كرة القدم أولًا. الجنون حول كرة القدم ثانيًا. ثم هناك بقيّة العالم.
كارلوس مونسيفايس، الكاتب والناشط السياسي المكسيكي

في مقدمة كتابه «Age of Football»، ادّعى الكاتب الرياضي البريطاني «ديفيد غولد بلات» أن كرة القدم، على الرغم من كونها مجرَّد لُعبة، تعد أحد أكثر الأشكال الثقافية تأثيرًا؛ لأنها قادرة على توجيه اهتمام أعداد مهولة من البشر نحو أحداث بعينها، بل وحثَّهم على التفاعل معها، بشكل لا تستطيع أشكال ثقافية أخرى مثل الأدب والسينما والمسرح مُجاراته.

وبافتراض أنّ عام 2023 كان مشهدًا، لنختبر سويًا كيف نجحت كرة القدم عن غير عمدٍ في توضيح خبايا هذا المشهد لجماهيرها.

السعودية: لاعب خطير

في غضون عام واحد، سيأتي المزيد من اللاعبين الكبار إلى هنا.
كريستيانو رونالدو، لاعب النصر السعودي

هذا التصريح الشهير لرونالدو، والذي يعد واحدًا ضمن عدة تصريحات أكد من خلالها على ثقته في المشروع السعودي الذي يستهدف تحويل دوري روشن لأحد أهم دوريات كرة القدم في العالم، لم يكن أهم ما نجحت فيه المملكة العربية السعودية في تحقيقه منذ الإعلان عن خطة «رؤية 2030»، التي تستهدف بصورة أكثر شمولية تنويع مصادر الدخل السعودي وتقليل الاعتماد على النفط. لكن بكل تأكيد لا يوجد أفضل من رونالدو ليروّج لأي نجاح تحقق.

«غسيل السمعة»، هو التعبير الذي رافق الموجة الثانية من التعاقدات التي قامت بها الأندية السعودية في صيف 2023 بدعم شبه مطلق من صندوق الاستثمارات العامة السعودي، حيث بلغت قيمة التعاقدات ما يدنو من 700 مليون جنيه استرليني في نافذة انتقالات واحدة، متفوقة على كل دوريات العالم من حيث إجمالي الإنفاق، باستثناء البريميرليج. 

فجأة، ومثلما حدث أثناء ما يعرف بتجربة «دوري السوبر» الصيني في 2016، بدأت الصحافة الرياضية الغربية تُبدي انزعاجها من تحرُّكات المملكة، وبشكل مُبَطَّن، تم توجيه الدفَّة نحو تساؤلات حول ملفات مثل حقوق الإنسان وحقوق الأقليات في المملكة وغيرها من الملفات التي لا تُطرح تساؤلات حولها حين تُنفق أندية البريميرليج في نفس النافذة ما يتخطى 2 بليون جنيه استرليني.

وفي نفس الوقت، الذي يلجأ به نادٍ إنجليزي عريق مثل «تشيلسي» للمملكة من أجل تفريغ قائمته من اللاعبين غير المرغوب فيهم. كان ليفربول الإنجليزي يُعاني الأمَرين حين نجحت الأندية السعودية في إغراء لاعبيه «جوردان هيندرسون» و«فابينهو» برواتب خيالية حالت دون استمرارهم مع الفريق.

يرى «داميان كومولي»، المدير التنفيذي السابق لأندية أرسنال، ليفربول وتوتنهام، أنّه يشعر بالتهديد، بسبب ظهور لاعب جديد على الساحة الكُروية، وأنّ من يُنكر هذا التهديد إما كاذب أو أعمى. لماذا؟

بمنتهى البساطة، وحتى وإن لم يصل الدوري السعودي لمستوى الدوري الإنجليزي أو أي من الدوريات الأوروبية الكُبرى في المستقبل القريب، يظل إصرار المملكة على النجاح مؤرقًا؛ لأنَّه يعني تغيُّرًا كاملًا في خريطة أسعار اللاعبين، الذين يُعدون الأصول التي ربما لن تُصبح الأندية الأوروبية قادرةً على الحفاظ عليها في المستقبل، إذا ما استمرت هذه التجربة.

قطار برشلونة

بذكر أسعار اللاعبين، والتضخُّم الذي قد تسببه مشاريع مثل المشروع السعودي لسوق الانتقالات المُتضخِّم بالأساس، في برشلونة، لا تفارق الآلات الحاسبة أيدي المسؤولين، الذين وجدوا أنفسهم في 2023، مطالبين بالتفوُّق الرياضي، والأهم خفض مصاريف النادي الذي وصل للحضيض في عهد مجلس إدارة «جوسيب بارتوميو».

