على مدار اليومين الماضيين، خرج اللبنانيون إلى الشوارع، محملين بتراكمات أعوامٍ مضت من الفساد والعجز الحكومي. اتفق المتظاهرون على شيء واحد، مجمل بلا تفاصيل، هذه الإدارة فاشلة وغير قادرة على تلبية المتطلبات الاقتصادية والسياسية للشعب اللبناني.

الثلاثاء 14 أكتوبر/ تشرين الأول، اندلعت في ساعات الليل حرائق كبيرة بعدة بلديات لبنانية من الجنوب إلى الشمال، كان أشدها في مناطق «الدامور والشوف» التي تحمل واحدة من أهم المحميات الطبيعية في لبنان والمنطقة، بفعل الرياح العاتية توسعت رقعة الحرائق، حتى تخطت المأساة حاجز 100 حريق، بمختلف الأراضي اللبنانية.

الدولة اللبنانية بكامل أجهزتها لم تنجح في التعامل مع الحرائق، لم تستطع إخمادها ولا الظهور بموقف المسؤول عن إنقاذ أرواح المواطنين والمساحات الخضراء، وبدلًا من ذلك طلبت الحكومة اللبنانية طائرات من قبرص واليونان لإخماد الحرائق. هذا العجز يأتي بعد ما استوردت لبنان طائرات من طراز «سيكورسكي» بتكلفة 14 مليون دولار أمريكي في 2009، لم تُستخدم في إطفاء الحرائق، لأنها قابعة في المخازن لا تخضع للصيانة ولا يوجد في وزارة الداخلية أو الدفاع المدني طيارون أكفاء لاستخدامها.

هطلت الأمطار وأُخمدت الحرائق، وعاد اللبنانيون إلى منازلهم بعد ما اضطروا لتركها والمبيت بالشوارع والساحات خوفًا من النيران. شارك رجال الدفاع المدني – وهم عمالة مؤقتة – ومتطوعون فلسطينيون في عمليات الإطفاء ومساعدة الفارين من الحرائق. وزير البيئة سبق له التحذير من هذه الحرائق دون أن يكترث لتحذيراته أحد، بينما استخف سعد الحريري رئيس الحكومة بقوله إن «هذا الأمر يحدث في العالم كله»، وساهم على نفس الخط من اللامبالاة السياسية النائب ماريو عون، الذي قال: «لماذا تلتهم النيران المناطق المسيحية فقط؟!».

المزيد من الضرائب والتقشف والوضع الاقتصادي السيئ

لم يفق اللبنانيون من الحرائق التي أظهرت عجز الدولة وخدماتها إلا وخرج وزير الإعلام جمال الجراح يوم الخميس 17 أكتوبر، ليعلن عن ضريبة يومية على المكالمات الهاتفية في تطبيق «الواتس آب» بواقع 6 دولارات شهريًا، على أن يبدأ العمل بها مطلع يناير/ كانون الثاني المقبل، تبرير الوزير لهذه الضريبة أن الحكومة تحتاج إليها بسبب كلفة الإنترنت ولأن الاتصالات وضريبة القيمة المضافة هي أعلى إيرادات الخزينة اللبنانية.

صاحب هذا القرار حزمة أخرى من الضرائب المقترحة على السجائر الأجنبية بمقدار 1.3 دولار على كل علبة، ونصف دولار على كل علبة محلية، بالإضافة لضرائب جديدة على المحروقات وزيادة ضريبة القيمة المضافة.

بالإضافة لمقترحات أخرى في الموازنة لتقليل العجز وزيادة الإيرادات، كخفض الدعم عن الكهرباء بواقع 663 مليون دولار سنويًا، وزيادة الأسعار بمقدار 77%، وقبل أسابيع كانت قد بدأت أزمة بالاحتياطي النقدي اللبناني حيث ظهرت فجوة بين سعر الصرف الرسمي للدولار أمام الليرة مقابل السعر الفعلي، وانتعشت على إثر ذلك السوق السوداء.

يأتي ذلك مع تحذيرات صندوق النقد من مخاطر تحول لبنان إلى يونان جديدة، ومع وجود مؤشرات خطيرة مثل ارتفاع الدين العام إلى 152% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مرشح للزيادة إلى 180% في 2022، خلافًا لاشتراط بعض المانحين في مؤتمر سيدر لضخ أموال داخل الاقتصاد اللبناني البدء بإجراءات تقشفية.

