بعد أن كان الجيل الحالي محظوظًا بمشاهدة أطول منافسة في تاريخ كرة القدم بين لاعبيّن، ميسي وكريستيانو، زاد الهوس بصناعة مشهد مشابه. ومع ظهور عدد لا بأس به من المواهب طوال تلك الفترة، لم ترتفع أسهم أي منها، كما ارتفعت أسهم «إيرلينغ هالاند» و«كيليان مبابي».

في ذهاب دور الستة لدوري أبطال أوروبا 2020/21، أحرز «هالاند» هدفين في مرمى إشبيلية، ليخرج بعد المباراة موضحًا أن رؤية هاتريك «مبابي» في مرمى برشلونة في اليوم السابق، كان حافزًا له لفعل ما فعل. رفع الجميع أيديهم بعد هذا التصريح، واعتبروا الأمر شبه رسمي، هذا الثنائي سيخلف سابقه، وسيتكرر المشهد مرة أخرى.

لكن بالحديث عن «هالاند» منفردًا، وأحقيته بهذه المكانة رغم صغر سنه، هل يُمنَح الاستحقاق فقط بسبب غزارة أهدافه؟ أم أنه يفعل ما يتجاوز ذلك بكثير؟

الحكمة

في يوليو من عام 2021، سيبلغ «إيرلينغ» عامه الواحد والعشرين، لذا يبدو الحديث عن اتصافه بالحكمة غير مناسب لعمره وخبراته، لكن بالنظر إلى قراراته بسوق الانتقالات، ستكتشف أن الوصف منطقي. عندما بدأ نجم «هالاند» بالبزوغ في فريق مولده النرويجي (حيث كان أولي جونار سولشاير مدربه)، اختار نادي ريد بول سالزبورج النمساوي في يناير 2019، ليكون محطته المقبلة.

اكتسبت مجموعة أندية ريد بول بشكل عام- خصوصاً فرعيّ سالزبورج ولايبزج- سمعة باعتبارها واحدة من أفضل الأماكن لتطوير المواهب. أضف إلى ذلك، أسلوب اللعب المميز الذي رسم ملامحه العراب الألماني «رالف رانجنيك»، حيث الإيقاع المرتفع، والضغط العالي والتحولات السريعة.

خلال عام واحد فقط، خاض 27 مباراة، وأحرز خلالها 29 هدفًا، لكن ما فعله في دوري أبطال أوروبا كان استثنائيًا، حيث أحرز مع سالزبورج 8 أهداف في 6 مباريات فقط، وهو ما عجل برحيله إلى محطته التالية بعد أن أصبح هدفًا لمعظم كبار أوروبا.

هنا، ظهرت حكمة «هالاند» مرة أخرى، عندما فضل الانتقال إلى بوروسيا دورتموند بدلاً من مانشستر يونايتد في يناير/ كانون الثاني 2020، حيث يتقاضى 100 ألف باوند أسبوعيًّا في ألمانيا، عوضًا عن 170 ألفًا في اليونايتد. والسبب هو إدراك «إيرلينغ» جيدًا أبعاد عملية تطوير لاعب كرة القدم الموهوب، وما تحتاجه من وقت وترتيب للخطوات، لذلك اعتبر دورتموند الخطوة المناسبة.

ما يزيد الأمر غرابة، أن «هالاند» يمارس كل تلك الحكمة ووكيل أعماله أحد أكثر المعروفين بالجشع في سوق الانتقالات؛ «مينو رايولا». بل إن النجم النرويجي قد مدحه كثيرًا عندما تسلم جائزة الفتى الذهبي عام 2020، وهو ما يوضح قدرته على الاستفادة من شخص بنفوذ «رايولا» في إطار خطواته المرتبة التي لا تضع الراتب الأضخم كأولوية في سن العشرين.

ولعل أبرز بصمات «رايولا» كانت الشرط الجزائي في عقد «هالاند» مع دورتموند، والمتاح بداية من 2022، وقيمته 75 مليون يورو فقط.

التفاصيل تصنع الفارق

أتت القرارات الحكيمة السابقة بثمارها، وأصبح «هالاند» الاسم الأكثر تداولاً بين الجماهير والمحللين، لتنهال عليه التشبيهات، تارةً بإبراهيموفيتش، وتارةً أخرى بكريستيانو رونالدو، لكن ما نراه يفيد بأن الشاب النرويجي يصنع نسخة فريدة، لا يشبه فيها إلا نفسه.

في تقرير مرئي بقناة «دويتش فيله» على اليوتيوب، وآخر مكتوب بشبكة «CNN»، أفصح أحد زملائه السابقين في فريق «مولده» أن «هالاند» كان يملك شيئًا خاصًا لكن صعوده بهذه السرعة كان مفاجئًا، كذلك اتفق معه مدربه السابق بفريق «براين» النرويجي، «ألفي بيرنستين»، مما يعني أن «إيرلينغ» قد بذل جهدًا إضافيًا.