المشهد هذه المرّة يبدو إنسانيًا لأبعد حد: فريق برشلونة يصل بالقطار إلى مدريد يوم 1 مايو/آيار 2023 لأول مرة بدلًا من الطائرة الخاصّة لمواجهة خيتافي بالدوري، والسبب المُعلن هو المساهمة في الحد من تأثير الانبعاثات الناتجة عن رحلات الطيران، ضمن جهود النادي البيئية المتعلقة بملف «الاحتباس الحراري»، ولا علاقة لها بخفض النادي لمصاريفه.

في أغسطس/ آب 2023، نشرت صحيفة «موندو ديبورتيفو» الإسبانية، تفاصيل خطة النادي الكتالوني لتعديل الأوضاع المادية، والتي شملت قرارات رئيسية مثل بيع النادي لحصة من أسهم «استوديوهات البارسا». لكن التقرير نفسه أشار إلى لجوء «خوان لابورتا»، رئيس النادي، للتعلُّق بكُل يورو قد يُنقذ الفريق.

طبقًا للتقرير، أوقف البارسا تقديم وجبات الإفطار للاعبي أكاديمية الشباب بالنادي، بحجة عدم الاستفادة منها بالشكل المطلوب واعتبارها مصروفات مُهدرة، كما أشار منفذ «دياريو أس» الإسباني في تقرير آخر إلى وقف النادي لخدمة سيارات الأجرة المتاحة للاعبي أكاديميته للمرة الأولى منذ 25 عامًا.

قد تبدو الخطوات أعلاه مثيرة للسخرية، لكنَّها وعلى بساطتها، بجانب خطوات أخرى أكبر، منحت الإدارة مساحة لتسجيل عدد من اللاعبين بنافذة الانتقالات الصيفية، الذين قد يتمكنون في ما بعد في إعادة برشلونة لسابق عهده.

بيلينجهام بديلًا: الإدارة فن

ودَّع الإنجليزي «جود بيلينجهام» فريقه الألماني «بوروسيا دورتموند» بالدموع، حيث كان شاهدًا من دكة البدلاء على فقدان لقب الدوري الألماني لصالح بايرن ميونخ بالجولة الأخيرة من موسم 2022/2023. هذا المشهد الحزين، كان مجرَّد مُقدمة لشيء لم يكن جود نفسه ليتخيله.

لم يترُك جود للجماهير فرصة للتساؤل حول إمكانية نجاحه مع ريال مدريد الإسباني، الفريق الذي لم يتردد في دفع 103 مليون يورو لتأمين صفقة الإنجليزي صاحب الـ20 عامًا، حيث قدَّم انطلاقة رقمية في تاريخ ريال مدريد في أول 15 مباراة.

المُثير في قصَّة بيلينجهام، هو أنّه نجح بشكل ما في إدارة مكانته كلاعب داخل نادٍ بحجم ريال مدريد بمنتهى السرعة، داخل الملعب وخارجه.

طبقًا لـ«جاريث بالش»، المدير التنفيذي لإحدى وكالات التسويق الرياضي الإنجليزية، يكمُن السر في تأقلم بيلينجهام مبدئيًا في كونه أحد أبناء جيل نشأ وهو يمتلك دراية كاملة بتأثير وسائل التواصل الاجتماعي. لكن بشكل خاص، كان جود نجمًا بالمعنى المتعارف عليه جماهيريًا منذ أن بلغ عامه الـ16، والأهم أنّه كان محاطًا بدائرة تدفعه لأن يكون محترفًا، دون أن يتخلى عن كونه إنسانًا.

طبقًا لأحد مصادر «ذي أثليتيك»، تُباع أقمصة «بيلينجهام» أكثر بـ10 مرَّات من «فينيسيوس جونيور»، والسبب في هذه الظاهرة طبقًا لأحد متخصصي التسويق، أنّ اللاعب يعلم تمامًا قيمة علامته التجارية، بالتالي، يظهر كنجم لكل الفئات العُمرية؛ يظهر في مقاطع مصورة مع الأطفال، يتحدَّث عن النادي بشكل لبق يجذب الكبار. كل ذلك دون الحديث عن مردوده الاستثنائي داخل الملعب.

