ثلاث سنوات وأكثر مرت على الزلزال السياسي الذي أصاب الحزب الديمقراطي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، ما زال الحزب يتعافي من تلك الهزيمة إلى اليوم.

طيلة السنوات الثلاثة سعى الديمقراطيون بكل الطرق لمعالجة آثار ما بعد انتخاب ترامب حتى بداية العام الحالي حينما حاولوا إزاحته عبر محاكمته أمام الكونجرس ومجلس الشيوخ من أجل إرهاق الحزب الجمهوري.

لم ينجح الديمقراطيون في ذلك، لكنهم قد ينجحون في إزاحة ترامب عبر الانتخابات الرئاسية المقرر لها في الثالث من نوفمبر 2020.

في تلك الأجواء بدأت الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في الثالث من فبراير/ شباط الحالي، ثمة تعقيدات كثيرة في النظام الانتخابي الأمريكي خاصةً في الانتخابات التمهيدية، التي تختلف من ولاية لأخرى. لكن بدون الدخول في التعقيدات وكيفية حسم الانتخابات التمهيدية يكفي أن نعرف أن الأصوات ليست هي ما تحكم من سيفوز، حيث من المهم أيضًا عدد المندوبين.

يبلغ عدد المندوبين في الحزب الديمقراطي 3979 مندوبًا. وإذا فاز أي مرشح بأكثر من 50% منهم خلال الانتخابات التمهيدية، أي 1990 مندوبًا، فسيصبح مرشح الحزب من خلال تصويت في المؤتمر. لكن، إذا وصلنا إلى المؤتمر الديمقراطي المقرر في يوليو/ تموز القادم ولم يكن لدى أي مرشح أكثر من 50% من أصوات المندوبين، سنواجه ما يُعرف بالمؤتمر التوافقي.

في المؤتمر التوافقي، سيصوت جميع المندوبين البالغ عددهم 3979، مرةً أخرى، لكن هذه المرة سينضم إليهم ما يقارب الـ 771 من «المندوبين الكبار – super delegates» وهؤلاء من كبار مسئولي الحزب السابقين والحاليين، ولهم مطلق الحرية في التصويت لمن يرغبون.

من هم أبرز المرشحين؟ وأين يقف كل منهم؟

قبل بداية الانتخابات التمهيدية كان هناك 29 مرشحًا يحاولون الفوز بترشيح الحزب، لكن ما إن بدأت الانتخابات حتى انسحب ثمانية مرشحين نتيجة لصعوبة تمويل حملاتهم. بعد انتهاء ولايتي أيوا ونيوهامشير انسحب أربعة مرشحين آخرون. تتركز الأنظار في تلك الانتخابات على خمسة مترشحين كبار يتصدرون استطلاعات الرأي على مستوى الولايات المتحدة:

1- بيرني ساندرز: سيناتور فيرمونت والاشتراكي الأمريكي الذي خاض سباق الانتخابات التمهيدية السابقة في 2016 وخسر أمام هيلاري كلينتون. ساندرز أحد أكثر الأصوات المرموقة داخل السياسة الأمريكية في الوقت الحالي. ينتمي ساندرز للجناح اليساري داخل الحزب الديمقراطي، والذي يتشكل بالأساس من مجموعات من الشباب والمهاجرين يعملون على قضايا مرتبطة بالمساواة الاقتصادية والاجتماعية. يتقاطع هؤلاء بشكل كبير مع التغيرات الديموغرافية التي تمر بها الولايات المتحدة من زيادة ملحوظة في عدد الناخبين غير البيض.

