المقاومة الفلسطينية أوجعت الاحتلال في حرب الأشباح. الحرب التي بدأت في السبيعينيات عبر القيام بعمليات فدائية ضد أهداف نوعية وحيوية للاحتلال. ظلت الحرب سجالًا بين الطرفين، حتى ارتكبت حركة فتح المحظور. فقد قررت الحركة استهداف رجال الموساد في عواصم مختلفة من دول العالم. فاستهدفوا سفير إسرائيل في نيقوسيا مرتين، هاجموا طائرة إسرائيلية في مطار قبرص في 9 أبريل/ نيسان 1973.

الهجوم على الطائرة نكأ الجرح الإسرائيلي إثر عملية ميونخ الشهيرة. وبدأ الإسرائيليون يُساءلون جولدا مائيرا، رئيسة الوزراء آنذاك، التي وقفت في الكنيست الإسرائيلي تتوعد باستهداف من شاركوا في عملية ميونخ. كانت مائير قد اتخذت قرارها باغتيال كمال عدوان وأبو يوسف النجار. ثم حين اقترب موعد تنفيذ الوعيد أضافت للقائمة كمال ناصر، الرجل الذي أتقن الفرنسية والإنجليزية فوظفهما للحديث عن جرائم الاحتلال في كل مكان تطؤه قدماه.

أي سلام يُفرض بالقوة ضد رغبة الفلسطينيين، لن يكون أبدًا سلامًا حقيقيًّا، سوف يتلاشى.
كمال ناصر

تخبرنا الجاسوسة يائيل مان عن تفاصيل التخطيط للعملية. فقد حكت عام 2020 عن الكواليس التي سبقت التنفيذ، ودورها في العملية. دخلت يائيل لبنان باعتبارها كاتبة قصصية، لكنها جاءت بيروت لتنتج فيلمًا وثائقيًّا لشركة إنتاج بريطانية. لكن الدور الحقيقي لها كان التجهيز لعملية ينبوع الشباب، أو عملية فردان، أو عملية هيبي، كلها أسماء ستُطلق لاحقًا على ما تُشارك يائيل في تخطيطه.

استأجرت يائيل بيتًا في عمارة مقابلة لعمارة تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. في تلك الفترة كان العديد من أفراد المقاومة يعيشون في نفس العمارة. من بينهم الثلاثة الذين جاءت خصوصًا لهم. تحكي أنها تعرفت على أحد الثلاثة، لم تذكر اسمه، لكنها قالت إنها شربت القهوة في بيته قبل أيام من تنفيذ العملية. من لحظة التأجير للحظة شرب القهوة كانت يائيل تحرص على التقاط صور لكل شيء وإرسالها للموساد الإسرائيلي.

ثلاثة آلاف جندي لاغتيال الثلاثة

ركزت الصور بطبيعة الحال على المنطقة التي يقطن فيها الثلاثة. كما شملت صورًا مقربة لوجه الحارس الشخصي لكمال عدوان. كما جندت أفرادًا من لبنان، وبالقرب من العمارة المستهدفة، لينقلوا لها أخبارًا عن الثلاثة وجدول أعمالهم وخطوط سيرهم. لكنها تؤكد أن أحدًا ممن عمل معها لم يعرف أنها إسرائيلية أو أن المعلومات تُرسل للموساد.

حين اكتملت المعلومات الاستخباراتية، رتبت يائيل وسيلةً لنقل المنفذين داخل بيروت لموقع الاغتيال. أتى ذلك بعد نجاحهم في التسلل عبر البحر إلى بيروت في ليلة العاشر من أبريل/ نيسان 1973. كان المشرف على التنفيذ هو إيهود باراك، وتحت إمرته نخبة من الكوماندوز الإسرائيلي. قامت وحدة منهم بتفجير مقر الجبهة الشعبية، في حي الفكهاني في بيروت. بينما كانت يائيل تراقب المشهد من نافذة منزلها. في ذلك الانفجار تقول وثائق الاستخبارات الإسرائيلية التي كُشف عنها عام 2019، إن الانفجار أسفر عن استشهاد ما لا يقل عن 35 فردًا.