خلف هذا المشهد، رجل يُدعى فلورنتينو بيريز، لا يزال يحلُم بامتلاك بيكهام جديد، بعد محاولات لاستقطاب نجوم بريطانيين لم تُكلل بالنجاح المنشود. هذه المحاولات، دائمًا ما كانت تعكس وعي بيريز بضرورة امتلاك لاعبين يمنحون النادي ولوجًا لأسواق جديدة تتحدَّث الإنجليزية. لأن اللاعب الإنجليزي يحظى بمكانة وتقدير أعلى من غيره في كثير من الأحيان قد تساهم في إنجاح خطط النادي التسويقية، حتى ولو لم يكن بجودة «بيلينجهام».

مزيد من الرهانات

يحاول «باكيتا»، لاعب ويست هام، اللحاق بمنافسه، لكنّه يقوم بتدخُّل ساذج في منتصف الملعب، ويتلقى بطاقة صفراء. كان هذا المشهد ليمر مرور الكرام في الظروف العادية، لكن ذلك لم يحدُث.

في 12 مارس آذار 2023، تلقت عدة من منافذ المراهنات على كرة القدم في البرازيل عددًا كبيرًا من الرهانات على حصول لوكاس باكيتا، لاعب ويست هام الإنجليزي، على إنذار، وفورًا، تنبهت أنظمة النزاهة والشفافية بتلك المكاتب وقامت بتتبُّع هوية ومواقع أصحاب الرهانات، ليتضح أنّ معظمها أتت من حسابات جديدة، موقعها جزيرة «باكيتا» في البرازيل.

حسب «ديلي ميل» البريطانية، وضَع المقامرون رهانات ضخمة على إنذار «باكيتا»، وصلت لـ1000 جنيه استرليني، وهذا ما استدعى استجواب الاتحاد الإنجليزي للاعب الذي أنكر تورطه في أي نشاط له علاقة بالمراهنات، وأنّ ارتكابه لهذا الخطأ، كان مجرَّد محاولة فاشلة منه للالتزام بتعليمات مدربه الذي يطالبه دائمًا بالمساندة الدفاعية لزملائه في الفريق.

على كُلٍ، وبغض النظر عن هذا المشهد تحديدًا، تعاني كرة القدم بشكل عام من تهديد واضح بسبب المراهنات. ففي 2023 فقط، تم الكشف تورُّط كل من «إيفان توني» و«ساندرو تونالي»، نجوم برينتفورد ونيوكاسل الإنجليزيين في المراهنات، بجانب عدد من لاعبي الدوري الإيطالي الممتاز.

حقيقة، المشكلة الأكبر ليست في تورُّط هؤلاء اللاعبين، أو غيرهم ممن لم يتم الكشف عن هويتهم. لكن الأزمة هي أنّ هؤلاء اللاعبين مطالبون بأن يُصبحوا لوحات إعلانية لشركات المراهنات التي ترعى أنديتهم، ثم تتم معاقبتهم إذا ما قرروا تجربة المنتج الذي يقومون بالترويج له.

تمثل هذه الحالة ازدواجية غريبة في المعايير، ففي نفس الوقت الذي لا تزال بعض الأندية غير قادرة التخلّي عن صفقات الرعاية القادمة من شركات المراهنات العالمية، تُسهم نفي الأندية بشكل غير مباشر في الترويج لصناعة مُدمرة، وصل عدد مستخدميها إلى نحو 176 مليون مستخدم حول العالم في عام 2023.

في النهاية، بالتأكيد لم تكن المشاهد أعلاه أهم ما حدث في عام 2023 كرويًا، لكنَّها منحت مُشجِّع كرة القدم العادي القدرة على متابعة أحداث لم يكن ليهتم بها دون وجود كرة القدم.

هذا بالتحديد ما كان قصده ديفيد جولدبلات، الذي بدأنا قصتنا معه؛ كرة القدم قد تدفع متابعها إلى الاهتمام بأشياء خارج محيط اهتمامه، الذي يتوقّع ألا يتعدى الاحتفال بالانتصارات والحزن عند الخسارة، أشياء مثل: صعود دولة كقوة اقتصادية كبيرة بالعالم، تأثير رحلات الطيران على البيئة، كيفية إدارة المؤسسات لأزماتها المالية، واستغلالها للنجوم لاقتحام أسواق جديدة، أو حتى التعرُّف على ظاهرة سلبية قَد تتسبب في إفساد حياة الملايين.