بالنسبة لمن لا يفهمون اللغة العربية، فهذه ليست سوى أغاني لتقرب بعضنا البعض.
رشيد طه، مخاطبًا جمهور حفل «الشموس الثلاثة»

يصعد ثلاثة شبان عام 1998 لمنصة قاعة باريس بيرسي ذات ليلة أسطورية فيرتفع صياح وأهازيج أكثر من 15 ألف متفرج غالبيتهم مهاجرون، يقف الشبان الثلاثة تاركين خلفهم المعاناة، الاضطهاد، الاغتيالات ودماء العشرية السوداء التي لا زالت في ذلك الوقت تنهك وطنهم الأم. هدفهم تلك الليلة إيصال موسيقى الراي إلى العالم ونزع اعتراف دولي بهذا الفن الذي عانى من التهميش والتجريم داخل الجزائر في فترة التمانينات.

هذه هي تفاصيل الحفل الأسطوري «1، 2، 3 شموس» الذي جمع بين ثلاثة من أبرز فناني الراي: الشاب خالد، رشيد طه، وفوضيل، الفتى الصغير الذي كان يبلغ آنذاك عشرين عامًا فقط، وقدموا ثلاثًا وعشرين أغنية من أفضل ما لديهم، تناوبوا على المنصة بأداء فردي تارة وجماعي تارة أخرى، ورقصوا كما لم يرقصوا من قبل، وأمامهم اختلطت رايات دول المغرب الكبير بين أيادي الجمهور التي تتحرك بتناغم مع ألحان الأوركسترا، التي اختيرت بعناية من مختلف دول العالم وتدربت لستين يومًا كاملًا لتخرج لنا حفلًا تاريخيًا ما زال يتردد صداه في قلوب الكثير من أبناء جيلنا، ومثّل تتويجًا لعصر ثقافي جديد فُتحت معه الأبواب للراي كي يصل للعالم.

ما زال ريبيرتوار الذاكرة الشعبية يحتفظ بأغاني هذا الحفل الأسطوري، ولا زالت أغاني مثل «يا الرايح وين مسافر»، و«عبد القادر يا بو علام»، و«يا منفي»، تتنفس داخل المقاهي والدروب الشعبية لدول المغرب الكبير.


الطريق إلى الشموس الثلاثة

عنوان الحفل اقتُبس من الفيلم الفرنسي «Un Deux Trois Soleil» للمخرج برتراند بلير (Bertrand Blier) الذي صدر عام 1993، وقام الشاب خالد بتأليف موسيقاه التصويرية -حاز بها على جائزة السيزر في العام التالي- هذا العنوان كان مثاليًا لوصف خالد، رشيد، وفوضيل؛ فقد أظهر الثلاثة على الخشبة أنهم شموس بالفعل، يبدو جليًا لمن شاهد الحفل أن الشبان الثلاثة كانوا في حالة انتشاء بفعل الموسيقى، خالد يبتسم ويضرب بيده على فخذه متابعًا الإيقاع كأنه يعيش أورجازم خاصًا به، تتطور نشوته واندماجه مع اللحن لدرجة الصراخ وتغيير نبرة صوته بشكل غريب على عادة مغنيي البلوز في فترة الثلاثينيات عندما يشتد العزف وتتمازج الأرواح، رشيد طه ينغمس في الرقص والتموج مع اللحن لدرجة رميه قبعته وانحداره لملامسة الخشبة، أما فوضيل وفي أغنية «عايشة» فقد ظل يرفع يده ووجهه للسماء ويخاطب حبيبة وهمية كان وحده يرى انعكاس وجهها على سقف المسرح.

يحتفظ المشاهدون بشيء من روح ذلك الحفل ويذكرون تجاوب الشاب خالد بانفعالات وجهه الغريبة وحركاته للجمهور، وكيف كان يقلد قائد الأوركسترا بحركة يده، ودوران الشاب فوضيل، وقفزات رشيد وإيماءاتهم المتبادلة في كل أداء جماعي، في تلك الليلة غنوا كما لم يفعلوا من قبل، وتصببوا عرقًا حتى اضطروا لتغيير ملابسهم في استراحتهم.