إيهود باراك، رئيس الوزاء الإسرائيلي لاحقًا، ومعه أمنون شاحاك، وزير السياحة لاحقًا، وصلا إلى بيروت على متن زوارق سريعة. كانوا قد تجمعوا سابقًا في قاعدة سلاح البحرية في حيفا. وفي الساعة الرابعة عصرًا بدأت البوارج الإسرائيلية تُبحر حاملةً إياهم تجاه بيروت. ثم في وسط البحر غيروا الزوارق بأخرى أسرع وأهدأ صوتًا. وبعد وصولهما إلى السواحل كان عملاء آخرون بانتظارهما على الشاطئ، رفقة السيارة التي استأجرتها يائيل.

وبعد تنفيذ العملية عاد باراك وشاحاك والآخرون بنفس الطريقة لإسرائيل. وقد كان في انتظارهم 21 جنديًّا من سرية هيئة الأركان، و34 من الكوماندوز البحري، و20 من سرية المظليين. كذلك كانت القوات الجوية والبرية الإسرائيلية في حالة تأهب قصوى، للتدخل إذا تعقدت العملية، أو للتشويش على الأمن اللبناني ريثما يهرب المنفذون. تقول يديعوت أحرنوت إن إجمالي الجنود الذين شاركوا في تلك العملية استخباراتيًّا وتنفيذيًا بلغ 3 آلاف جندي.

 عملية الهيبي

في البداية انطلقت الفرقة إلى أحد المباني في فردان. فقد كان معهم تأكيد حديث من يائيل أن العصافير في العش، على حد وصف التقرير الذي نشرته يديعوت أحرنوت، في مايو/ آيار 2019. ليقوموا بتصفية أبو يوسف النجار أحد أبرز قادة فتح، ومعه زوجته التي حاولت أن تحول بينه وبين رصاصهم. ثم اغتالوا كمال عدوان المسئول العسكري لفتح، واكتمل مثلث الدم باغتيال كمال ناصر المتحدث باسم منظمة التحرير. كما قُتل في العملية شرطيان من لبنان، وحارس للعقار، وعجوز إيطالية تبلغ من العمر 70 عامًا. تلك الجارة قتلتها العبوات الناسفة التي ألقاها أحد الجنود على شقة النجار.

تقول القوات الفلسطينية إن حواجز الأمن الداخلي اللبناني منعت عناصر المنظمة من الوصول لفردان للتصدي للقوة الإسرائيلية. نثرت القوات الإسرائيلية السيارات التي أقلتها في مناطق متفرقة في لبنان، وغادرت. فطبقًا للرواية التي ظهرت لاحقًا فقد توجه 6 أفراد إلى بيروت من عواصم أوروبية مختلفة قبل أيام من تنفيذ العملية. نزلوا في فندق سندس بجوازات سفر مزورة. ومن الفندق استأجروا سيارات أمريكية ركنوها في موقف السيارات التابع للفندق.

ثم التقوا في اليوم التالي لوصولهم بالجاسوسة يائيل في فندق انتركونتنتال، وسلمتهم المعلومات التي جمعتها في يوم وصولهم. ثم التقوا بعد يومين آخرين في نفس الفندق، بعد أن تأكدت من أن الثلاثة سيتواجدون في منازلهم في الموعد المزمع لتنفيذ العملية.

 بعد العملية أعلن رئيس الوزراء اللبناني صائب سلام، استقالته بسبب عجز الجيش اللبناني عن تحقيق الأمن وإيقاف فرقة كوماندوز تقودها امرأة شقراء. اتضح لاحقًا أن تلك المرأة هى إيهود بارك متخفيًا. العجز اللبناني ظهر أيضًا في قيام فرقة الاستخبارات التي ساعدت يائيل في جمع المعلومات بالخروج من لبنان بعد العملية بسلاسة، وتوجهت إلى شمال لبنان في طرابلس لتشارك في عملية اغتيال إضافية ستُنفذ لاحقًا، وهي اغتيال سعيد السبع، المعروف بأبو باسل.

