تقول القاعدة الطبية إن الطبيب الجيد هو الملاحظ الجيد. وتقول أيضًا إن من لا يعرف الوضع الطبيعي جيدًا، ليس بإمكانه تمييز الوضع الاستثنائي. ولأن أكثر من نصف الطب محوره هو الشكوى الطبية التي يقدمها المريض، فلا مفر من أن يكون كلٌّ منّا طبيبَ نفسه الأول، والملاحظ الجيد لها، إذ كيف سيصف لك الطبيب علاجًا لمشكلة طبية لم تلحظْ علاماتها لتشتكي منها؟!

والغالبية العظمى من البشر في هذا السياق صنفان، ثالثهما – وهو النادر – خيرٌ منهما. الصنف الأول، يتدرَّع بأطنان من اللامبالاة، فيقابل كل شعور غير معتاد، بالإنكار، أو الاستهانة، أو مزيج فريد من كليهما. وغالبًا ما يعاني هذا النوع من هلع مرضِيّ من البالطو الأبيض، يدفعهم لتحمل أقسى أنواع الألم، بديلًا عن طلب المشورة الطبية. واكتساب الوعي الطبي والمعرفة الصحية، لا يشكل فارقًا كبيرًا لدى هؤلاء، فلا يهتمُّون بتحصيلها، وإن حصّلوها، فعلى الأرجح لن يطبقوها.

الصنف الثاني على النقيض تمامًا. فهو مهتم بالمرض حدَّ الهوس، يقوم بتأويل أي شاردة أو واردة في جسمه على أنها بداية كارثة صحية مقبلة. وغالبًا لا يكتفِي هذا الصنف بطبيب أو اثنين أو ثلاثة. ستجد بحوزة هذا الصنف دائمًا حافظة منتفخة تحتوى مئات التحاليل والأشعات الطبية والوصفات العلاجية لعشرات الأطباء.

أما الصنف النادر، والذي نراه الأمثل، ونريد تدريب أنفسنا لنكونه، فهو الذي يتوازن بين الطرفيْن. فيلاحظ نفسه جيدًا دون هوس، ويثق بطبيبه ثقة الواعي لا استسلام المنقاد.

في السطور التالية، سنبرز 4 أعراض طبية مهمة، ينبغي أخذها على محمل الجد، وطلب المشورة الطبية، وإلا أصبحت صحتنا وحياتنا على المحك. وسنتعامل معها بشكل متوازن، دون تهويل أو تهوين.


آلام الصدر

مقطع يظهر الأعراض المميزة لحدوث جلطة في القلب، وأهمها ألم الصدر.

لا يكادُ يوجد واحدُ منا لم يشعر من قبل بآلامٍ في أي جزءٍ من صدره، إذ تكاد آلام الصدر تكون الشكوى الأولى في أقسام استقبال الطواريء حول العالم. عشرات الأسباب قد تكون وراء الشعور بآلام الصدر، تتدرج من اللاشيءْ تقريبًا، إلى حالاتٍ مرضية قليلة الخطورة، مثل التهابات عضلات الصدر الخارجية، أو التهابات فيروسية بغشاء الرئة، أو نزلات شعبية .. الخ، إلى حالات مرضية طارئة قد تحمل الموت في الثانية المقبِلة.

يحتوي الصدر كما نعلم جميعًا أعضاءً شديدة الحيوية، أبرزها القلب والرئتين، وأجزاء مهمة من الشريان الأورطي المسئول عن التغذية الدموية للجسم بأكمله، وفروعه العظمى، التي تمد المخ والرأس والطرفيْن العلويَّيْن بالإمداد الحيوي.. الخ، وقد يكون الإنذار الأول لكارثة بأحد تلك الأعضاء الصدرية المهمة، هو الشعور بألم الصدر.

أشهر آلام الصدر الخطيرة هي آلام الذبحة الصدرية المعبرة عن وجود قصور بالشرايين التاجية المغذية للقلب. ألم منتشر بمنتصف الصدر، على هيئة إما ثقل شديد أو حرقان، أو ضيق، أو اختناق .. الخ، قد يصاحبه ألم بإحدى الكتفيْن خاصةً اليسرى، أو بالذراعين، وبالرقبة، وقد يصاحبه كذلك انهمار عرق غزير، أو شعور بالغثيان، أو القيء .. الخ. غالبًا ما يحدث الألم بعد مجهود بدني أو نفسي، وتقل شدته بالراحة. في الحالات الطارئة من أمراض شرايين القلب، كوجود جلطة في الشريان، يكون الألم شديدًا، ولا يسكن مع الراحة، ويجب عندها الذهاب إلى استقبال الطواريء دون إبطاء، وبأكثر الوسائل سرعة وراحة، إذ قد تحدث مضاعفات خطيرة في أي لحظة، كالاضطرابات الكهربية القلبية، أو توقف عضلة القلب.

