«هاتشووووووو… الحمد لله».

بدا عليه الإرهاق الشديد، خاصة أنه لم يأخذ قسطًا وافيًا من النوم لسفره المبكر. زاده تعبًا على تعب، الزكامُ والصداع اللذان لم يفارقاه منذ الأمس.

«يبدو أنني أصبت بدور إنفلوانزا لعين.. لعنة الله على الشتاء والجو البارد!». هكذا قال لنفسه في حنق، فهذا آخر ما كان ينتظره في فترة ضغط العمل الحالية، والتي لا يمكنه فيها حتى مجرد التفكير بأخذ إجازة.

أوقف السيارة أمام الصيدلية القريبة من منزله، ثم ترجَّل. ما إن دخل من الباب الخارجي للصيدلية حتى ابتسم له الطبيب ابتسامة عريضة، وقال:

«مرحبًا أستاذ أحمد… ممم… مجموعة البرد، أليس كذلك؟».

«هل يبدو عليَّ المرض إلى هذا الحد؟» هكذا رد في تثاقل.

«يبدو كثيرًا»، هكذا رد عليه الصيدلاني في تعاطف، وهو يعطيه كيسًا صغيرًا معدًّا مسبقًا يحتوي ٣ أقراص من الدواء، أخرجه من درج يمتلئُ بأكياس مشابهة!

«هذه الفترة موسم الإنفلونزا. خذ علاجك وارتحْ ليومين أو ثلاثة، مع المشروبات الدافئة، وستدعو لي».

«أرتاح! هههه… رابع المستحيلات»، هكذا ردَّ في تهكم وضيق. قبل أن يغادر من الباب، التفت إلى الصيدلاني مستدركًا:

«أهم شيء يا دكتور، هل يحتوي العلاج على مضاد حيوي؟ فأنا أريد أن أُشفى سريعًا جدًا».

«بالطبع، لقد أعطيتك قرص مضاد حيوي ١ جرام… لا تقلق».

لم يكد يدخل سيارته، حتى ابتلع الـ ٣ الأقراص معًا، وكأنه يخشى أن يتأخر شفاؤه ولو دقائق معدودات.


لا تسأل مجربًا!

ليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما شاع بين الناس صوابًا. والأولى تطبيق هذه القاعدة في صحتنا. للأسف تتكرر القصة الرمزية في مقدمة هذا المقال يوميًا، بل أجزم أنها تحدث الآن مئات المرات لحظة كتابة هذه الكلمات، خاصة في مصر، حيث فوضى عارمة في الحصول على الدواء، تجعل بإمكان عامة الناس الوصول إلى معظم الأدوية، كسهولة شراء حلوى النعناع من البقالة!

ويزيد الطين بِلة نقص الوعي الصحي لدى جمهور الناس، مع قصور خطير في الفهم السليم والتطبيق لدى الكثير من المشتغلين بالحقل الطبي، ممرضين وصيادلة وحتى أطباء. فبدلًا من أن يصحح هؤلاء، الأخطاءَ الطبية الشائعة، إذ ببعضهم يجاريها لأسباب تجارية – إرضاء الزبون – أو للتخلص من الإلحاح، أو الطامة الكبرى أن يكونوا هم أنفسهم – الطاقم الطبي – مصدر الكثير من الأفكار والتطبيقات الخاطئة، ومنها ما يسمى بمجموعة البرد.


أي برد يقصدون؟

هناك إصابة فيروسية شهيرة للغاية، لا يكاد يمر شهر أو اثنان خاصة في الشتاء، دون أن يعاني أحدنا منها. تتمثل الأعراض في انسداد الأنف، والرشح، والعطس المتكرر، والصداع، والإرهاق، وأحيانًا ارتفاع في درجات الحرارة. هذا الوصف السابق هو البرد الشائع.

وهناك إصابة فيروسية أخرى، تشترك تقريبًا في الأعراض السابقة، لكن بشكل أشد كثيرًا، وأسرع في ظهور الأعراض، وهذه هي الإنفلوانزا الموسمية المشهورة، والتي تشيع كذلك في الشتاء.