لهذا أُطلق عليها عملية هيبي، نسبة إلى ملابس الهيبز، التي تنكرت فيها أفراد القوة الخاصة أثناء وقبل مهاجمة منازل القادة الثلاثة. الغضب اللبناني أتى من أن تلك العملية هي الأولى من نوعها التي يشارك فيها الجيش الإسرائيلي نفسه. فالتعاون بين الموساد والجيش كان منعدمًا فيما يتعلق بالاغتيالات.

أكتوبر تهدم صرح الخيال

 الفلسفة الإسرائيلية من وراء ذلك أنه بإمكان الاحتلال نفي المسئولية عن عمليات قام بها الموساد، لكن لا يمكن نفي العلم بقيام فرقة رسمية من الجيش بتنفيذ عملية ما. ما سيترتب عليه مسئولية للدولة ككل، لكن في حالة الموساد فالإنكار سيكون سيد الموقف. لكن في عملية فردان آثر الإسرائيليون أن يقوم الجيش لا الموساد بتنفيذ العملية في قلب بيروت.

أما يائيل فآثرت البقاء أسبوعًا بعد الانفجار كي لا تلفت الأنظار لها. شاركت في مراسم العزاء كذلك. لكن لاحقًا نُقلت جوًّا من بيروت إلى مطار هيثرو في لندن. يحاول رون بركمن في كتابه، انهض واقتل أولًا: التاريخ السري لاغتيالات إسرائيل، أن يصف صدمتها مما حدث. فقد أورد رسالة أرسلتها من بيروت صبيحة الاغتيال إلى الضابط المسئول عنها تخبره فيها أنها ترتجف من الليلة الفائتة، وأن نوبات الذعر لم تفارقها. وأخبرته في نهايتها أنها رأت جانبًا مرعبًا من الإسرائيليين، وأنها قد أدركت بعد فوات الأوان لماذا يوجد هذا الكم الهائل من الكراهية لليهود.

لكن هذا الخطاب الباكي لا يغير من فداحة ما قامت به يائيل. فمع قيمة الأسماء التي ساهمت في اغتيالها، كانت عملية فردان هي السبب في ارتفاع أسهم إيهود باراك العنصري المتطرف السياسية. ماتت يائيل في أغسطس/ آب عام 2021، بعد أن ظلت تعيش في ظروف محوطة بالسرية بسبب دورها البارز في هذه العملية، لمدة 15 عامًا، وماتت عن عمر يناهز 85 عامًا.

كذلك فإن إيهود باراك بينما يثمن دورها وحيوية العملية التي ساهمت في تنفيذها، فإنه كشف في لقاء له أن العملية كان لها أثر سلبي على القيادة الإسرائيلية. فقد قال إنهم حين عادوا من بيروت استنتج قادة الجيش أن القوات الإسرائيلية باتت جاهزة لأي هجوم، وأن العملية ستترك أثرًا مخيفًا في نفوس من يحاول المساس بأمن إسرائيل. يضيف باراك أن القادة ركنوا إلى تلك الحقيقة حتى فاجأتهم حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973.

والأهم من حرب أكتوبر/ تشرين الأول في كسر الغرور الإسرائيلي، وإثبات أن المقاومة لا تموت بموت أفرادها، هو استمرار المقاومة الفلسطينية في عملياتها رغم الأسماء التي ترتقي منها كل حين. فلا تزيد إسرائيل عن كونها تستفز كرامة أسد جريح، فلا يجد أمامه إلا استرداد الكرامة، ولو كان الثمن دماء وأرواح كل من فيهم، لا فرق بين قائد وتابع، أو شاب وشيخ.