في ملعب سيول بالعاصمة الكورية وقف أكثر من 62 ألف مشجع يحيون هؤلاء القادمين من أدغال أفريقيا ليحققوا المفاجأة، استطاع منتخب السنغال ببساطة أن يطيح بالديك الفرنسي في المباراة الافتتاحية لكأس العالم 2002. إلا أن تلك الأسماء المجهولة للعالم تمامًا آنذاك لم تذهب لترد التحية للجماهير، بل إنهم ذهبوا ليلتفوا حول مدربهم الفرنسي برونو ميتسو في سعادة غامرة ووفاء واضح.

رجل أبيض ذو عيون زرقاء، يطلق شعره ليتهدل على كتفيه، يلتف حوله وجوه سمراء تحييه، مشهد يليق بالأساطير الأفريقية التي تحكي عن الرجل الأبيض مبعوث الرب، الإله الذي تجسد بشرًا، لكنه لم يكن يتعامل من هذا المنطلق أبدًا، بل كان يجذبهم نحوه ليرتموا في أحضان بعضهم البعض. ربما الملايين نظروا لنفس المشهد، ولكن هناك رجلًا كان على بعد كيلومترات رأى فيه مستقبله.


1. الفرصة دائمًا في أفريقيا

أريد الوصول لأعلى مستوى ممكن في العالم. كأس العالم؟ ربما، من يدري ولكن لا أريد أن أحقق هذا خارج أفريقيا، لقد منحتني أفريقيا فرصة الظهور الأول كمدرب رئيسي في حدث كروي كبير.

«هيرفي رينارد» متحدثًا عن طموحه بعد فوزه بكأس أمم أفريقيا مع زامبيا.

كان هناك فرنسي آخر يتابع مشهد ميتسو مع لاعبيه عن كثب ويرى فيه مستقبله، وهو المدير الفني الحالي للمنتخب المغربي هيرفي رينارد. ففي هذا العام تحديدًا 2002 بدأ رينارد مشواره التدريبي في دولة هي أقرب ما يكون من كوريا الشمالية، وهي الجارة الأكبر الصين، حيث عمل كمدرب مساعد لفرنسي ثالث له من التاريخ في أفريقيا ما يفوق الاثنين، وهو الفرنسي كلود لوروا والذي قاد منتخب الكاميرون في كأس العالم نسخة 1998.

تمامًا مثل ميتسو كان رينارد أيضًا لاعبًا متواضعًا انتقل بين عدة أندية في فرنسا، وبعد تقاعده بعامين بدأ مشواره التدريبي كمساعد للفرنسي لوروا بنادي شنغهاي الصيني، ثم نادي كامبردج الإنجليزي في الدرجة الرابعة، والذي قدم له الفرصة ليتولى منصب المدير الفني في تجربة قصيرة غير ناجحة كررها مع النادي الفرنسي في الدرجة الرابعة أيضًا تشيربورغ ليعود لمنصب مساعد المدرب رفقة لوروا مرة أخرى، ولكن هذه المرة لمنتخب الكاميرون.

وبينما قدم الاتحاد السنغالي الفرصة للفرنسي برونو ميتسو ليبدأ عمله بأفريقيا، قدم الاتحاد الزامبي الفرصة لرينارد لكي يصبح المدير الفني للمنتخب الزامبي ليبدأ رحلته داخل أفريقيا، والتي سيحقق فيها إنجازاته، ولن يحقق شيئًا خارج حدودها.

قادت الأقدار كلا المدربين لكي تصبح بدايتهما في أفريقيا، ولكن لم يكن على سبيل المصادفة توهج الاثنين كمدربين في القارة السمراء، بل تفهمهما تمامًا لطبيعة شعوب هذه القارة.


2. هؤلاء الذين يؤمنون بالقارة السمراء

كرة القدم ليست مجرد تكتيكات. بعض الناس يميلون إلى نسيان ذلك.
تصريح سابق لبرونو ميتسو.
أنا أحب ابتسامة الناس في أفريقيا التي تشع من قلب كبير ومقدر، أنا أحب أفريقيا.
تصريح سابق لهيرفي رينارد.

تبدو التصريحات السابقة لكلا المدربين تجارية في حالة أنها نسبت لمدرب خاض فترة تدريب قصيرة مع إحدى الفرق الأفريقية، إلا أن الرجلين كانا يتحدثان بقلوب صادقة تمامًا. برونو ميتسو وهيرفي رينارد يتشاركان الإيمان التام بقدرات القارة السمراء في التطور وتقديم مستويات تناطح الكبار ومفاجأة الجميع، فببحث صغير على الإنترنت ستجد أن هناك المئات من المدربين الأجانب الذين قدموا إلى أفريقيا ورحلوا دون إنجاز يذكر.