وهناك مجموعة أخرى من الأمراض الشائعة تسبب أعراضًا شبيهة بما سبق، مع أعراض أخرى مميزة، مثل التهاب الحنجرة ( + بحة في الصوت، وسعال، وقد يحدث ضيق في التنفس في الحالات الشديدة)، و التهاب الجيوب الأنفية ( + آلام بالرأس، وصداع، وسعال، وزيادة في المخاط والإفرازات الأنفية، تغير في حاسة الشم)، و التهاب القصبة الهوائية وبداية الشعب الهوائية ( + تغير الصوت، وكحة شديدة، وبلغم شديد نتيجة زيادة إفرازات المجرى التنفسي، وحمى شديدة).

هذه الأمراض المذكورة في الفقرة السابقة تشكل مع التهابات الحلق واللوزتين، و الأذن الوسطى، ما يعرف بالتهابات المجرى التنفسي العلوي URTIs. وكما فصَّلنا، فإن أغلبها يسببه الفيروسات، وبعضها تسببه البكتيريا.

يخلط الكثير من الناس بين كل ما سبق من أمراض، ويطلقون عليها جميعًا اسم البرد أو الإنفلوانزا. وبالطبع يذهبون لأقرب صيدلية ليأخذوا مجموعة البرد السحرية التي تشفي العليل وتروي الغليل! رغم وجود اختلافاتٍ جوهرية بين هذه الحالات، قد تلزم في بعضها ضرورة الكشف الطبي.


مجموعة البرد؟

لا يوجد تصور محدد لمجموعة البرد، إذ يخضع الأمر لاختلافات «التجويد» من المرضى، وممن يصفُها لهم! وحتى طريقة تعاطيها قد تختلف بين الحبوب والحقن، أو كليهما. عمومًا لا تخرج محتوياتها عن مسكن خافض للحرارة، وقرص مضاد حيوي «غالبًا الفلوموكس في مصر ولا أدري لماذا! وهو عبارة عن 250 مجم من الأموكيسيللين و250 جرامًا من الفلوكلوكساسيليين»، وقرص مضاد للاحتقان الأنفي «توجد أقراص بها مسكن + مضاد احتقان معًا كالكونجستال الشهير ». وأحيانًا قد تحتوي على حقنة من الديكساميثازون «كورتيزون» طبقًا لنظرية: لا تعرف السبب؟ أعطِ كورتيزون! !The cause is unknown? give cortisone.


استخرج الأخطاء من القصة!

في القصة التي صدَّرنا بها جملة أخطاء. سيساعدنا استخراجها على فهم التعامل الأمثل مع الأمراض التنفسية، خاصة ونحن في موسمها الشتائي.

أولًا، لا يتحدث أحد عن شفاء كامل سريع من أمراض الجهاز التنفسي «من البرد حتى الالتهاب الرئوي»، وهو في ضغط العمل، واضطراب النوم… إلخ. فهذا لا يجعل المناعة في حالتها المثالية.

كذلك، فكرة تعاطي دواء مباشرة بمجرد ظهور الأعراض ليست صائبة. فمعظم أدوار البرد وإصابات التنفسي العلوي سببها فيروسات عابرة. لذلك تشفى ذاتيًا خلال أيام. فقط اترك لمناعتك فرصة، وذلك بالراحة لمدة يوم أو اثنين على الأقل، فإن تعذَّر، فعلى الأقل بالنوم لـ 6 ساعات مساءً، مع الطعام الصحي الجيد «الفواكه، الخضراوات، المشروبات الطبيعية الدافئة كالنعناع… إلخ»، الذي يحتوي على فيتامينات طبيعية، ومضادات أكسدة، وأملاح معدنية مهمة. كذلك لا ننسى شرب المياه بوفرة، لتعويض ما يفقده الجسم في المخاط والإفرازات التنفسية. فالجفاف يقلل كفاءة خلايا الجسم ومنها خلايا المناعة.