كان يتدرب أقوى من الجميع، ثم يبقى لبعض الوقت للقيام بتدريبات إضافية على التسديد وخلافه، كما يولي اهتمامًا كبيرًا لنظامه الغذائي، وإن كان التدريب صباحًا، يعود إلى مقر التدريبات من أجل الاستشفاء، كنت أخرج من مكتبي لأجده في حوض المياه الساخن أو البارد.

كان يرتدي نظارات خاصة، خشية أن يضعف بصره إن نظر لفترة طويلة إلى اللابتوب أو الهاتف. هذه هي الطريقة التي يفكر بها، عقله مركز دائمًا على كيفية التطور…إنه شخص من طراز خاص.
جيسي مارش مدرب ريد بول سالزبورج

التفاصيل التي اهتم بها كل من رونالدو وإبراهيموفيتش وغيرهما ممن وصل إلى تلك المكانة، كان «هالاند» يهتم بها أيضًا منذ سن مبكرة. حتى إن مدربه السابق «ستانيسلاف ماتشيك» حكى عن صديقة هالاند النرويجية، التي أتت لزيارته في سالزبورج، لكنها رحلت بعد أيام، لأن اللاعب أخبرها بتركيزه على كرة القدم فقط!

كريستيانو بتصرف

وبينما تحاول تخيل رد فعل الفتاة وهي عائدة لبلادها، سنقطع حبل تخيلك، وسنصحبك إلى داخل الملعب لتوضيح ما يجعلك تتمنى «هالاند» في فريقك. إن كنت أحد محبي الألعاب الإلكترونية، فقد مرت عليك هذه الجمل التي تستخدم لتصنيف المهاجمين Target Man (محطة تستقبل تمريرات زملائه)، Goal Poacher (هداف)، Fox in the box (يجيد التمركز داخل منطقة الجزاء)، و«هالاند» يستطيع تأديتها جميعًا بمنتهى الإتقان.

يمتلك «إيرلينغ» مؤهلات المهارة والسرعة والبنية الجسدية اللازمة لذلك، لكن ما يجعله يستخدم إمكاناته بشكل أفضل، هو مهارة الـ«Scanning» أو المسح، تلك المهارة التي قال «أرسين فينجر» إن عدم امتلاكها قد تسبب في تقديم عدد كبير من لاعبيه مسيرة أقل من المتوقع.

يعرف الـ«Scanning» بعدد المرات التي ينظر فيها اللاعب حوله قبل أن تصله الكرة، حيث يقيّم الخيارات المتاحة مسبقًا،ليكسب مزيدًا من الوقت ويتقدم خطوة على أقرب لاعبي المنافس.

يستخدم «هالاند» تلك المهارة ببراعة، سواء أثناء تواجده بعيدًا عن منطقة الجزاء (لإفراغ المساحات لزملائه، أو لاختيار الوقت المناسب لاستقبال التمريرات خلف خط الدفاع) أو داخل المنطقة باختيار الوقت المناسب للانطلاق نحو المساحة التي ستلعب فيها الكرة، وفي هذا الشأن تحديدًا، يتشابه مع كريستيانو رونالدو بعد تحوله من جناح إلى مهاجم.

اقرأ أيضًا: ثورة الاستكشاف البصري: كيف يمكن تحويل طارق حامد لبيرلو؟

لكن قبل أن تعتقد أن «هالاند» هو نسخة جديدة من الأسطورة البرتغالية، سنقنعك بأنه «كريستيانو لكن بتصرف»، بالاستشهاد بما قاله «جيسي مارش» مدربه السابق في ريد بول سالزبورج، والذي أوضح الفارق بينهما في نقطتين.

الأولى، أن «إيرلينغ» شخصية محبوبة ويمتلك صفة القيادة منذ صغره، عكس كريستيانو الذي لم يمتلك تلك الصفة في بداية مسيرته، واكتسبها مع تراكم الخبرات وتحقيق المزيد من الإنجازات الفردية.

أما الثانية، فتتعلق بضربات الجزاء، والتي كان «هالاند» مسددها الأول وفقًا لتعليمات «مارش»، لكنه كان يمنحها دائمًا لبقية زملائه، الأمر الذي استدعى تدخل المدرب في إحدى المرات بعد ضياع إحداها. والطريف هنا أن ذلك يجعل «هالاند» أكثر حذرًا من كريستيانو – إلى الآن على الأقل- إذ لن يستطيع كارهوه دمج اسمه مع كلمة «penalty» كما حدث مع بينالدو.