صلات غير مباشرة بين الضباط والطلبة عبر التنظيمات الناشئة، وكذلك كان بعض الضباط أنفسهم طلبة منتسبين بالجامعة، ولذلك لم يكن غريباً أن جاء برنامجهم متفقاً في أسسه مع الأهداف السياسية للحركة الطلابية.

تقييم انتفاضة الطلاب

ورغم هذه الآثار، فإن شهدي عطية الشافعي، وهو أحد القيادات البارزة في الحركة الشيوعية المصرية في ذلك الوقت، يقدّم تقويماً أكثر توازناً في كتابه «تطور الحركة الوطنية المصرية 1882-1956»، ويذكر أن اللجنة الوطنية للعمال والطلبة وقعت في أخطاء تدل على عدم نضجها بشكل كاف، فاقتصر نشاطها على المدن في صفوف الطلبة والعمال والحرفيين، ولم تمتد إلى الفلاحين، رغم أنهم بمثابة جيش الثورة الوطنية.

ويأخذ الشافعي على اللجنة أيضاً أنها لم تحسن تنظيم صفوفها، فلم تسارع إلى خلق لجان ذات جذور عميقة بين صفوف الشعب، فاستمرت كلجنة عادية ليس لها لجان في كل مصنع، وشارع وحي، وفي كل كلية ومدرسة.