2- جو بايدن: نائب أوباما السابق لـ 3 سنوات، وأحد قيادات الحزب المهمة في الوقت الحالي، ويمثل الجناح القديم في الحزب. يبني برنامجه الانتخابي بوصفة الشخص الوسطي الذي لا يملك آراء سياسية متطرفة، وبالتالي يحظى بدعم كبير من كبار الحزب الديمقراطي، ما يجعل فرصه أكبر في الفوز بترشيح الحزب، لا سيما إذا اقتضى الأمر اللجوء لتصويت المندوبين الكبار وهو من المرجح بشكل كبير أن يحدث في ظل المنافسة الكبيرة التي تصعِّب من إمكانية حصول أي مرشح على نسبة تزيد عن 50%.

3- بيت بوتيدغيدج: أصغر المرشحين، 38 عامًا فقط، يملك سجلًا عسكريًّا جيدًا حيث خدم في البحرية الأمريكية. هو المرشح الوحيد في السباق المعروف بميوله المثلية. نجح بشكل كبير في عملية جمع التبرعات من أجل حملته، وهو ما جعله منافسًا قويًّا حتى الآن لساندرز في ولايتي أيوا ونيوهامشير.

4- إليزابيث وارن: يمكن اعتبارها المرأة الأكثر حظوظًا في تلك الانتخابات، وهي سيناتور عن ولاية ماستشوتس، لها باع طويل في السياسة الأمريكية داخل الحزب الديمقراطي. تقترب وارن في ملامح برنامجها الانتخابي كثيرًا من ساندرز، لا سيما في موضوعات المساواة الاقتصادية، إذ تطالب بفرض ضرائب كبيرة على المليادريرات في الولايات المتحدة.

5- مايكل بلومبيرج: الملياردير وعمدة نيويورك السابق، ومؤسس وكالة بلومبيرج للأنباء. دخل بلومبيرج السباق متأخرًا، لكنه سرعان ما صعد في استطلاعات الرأي على المستوى الوطني بفضل عمله السياسي السابق وعلاقاته الجيدة داخل الحزب الديمقراطي. يمتلك بلومبيرج آله إعلامية ومالية كبيرة جدًّا وهو ما يجعله قادرًا على الاستمرار في المنافسة أطول فترة ممكنة.

أين نحن الآن؟

بدأت الانتخابات التمهيدية للحزب في ولاية أيوا، وانتهت بفوز بيت بوتيدغيدج، بـ 13 مندوبًا، في المقابل حصل بيرني ساندرز على 12 مندوبًا، بالرغم من حصول ساندرز على صوتين أقل فقط من بوتيدغيدج في المجالس الانتخابية في الولاية.

تأخر إعلان النتائج والصعوبات التقنية في عد الأصوات لم تكن مفاجئة، فهي تحدث تقريبًا كل انتخابات تمهيدية خاصة في الولايات التي يتم فيها الانتخاب عن طريق المجالس الانتخابية (Caucus) والتي يديرها مسئولو الحزب الديمقراطي وليست الانتخابات التمهيدية (Primaries) التي تديرها حكومات الولايات.

بعدها بأسبوع بدأت الانتخابات التمهيدية في نيوهامشير، والتي انتهت بفوز بيرني ساندرز بالولاية الشمالية، حيث حصد 25.3 % من الأصوات، أي 9 مندوبين، بالإضافة لبوتيدغيج الذي فاز بـ 24.4 و 9 مندوبين آخرين . ليصبح بوتيدغيج متصدرًا في الولايتين عن ساندرز بفرق مندوب واحد.

تجدر الإشارة إلى أن كل من أيوا ونيوهامشير هي ولايات صغيرة، سواء على مستوى عدد المندوبين أو حتى على مستوى تعبيرها عن توجهات الناخبين الأمريكيين، فالولايتان أغلبيتهما من الناخبين البيض، حيث تزداد نسبة السكان البيض في الولايتين عن 90%، بينما لا تتخطى نسبة الأمريكيين البيض على المستوى الوطني الـ 60.4%. لكن أداء ساندرز وبوتيدغيج القوي في الولايتين يدفعهما إلى الأمام، خاصة قبل الثلاثاء الكبير المقرر 3 مارس/ آذار القادم حيث تصوِّت 16 ولاية في نفس اليوم في الانتخابات التمهيدية.