اقرأ أيضا: كيف تنقذ حياة مريض بجلطة في القلب؟مرض العصر: قلوبٌ شابة في مرمى الموت

هناك ألم خطير شبيه بالسابق، يكون أيضًا في منتصف الصدر، لكنه يؤلم منتصف الظهر أيضًا – دائمًا ما يصف المريض شعوره بنصل حاد يخترق صدره إلى ظهره. في المريض المصاب بارتفاع مزمن بضغط الدم، قد يكون هذا الألم منذرًا بحدوث شرخ بالشريان الأورطى، وهو من أخطر حالات الطواريء، وقد يستدعي جراحة قلب وصدر عاجلةٍ لإنقاذ المريض.

قد يعبر ألم الصدر كذلك عن وجود جلطة بالشرايين الرئوية. وهي حالة قد تكون مميتة إذا كان حجم الجلطة كبيرًا. يشيع حدوثها في المرضى الراقدين دون حركة، كمرضى الكسور، إذ يتباطأ حركة الدم في أوردة الأطراف خاصة الساقين، فيتجلط، ثم تتحرك الجلطات إلى الشرايين الرئوية مع أقل حركة للساق. والألم هنا يكون على هيئة شبيه بشك الإبرة، وتزداد شدته مع أخذ النفس.

من الأسباب المهمة التي تسبب ألمًا شبيهًا بالسابق، وجود ارتشاح بالغشاء التاموري المحيط بالقلب، والذي قد يصحبه التهاب أيضًا. من علاماته المميزة أن الألم يقل بالانحناء للأمام، ويزداد بالرقاد، ويصحبه ضيق بالتنفس. في الحالات الشديدة التي يحدث فيها هبوط في الدورة الدموية، قد يستدعي هذا الارتشاح عمل بذل عاجل بواسطة أخصائي القلب، لرفع الضغط عن القلب، ليستطيع العمل بكفاءة.

مما سبق كان أمثلة لإبراز أهمية الموضوع، وليس للإحاطة بكافة أسباب آلام الصدر، وهي كثيرة للغاية. الخلاصة، إذا شعرت بألم شديد، ومستمر في الصدر، خاصة إن كان مصحوبًا أو متبوعًا بضيق شديد في التنفس، أو تعرق شديد، أو شعور بالغثيان، أو القيء، أو فقدان للوعي .. الخ لابد من الذهاب فورًا إلى أقرب خدمة للطواريء الطبية، لا سيَّما إذا كنت تعاني من بعض عوامل الخطر الصحية كالتدخين والسكر والضغط وارتفاع دهون الدم، أو تاريخ مرضي عائلي بأمراض القلب المزمنة.


السعال المستمر

السعال المتقطع هو من وسائل الحماية الطبيعية المزوَّد بها جهاز التنفسي، حيث تساعد في التخلص من الإفرازات التنفسية الزائدة، وما يعلق بها من جسيمات ضارة قد تصل إلى أعماق الجهاز التنفسي. في غالب الأحيان، لا تحمل الإصابة بالسعال المرضي أي مشكلة، طالما كانت الشكوى قصيرة المدى، لبضعة أيام. فإصابات الجهاز التنفسي العلوي الشائعة – التهابات الحنجرة والشعب الهوائية، والإنفلوانزا التي لا يكاد أيٌّ منا ينجو من الإصابة بدور منها على الأقل كل عام خاصةً في موسم الشتاء، جميعها قد تكون الشكوى الأولى فيها هي السُّعال.

اقرأ أيضًا: مجموعة البرد: هيا ندمر المناعة ونغذي البكتيريا

ما نشير إليه هنا هو السعال المستمر لأسابيع وشهور، أو المتكرر الحدوث كل شهر. يعتبر السعال مزمنًا إذا تجاوز مدته الكلية أكثر من شهرين سنويًا، وهو من أهم الأعراض لدى المدخنين بشراهة لفتراتٍ طويلة، وتعني وجود التهاب وتحسس مزمن بالشعب الهوائية، يتطور في كثير من الحالات إلى ما يعرف بالسدة الرئوية المزمنة، COPD والتي تحتاج لعلاجات دائمة مكثقة بموسعات الشعب، وقد يحتاج المريض في الحالات المتقدمة إلى العلاج بتعاطي الأكسجين بشكل مستمر.

كذلك قد يكون السعال المستمر لفترة طويلة، وغير المستجيب للعلاجات المعتادة بمهدئات السعال، ومذيبات البلغم، هو أول طرف الخيط لتشخيص واحدة من أكثر الحالات الطبية خطورة، وهي الإصابة بسرطانات الرئة، حيث تضغط الأورام السرطانية على الشعيبات الهوائية، فتسبب حدوث السعال.

من أهم الإصابات الخطيرة التي تسبب السعال المستمر، داء السل، والذي عاد للظهور مجددًا مع انتشار الأمراض التي تضعف مناعة الجسم كالإيدز وغيره. كذلك قد يكون السعال المتكرر هو العرض الوحيد لمرض مناعي مهم هو الساركويد، والذي قد يهاجم أنسجة الرئتين والقلب والعين وغيرها.