أما الكارثة الكبرى في مجموعة البرد، فهي قرص المضاد الحيوي. فالمضادات الحيوية لا تعمل إلا ضد البكتيريا. وأغلب هذه الأدوار التنفسية فيروسية كما قلنا سابقًا. في مقال سابق تحدثنا عن كارثة مقاومة البكتيريا لمعظم المضادات الحيوية الموجودة، وأنها خطر وجودي على البشرية في المستقبل. ومن أشد أسباب مقاومة البكتيريا، أخذ المضادات الحيوية دون داعٍ، وكذلك عدم إكمال جرعتها، والتي لا تقل عن 5 أيام، وفي معظم الأحوال تكون أسبوعًا أو أكثر. إذن فقرص المضاد الحيوي في مجموعة البرد، هو إهدار لمورد عزيز، ستدفع البشرية كلها ثمن إفساده غاليًا في المستقبل مع ظهور المزيد من البكتيريا المقاومة.

ونقطة جانبية يشيع الخطأ فيها، تركيزات المضادات الحيوية والأدوية عمومًا، صفة خاصة بكل دواء. فربع جرام يوميًا من مضاد، قد يكون أقوى تأثيرًا من 1 جم من آخر.

أما حقنة الديكساميثازون «كورتيزون» التي يستخدمها البعض لكونها مضادة للالتهاب، فيكفي أن نذكر أن طالب الطب يدرس للكورتيزونات آثارًا جانبية تبدأ بكل حروف الأبجدية! ومن أخطرها هنا إضعاف المناعة.


ردود سريعة

أخذت مجموعة البرد وتحسنت سريعًا في اليومين التاليين، فلماذا تهاجمها؟

  • صدقني كنت ستشفى تلقائيًا دونها خلال نفس المدة.

هل المطلوب ألا آخذ أي دواء مع التعب؟

  • المطلوب ألا تنتقل من الطبيعي إلى الصناعي إلا بسبب ومقدار. يمكنك بالراحة والطعام والشراب الجيد أن تشفى من 80% من الأدوار دون أدوية، فلماذا تسمح للكيمياء بالعبث بجسمك دون داعٍ؟

ما الأدوية التي يمكن أخذها دون مشكلات؟

  • إن كنت لابد فاعلًا، فهناك بعض الأدوية لتخفيف الأعراض. للتسكين وارتفاع الحرارة ابدأ بأكثرها أمانًا، الباراسيتامول ( المادة الفعالة في البنادول والبارامول والسيتال… إلخ)، فإن لم يكفِ، فيمكن اللجوء للمسكنات الأقوى كالبروفين و الديكلوفيناك (الفولتارين والأولفين والكاتافلام… إلخ)، لكن احذر من الإكثار منها، لخطورتها على المعدة والكلى. (راجع مقال المسكنات والكلى .. قصة مؤلمة حزينة).

    ويمكن كذلك استخدام نقط انسداد الأنف (الأوتريفين… إلخ) شريطة ألا تزيد عن 5 أيام، وإلا فسيعود احتقان الأنف للتفاقم. يمكن كذلك استخدام أقراص الحساسية المضادة للهستامين، لأن وجود الحساسية يفاقم أعراض البرد. وهناك العديد من الأقراص التي تحتوي مسكنًا ومضاد احتقان وحساسية في نفس القرص.

    ولأن الوقاية أفضل، فلا ننسى تطعيم الإنفلوانزا السنوي مع مطلع كل شتاء.

متى ينبغي الكشف عند الطبيب؟

  • إذا لم يحدث تحسن ولو جزئي خلال 5 أيام.
  • إذا عادت الحرارة للارتفاع مرة أخرى بعد تحسنها لأيام. فهذا قد يعني حدوث إصابة بكتيرية بعد الفيروسية، مما يحتاج إلى مضاد حيوي يصفه الطبيب.
  • إذا كنت مصابًا بحساسية مزمنة في الصدر. فإصابات الجهاز التنفسي قد تؤدي عندك إلى نوبة ربو شعبي حادة.
  • إذا حدث ضيق في التنفس.
  • المصابون بأمراض مزمنة تضعف المناعة، كضعف عضلة القلب، والفشل التنفسي المزمن، والسكري… إلخ، وبالطبع أمراض المناعة كالإيدز… إلخ.
  • كبار السن فوق 65، لضعف المناعة مع التقدم في العمر.

الخلاصة: ابدأ بالطبيعي، واترك لمناعتك فرصة. ثم خذ من الكيمياء على قدر الحاجة فقط.