في هذا اليوم ستصوت الولايات التي تضم أكبر عدد من المندوبين مثل كاليفورنيا (415 مندوبًا) وتكساس (228 مندوبًا). الفائز في هذا اليوم يُعتقد بشكل كبير أنه سيفوز ببطاقة ترشيح الحزب. بعد الثلاثاء الكبير بأسبوع واحد سيكون هناك تصويت جماعي أيضًا لـ 6 ولايات أمريكية في نفس الوقت، تضم تلك الولايات 352 مندوبًا.

من يحسم السباق؟

يمر الحزب الديمقراطي بأزمة كبيرة تهدد بانقسام الحزب نفسه، تلك الأزمة في قلبها هي أزمة صراع بين أجيال مختلفة. فالشباب داخل الحزب الديمقراطي منفتحون بشكل أكبر على قضايا مثل الاحتباس الحراري واللامساواة الاقتصادية.

يريد هؤلاء الشباب إعادة تشكيل المجال السياسي داخل الولايات حتى إعادة الهيكلة لمؤسسات الديمقراطية الأمريكية. هؤلاء الشباب موزعون بين ثلاثة، هم: ساندرز، ووارن، وبيوتيغدج. يظهر هذا الميل لإصلاح الديمقراطية الأمريكية في خطاب ساندرز الذي يريد إجراء تغييرات جذرية على القوانين الانتخابية داخل الحزب الديمقراطي وداخل السياسة الأمريكية، منها إنهاء فكرة المجمع الانتخابي نحو مزيد من الديمقراطية المباشرة. أيضًا بوتيدغيدج طرح فكرة زيادة أعضاء المحكمة العليا وإنهاء سيطرة السياسة الحزبية على اختيار أعضاء المحكمة العليا، كذلك إعطاء أدوار أكبر للمحكمة في فرض القوانين على المستوى الفيدرالي مثل قوانين حق الإجهاض وزواج المثليين.

على الجانب الآخر يبدو الحرس القديم للحزب مستمرًّا في دعم بايدن الذي يروج لنفسة في الانتخابات التمهيدية على أنه الشخص الوسطي الذي لن يؤدي انتخابه إلى مزيد من الانقسام في الحزب الديمقراطي. لا يؤيد الحرس القديم الهجوم على الرأسمالية الأمريكية الكبيرة من داخلها كما يفعل ساندرز، أو كما تحاول إليزابيث وارن أن تفعل بطريقة أكثر إصلاحية، بل يريدون وجود مثل تلك الشركات، خاصة أن كثيرًا منها يدعم الحزب الديمقراطي. كل ما يهم هذا الجناح هو التخلص من ترامب ولم شمل الحزب مرة أخرى، خاصة في ظل سيطرته الحالية على الكونجرس.

يبدو أيضًا أن أزمة الحزب الديمقراطي هي في القلب من أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة، والتي كان التجلي الأبرز لها هو صعود ترامب. يُنظر على نطاق واسع لصعود ترامب على أنه نتيجة التغيرات الديموغرافية التي تعيشها الولايات المتحدة والتي سوف تعيشها في العقد القادم. يتوقع مكتب الإحصاء الفيدرالي أن تصبح نسبة الأمريكيين البيض في 2045 حوالي 49% فقط من نسبة السكان بسبب زيادة معدلات المواليد في المجموعات العرقية الأخرى، خاصة الأمريكيين من أصول لاتينية والسود.

يدفع ذلك التغير السريع في نسب السكان المزيد من الأمريكيين البيض نحو العداء لسياسات الهجرة والشعور بتهديد أكثر من الأعراق الأخرى، ويدفع بدوره هذا التغيير الديموغرافي المزيد من الطبقة العاملة والوسطى البيضاء الأمريكية ناحية المحافظة السياسية، سواء بالتصويت للحزب الجمهوري وترامب كما حدث في الانتخابات الرئاسية الماضية أو بالتصويت للأجنحة التقليدية في الحزب الديمقراطي كجو بايدن.