إذًا لا تستهِن بالسعال الذي تزيد مدته على أسبوعين متواصلين، أو الذي يتكرر كثيرًا طوال العام، واطلب المشورة الطبية.


الفقدان المفاجيء للوعي

المقصود هنا هو فقدان الوعي المؤقت، الذي يحدث فجأة، يفيق منه الشخص تلقائيًا بعد دقائق معدودة، والذي يسمى بلغة الطب syncope. هذا العَرَض المهم غالبًا ما يكون سببه من الجهاز العصبي أو من القلب، وهو يحدث نتيجة انخفاض مفاجيء في ضغط الدم.

قد يحدث هذا الأمر – في حالات نادرة – لشخص صحيح تمامًا، نتيجة استجابة عصبية مبالغة لمؤثر خارجي عادي، مثل رؤية مشهد مقزِّز، أو انفعال شديد، أو سعال شديد، أو أثناء التبول، أو عند الوخز بإبرة، أو أثناء حلاقة الذقن لمن يعانون من فرط حساسية مستقبلات العصب الحائر بالرقبة .. الخ. ويمكن تجنب تكرار هذا العرض، بشرب قدر جيد من السوائل يوميًا، وقدر معتدل من الملح ليحافظ على ضغط الدم.

من أشهر الأسباب الخطيرة لهذا العرض جلطات الشرايين التاجية للقلب، والتي قد يصحبها اضطرابات كهربية خطيرة، قد تسبب توقف عضلة القلب. هناك أيضًا جلطات المخ كسببٍ لمثل هذا الإغماء، وأيضًأ أنواع من النوبات الصرعية لا يصحبها تشنجات ظاهرة، وتتمثَّل في نوباتٍ من الإغماء. وقد يسبب الجفاف – نتيجة فقدان العرق الغزير في يومٍ صيفي حار، أو إسهال شديد .. الخ – حدوث مثل هذا الإغماء نتيجة هبوط ضغط الدم، واختلال الأملاح الذائبة في الدم.

اقرأ أيضًا: كيف تنقذ حياة مريض بجلطة في القلب؟كيف تتعامل مع حالة إغماء مفاجئ في الشارع؟

الخلاصة .. خذ الإغماء المؤقت باهتمام، خاصة إذا صحبه آلام بالصدر، أو كنت تعاني من عوامل الخطر التي ذكرناها في الفقرة السابقة، أو في حالة تكراره، أو إذا حدث دونما سبب.


تغيرات البول والبراز

لا مبالغة إذا قلت بوضوح أن فضلات الجسم مرآة حقيقية للحالة الصحية العامة. انتظام عادات الإخراج، وكميته، يعني ما هو أبعد بكثير من مجرد كفاءة الكليتيْن والجهاز الهضمي.

كمية البول، ومعدل إخراجه، يعكسان كفاءة الدورة الدموية. الكمية الطبيعية على الأقل 40 -50 مل في الساعة، أي حوالي لتر أو يزيد يوميًا. لون البول الطبيعي، هو الأصفر الذهبي. الأصفر الداكن يعني الإصابة بالجفاف، والأحمر يعني البول المدمم، وله أسباب عديدة تتدرج من الحصوات والالتهابات إلى السرطانات، أما المائل للبياض، فقد يعني وجود الصديد التهاب شديد بمجرى البول، أما اللون الداكن فقد يعني وجود تكسير دموي، أو في عضلات الجسم، سبب نزول الهيموجلوبين أو الميوجلوبين في البول، وكلاهما من الحالات المهمة.

لا يقل البراز أهمية عن البول في هذا السياق. رغم تأثر طبيعة البراز ولونه وكميته، بنوعية الطعام وكميته .. الخ، فهو عمومًا بني اللون، ومن المفترض أن يتبرز الإنسان الطبيعي مرة أو اثنتيْن يوميًا دون عناء أو آلام. اللون الأسمر الداكن كلون الأسفلت، قد يعني نزيفًا من الجهاز الهضمي العلوي، قد يحتاج لعمل منظار عاجل لتأكيد السبب وعلاجه، أما اللون الأحمر، فقد يعني نزيفًا من الجهاز الهضمي السفلي، وقد يحتاج منظارًا سُفليًا لمعرفة السبب وعلاجه. اللون الفاتح جدًا قد يعني وجود انسداد بالقنوات المرارية يمنع وصول مادة البيليروبين المسببة للون البني الطبيعي للبراز. الإسهال الشديد قد يعني وجود تسمم بالطعام، أو الدوسنتاريا أو نزلة معوية حادة .. الخ، والإمساك المزمن قد يعني وجود حالة مرضية خطيرة مثل سرطان الجهاز الهضمي .. الخ.

الخلاصة ..

الملاحظة الجيدة، والاعتدال بين اللامبالاة والوسوسة، هما الركن الركين لتكون طبيبَ نفسِك ..