اندفعت الجماهير للشوارع في أغلب محافظات لبنان غاضبة وعبرت عن غضبها بحرق صور الزعماء السياسيين، واقتحام مكاتب نواب البرلمان، غير مدفوعين بحسابات طائفية أو إقليمية. لأول مرة في مناطق نفوذ حزب الله بالجنوب تُحرق صور حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، وتُحرق معه صور رئيس البرلمان نبيه بري، وفي طرابلس معقل السنة تُحرق صور سعد الحريري، وفي وسط بيروت تُحرق صور جبران باسيل.

ورغم إعلان وزير الاتصالات محمد شقير تراجع الحكومة عن ضريبة الواتس آب، لكن هذا لم يغير من الوضع في شيئاً، الآلاف من الشباب والمواطنين الآن يحرقون إطارات السيارات ويعتصمون في الساحات العامة وأمام سرايا الحكومة وبأغلب البلديات.

مكونات الحراك الحالي بلبنان هم أبناء الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة، ناشطون بالمجتمع المدني ومتجاوزون للطائفية والانتماءات المعروفة في لبنان. وهم ممن ضجروا من نظام المحاصصة الطائفية، ومن انهيار الخدمات ومن الأوضاع الاقتصادية التي هي في غاية السوء، ومن انتشار الفساد الذي يضع بلدهم في المرتبة 138 من أصل 180 في مؤشر مدركات الفساد التابع للأمم المتحدة.

النخب السياسية في لبنان والنظام الزبائني

مع زيادة وتيرة التظاهر بدأ الكثير من أطراف النخبة السياسية التنصل من أسباب الغضب وكأنهم لا يملكون من الأمر شيئاً، فرغم وجود حكومة وحدة وطنية ليس لها معارضة بالبرلمان لأن جميع الأحزاب شركاء بالحكومة، فإن أكثر من طرف سارع بإلقاء التهم على الآخرين، مثل وزير الخارجية جبران باسيل الذي قال إنه كان يسعى للإصلاح ووجه دعوة لرئيس الحكومة سعد الحريري بالاستقالة، أو بدعوة سمير جعجع – رئيس حزب القوات اللبنانية – الحريري للاستقالة، ودعوة وليد جنبلاط – رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي – أنصاره للتظاهر ضد «العهد»، أي تركيبة الحكم القائمة، أو بمحاولة حزب الله التنصل من كونه مشاركًا في قرارات الضريبة وإعلان ذلك بعد انتشار صور حرق لافتاته.

وصولاً لرئيس الوزراء سعد الحريري الذي ألغى جلسة الحكومة وخرج في مؤتمر صحفي مساء الجمعة معلنًا عن غضبه من شركائه بالحكومة وأدائهم غير المسؤول وعرقلتهم مشاريع الإصلاح الاقتصادي، وأنه لا يوجد اختيارات كثيرة أمام الحكومة، وعلينا التوافق خلال 72 ساعة وإلا سيحدث ما لا يحمد عقباه.

يقوم النظام السياسي في لبنان على اتفاق الطائف لسنة 1989، الذي أنهى سنوات الحرب الأهلية – التي قامت أيضاً بسبب اهتراء الميثاق الوطني اللبناني من جراء التجاذبات الإقليمية – وضمن ترويكا حاكمة تتبادل الأدوار بينها في الحكومة والمعارضة، لضمان تمثيل سياسي لجميع الطوائف والاتجاهات السياسية، لكن هذا النظام أصبح عبئًا ثقيلًا على اللبنانيين.

يُدار النظام السياسي حسب توافقات أو تجاذبات إقليمية بين السعودية وطهران، تمكّن التحالف الحاكم من القادة الطائفيين ورجال الأعمال والأمنيين من البقاء في مواقعهم عبر نمط اقتصاد ريعي يقوم على توزيع الدخل والخدمات على أنصارهم ومؤيديهم، وساهم في تعزيز ذلك النفوذ وهذه المعادلة السياسية التدفق المستمر للأموال من خارج لبنان سواء في شكل استثمارات أجنبية أو مساعدات مالية، أو تمويل سياسي من الشركاء الإقليميين.