في السنوات الأخيرة بُنيت القاعدة الانتخابية للحزب الديمقراطي من تحالف الأقليات بشكل كبير، يعتمد الحزب في خطابة الانتخابي بمختلف أجنحته على التقرب من تلك الأقليات، أو في أحيان كثيرة تجاوز خطاب العرق نفسه كجزء من تصدير فكرة أن الحزب يشمل الجميع، لكن هذا التعامل يفشل في معالجة أزمة اللامساواة التي تتقاطع في الولايات المتحدة بشكل كبير مع العرق، بالتالي تشعر تلك الأقليات أنها غير ممثلة بالقدر الكاف داخل الحزب الديمقراطي الذي يصوتون من أجله.

في الآونة الأخيرة بدأ مرشحو الحزب ينتبهون لتلك المعضلة، وهو ما جعل خطابات ساندرز تحديدًا تركز على تلك التقاطعية بين العرق والفقر في الولايات المتحدة، في محاولة لنيل أصوات هؤلاء الفقراء السود أو اللاتين الأصل.

لكن على الجانب الآخر من المعادلة السياسية الأمريكية نجح الجمهوريون في تغذية هذا الخوف عند الأمريكيين البيض. يصدِّر الجمهوريون وترامب فكرة مفادها أننا يمكننا تفادي تلك التغيرات الديموغرافية الحادة عن طريق سياسات أكثر صرامة للهجرة، وإعادة الاعتبار للصناعة الأمريكية التي يمكنها أن تعيد الطبقة العاملة البيضاء لأوضاعها المعيشية الجيدة كما كانت في الخمسينيات والستينيات، وبالتالي زيادة معدلات المواليد بين الأمريكيين البيض.

تلك الفكرة وعلى الرغم من تهافتها فإنها نجحت في حشد الطبقة العاملة البيضاء خلف ترامب في الانتخابات الأخيرة، وهو ما جعلة يركز على حرب تجارية مع الصين والمكسيك وكندا من أجل إعادة تلك المصانع مرة أخرى للولايات المتحدة.

ركز ترامب بشكل كبير في سنواته الثلاثة الماضية على خلق الوظائف وطمأنة الطبقة العاملة البيضاء على مستقبل أكثر ازدهارًا، ورغم أن نجاحاته في ذلك تبدو مشكوكًا فيها بشكل كبير، خاصةً في ظل تغيرات الظروف العالمية، إلا أن الرجل نجح حتى الآن في تصوير نفسه كمنقذ للأمريكيين البيض، وهو ما يعقد من مهمة منافسه، المرشح الديمقراطي القادم.

فشل الحزب الديمقراطي طيلة السنوات الثلاثة الماضية في أن يخلع عن ترامب عباءة الطبقة العاملة البيضاء، خاصة في المدن الصناعية القديمة مثل ميتشجان. وظل يتمترس خلف سياسات الهوية دون التفكير الجدي في حل التناقضات الكامنة وراء صعود ترامب نفسه، حتى محاولات الإصلاح من داخل الحزب، والتي تتمثل في أشخاص مثل ساندرز ووارن وألكسندار كورتيز وغيرهم تُواجَه برفض أو امتعاض من المسئولين الكبار في الحزب.

يُصعِّب ذلك من مهمة انتقال الحزب من تحالف واسع للأقليات، إلى تحالف واسع للسياسة التقدمية يضم الطبقات الوسطي والعاملة بغض النظر عن عرقهم. تلك الحالة بالطبع تُسهل من مهمة ترامب في إعادة الانتخاب، خاصةً بعد خروج الرجل بشكل جيد من محاكمته أمام الكونجرس واستمرار تصديره لصورة المنقذ للأمريكيين من فساد النخب السياسية، ديمقراطيةً كانت أو جمهورية.