لم يكن الطريق لهذا الحفل مفروشًا بالورود، فقد ظلت موسيقى الراي تتخبط بين التحريم والتعتيم الإعلامي الرسمي، وبالرغم من هذا استطاع خالد ورفاقه كسر الحاجز وتحويل الراي لظاهرة ثقافية مرتبطة بمدينة وهران، فصارت مدينة للرفاهية والحرية في عيون المتفتحين و«مدينة الإباحية والحرية الجنسية والفن الساقط» في عيون المحافظين.

هذا الصراع الذي عرفه فن الراي بين المحافظين والليبراليين أدى إلى إعادة إنتاجه بشكل مغاير، خصوصًا بعد الحرب الأهلية في الجزائر أوائل التسعينيات التي عرفت هجرة شبه جماعية لفناني الراي نحو فرنسا والمغرب هربًا من شبح الاغتيالات الذي أسقط رمزًا من رموز الراي الشاب حسني، فعُوضت وهران بمارسيليا الفرنسية، وتم احتواء الشاب خالد من طرف الفرنسيين بداية مع أغنيته الشهيرة «عيشة» التي كتب كلماتها الكاتب غولدمان أحد مشاهير الأغاني الفرنسية، فصارت بوادر إشعاع الراي على العالم تظهر في الأفق.

في خضم التمزق وسط المجتمع الجزائري وشراسة المد السلفي، كسب الراي اعتراف النظام وتفجَّر للعالمية، وداخليًا صار ملجأ للشباب خصوصًا الذين فُرض عليهم التجنيد الإجباري -الشاب خالد فرّ من التجنيد الإجباري نحو فرنسا-، ويُلخِّص أحد المشاهد في فيلم وثائقي عن موسيقى الراي بالجزائر، قيمة الراي لدى المجندين الشباب: جنود يطلقون القذائف على مواقع المسلحين الإسلاميين وسط الغابة، ووسط الضجيج يصيح أحدهم: «في النهار رصاص وبالليل الراي».


ملحمة الهامش

ظل الراي تعبيرًا عن حالة الصراع داخل المجتمع الجزائري، وامتد ليصف حالة الصراع والاضطهاد التي يعيشها المهاجرون المغربيون في فرنسا، وبذلك حدث تمازج للراي مع المجتمع الفرنسي وعبرت أغانيه عن أزمات الهوية ومعاناة المهاجر، لذلك لاقت نجاحًا منقطع النظير هناك، وعند تفكيك كلمات أغاني الراي وبالأخص أغاني الشاب خالد؛ نجدها تغني للإخفاق والعتاب ومعاداة اليد الخارجية المجهولة التي دائمًا ما تظهر في كلمات أغانيه.

هذا التصاعد الذي عرفته موسيقى الراي كان لزامًا تتويجه بحفل فني أسطوري، وبالعودة لكرونولجيا أحداث ما قبل ملحمة الشموس الثلاث نجد أن بوادرها كانت تتشكل عن بعد خصوصًا بعد بروز أغنية «ديدي» وأغنية «يا رايح».

نجاح الحفل لم يقتصر فقط على قيمة المشتركين فيه بل بوعيهم التام بضرورة التغيير وتقديمهم لنمط جديد من موسيقى الراي تتماشى مع متطلبات العصر، وكذلك بانصهارهم في الأداء وغنائهم لأغاني بعضهم البعض. هذا النجاح الأسطوري للحفل أثمر اسطوانة تحمل نفس العنوان وتجمع أغانيهم، نالت الاسطوانة شهرة عالمية واسعة وحققت نسبة مبيعات وصلت لأكثر من 5 ملايين نسخة حول العالم.

موسيقى، الجزائر، فن
جانب من الحضور في حفل الشموس الثلاثة بالجزائر عام 1998

واليوم بعد مرور أكثر من عشرين عامًا، دخل الراي في أزمة بعد عدم تمكن الجيل الحالي للفنانين من مجاراة وخلق جمالية جديدة تتفوق على الحدود التي رسمها الفرسان الثلاثة ذات ليلة في باريس.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.