فيضمن زعماء الطوائف التواجد البرلماني الدائم نتيجة التمويل وتأييد الطوائف مقابل الامتيازات المالية، ويتبادلون الحكم وفق المعادلات الإقليمية، ويتمكنون من السيطرة على الموارد وزيادة مداخيلهم المالية للاستعراض بها في حفلات الزفاف أو اقتناء الطائرات الخاصة، أو الارتباط بالفنانات، ومع أي أزمة اقتصادية أو سياسية تتم الدعوة لانتخابات جديدة لتدخل نفس الأحزاب ونفس الشخصيات للبرلمان والحكومة، لا برامج أو سياسات حقيقية للنهوض بالاقتصاد أو الخدمات، لا سعي حقيقي لقيام نموذج دولة «المواطنة» والوحدة ما دام أن المحاصصة الطائفية والرعاية الإقليمية تضمن مواقع الحكم.

كيف ينجح الحراك اللبناني في التغيير؟

في 2016 خرجت في الساحة السياسية قائمة انتخابية باسم «بيروت مدينتي» كان إعلانها السياسي والبرنامجي لخوض انتخابات البلديات أو المحليات مميزًا، نظرًا لأنها قوة خارج النظام السياسي اللبناني التقليدي، وكونها بنت خطابها بناء على الحراك السابق «طلعت ريحتكن» والذي كان سببه أزمة جمع النفايات والتخلص منها في لبنان كأحد الخدمات المنهارة.

إذا استقالت الحكومة في لبنان لامتصاص الحراك الجماهيري ستعود المشكلة بذاتها، لأن نفس الأشخاص أصحاب النفوذ سيشكلون الحكومة مرة أخرى، وينتهي الحراك بالانقسام السياسي حول من يتحمل المسؤولية ومن يشكل الحكومة وهو ما قد يصل في بلد مثل لبنان لغياب رئيس جمهورية لمدة سنتين لأن التوافق لم يحدث، وبالتالي لا يوجد مسؤول حكومي يتحمل غياب الخدمات والفشل السياسي.

ما يحتاجه الحراك اللبناني هو نمط «بيروت مدينتي» أو «تجمع المهنيين السودانيين»؛ تنظيم من المجتمع المدني يمثل الحراك بكل مناطقه الجغرافية وينتزع تمثيله السياسي من شرعية هذا الحراك المتجاوز للطائفية. وجود هذا التنظيم وبهيراركية مناطقية سيحمي هذا الحراك من خطر الانقسام أو التجاهل أو التهرب من المسؤولية وتعليق المطالب حتى يتم تشكيل حكومة جديدة.

وبإمكان هذا التنظيم وفقًا لخبرات سابقة أن يفتح التفاوض الجاد بين ممثلي الحراك ونواب البرلمان والحكومة والمسؤولين عن الموازنة الجديدة، وبذلك يدخل للساحة السياسية لاعب جديد يغير من هذه المعادلة البائسة التي لا ضحايا لها سوى لبنان.

على الجانب الاقتصادي، فالحراك ظهرت به شعارات يسارية واضحة تهاجم صندوق النقد ومؤسسات التمويل الأجنبية، وتهاجم إهدار الأموال في معاشات وامتيازات السياسيين من زعماء الطوائف، وبلورة هذا الخطاب والغضب يجب أن يتوجه إلى إقرار ضرائب تصاعدية لتحقيق العدل الاجتماعي وتوفير أموال بالفعل للموازنة اللبنانية، وإعادة النقاش والمحاسبة على الامتيازات المالية لزعماء الأحزاب الحاليين والسابقين من معاشات ومرتبات وغيرها، فمن غير المعقول ألا يصيب التقشف سوى الطبقة الوسطى والفقراء وحدهم.

كلما تأخرت الإصلاحات الحقيقية زادت الفرصة لإنهاء الحراك أو تحوله لفوضى شاملة أو احتراب طائفي غير محمود العواقب في بلد مليء أصلاً بالتدخلات الإقليمية، فإما بلورة الحراك سياسيًا أو السعي لاحتوائه بالطرق التقليدية المعتادة مع اجتذاب بعض المنح والمساعدات المالية من دول الخليج لسد الفجوة وإسكات الأفواه، وسنرى في الأيام المقبلة أي المسارات ستتحقق.