لنعود ونتتبع التشابه الكبير في مسيرة كلا المدربين داخل أفريقيا، بينما تعتبر الفترة التي قضاها ميتسو داخل أفريقيا قصيرة حيث تولى ميتسو المسئولية عن المنتخب الغيني ثم السنغالي عام 2000، واستطاع أن يصل بالأخير إلى نهائيات كأس العالم بعد عامين فقط ليرحل بعدها إلى الخليج عبر بوابة العين الإماراتي. احتاج رينارد إلى عشرة أعوام لكي يستطيع خلالها أن يعادل إنجاز ميتسو في قيادة فريق أفريقي إلى نهائيات كأس العالم، وهو ما تحقق أخيرًا من خلال القيادة الفنية للمنتخب المغربي بعد أن ترأس مجموعة ضمت ساحل العاج والجابون ومالي.

عشرة أعوام حاول فيها رينارد الخروج من أفريقيا ولكنه لم يستطع. للرجل تجربتان غير ناجحتين مع ناديي سوشو وليل الفرنسيين، أما في أفريقيا فهو السيد. استطاع رينارد أن يصبح أول مدرب يفوز بكاس أمم أفريقيا للمنتخبات بفريقين مختلفين، حيث حقق اللقب في ولايته الثانية مع منتخب زامبيا عام 2012، ومنتخب ساحل العاج عام 2015.

لكن ما نريد أن نلقي الضوء عليه هنا هو الارتباط الشديد بين كلا المدربين وبين القارة الأفريقية فميتسو الذي فارق الحياة بعد صراع مع مرض السرطان أوصى أن يدفن في داكار العاصمة السنغالية، بينما لم يستطع رينارد أن يحقق نجاحًا يذكر خارج القارة السمراء ليعود أخيرًا ويقود المنتخب المغربي للصعود لكأس العالم مثلما فعل ميتسو مع السنغال، وهو ما يقودنا للمقارنة بين البلدين.


3. سنغال ميتسو ومغرب رينارد

قدم ميتسو إلى السنغال ليفاجأ بقائمة قدمها له الاتحاد السنغالي تحتوي على عدد من أسماء اللاعبين المتهمين بالتراخي وعدم الرغبة في تمثيل المنتخب، إلا أنه ألقى بهذه القائمة جانبًا وبدأ في التعامل المباشر مع اللاعبين وخلق أهدافًا ودوافع انتهت بتمثيل أكثر من ممتاز للسنغال في كأس العالم 2002.

هكذا أيضًا عانى منتخب المغرب ولاعبوه من الاتهامات الدائمة، والتي تتجدد بعد كل فشل للمنتخب، سواء في بطولات أفريقيا أو مباريات التأهل لكأس العالم الذي غاب عنه المغرب لعشرين عامًا، اتهامات بأن هؤلاء اللاعبين لا يمتلكون الولاء اللازم للعب باسم المغرب، وأنهم يفضلون بذل المجهود مع أنديتهم الأوروبية على التضحية مع المنتخب المغربي. إنهم يبحثون عن المال والشهرة لا عن الوطن ورد دينه.

اتهامات ألقى بها أيضًا رينارد جانبًا ليتأكد مع الوقت أن المنتخب المغربي مليء بعناصر متميزة تحتاج فقط للصرامة التي يشتهر بها رينارد نفسه، تحتاج أن تذهب الفرصة لمن يستحقها ويعمل من أجلها دون النظر لشهرة النادي الذي يلعب به.

وبالحديث عن لاعبي المنتخبين وأنديتهم فالتشابه موجود أيضًا. استطاع منتخب السنغال أن يخطف أنظار العالم بقائمة تلعب في أندية متوسطة، ولكنها مواهب واعدة تمامًا، وهكذا هو المنتخب المغربي الذي يتفوق باسمين فقط هما بن عطية لاعب اليوفنتوس وأشرف حكيمي لاعب ريال مدريد الشاب.

دعنا نقارن بين أربعة وجوه من الفريقين. الحاج ضيوف وبابا ديوب كانا يلعبان حينها في لانس الفرنسي، وخليلوفاديجا في أوكسير الفرنسي وهنري كامارا في سيدان الفرنسي. بينما يضم المنتخب المغربي سفيان مرابط الذي يلعب في فينورد الهولندي وحكيم زياش نجم أياكس أمستردام ويونس بلهنده في جالطا سراي التركي ونورالدين مرابط لاعب ليغانس الإسباني.

يتبقى أهم ما يميز تلك المقارنة، وهو صعوبة موقف الفريقين في مجموعات كأس العالم، فبينما وقعت سنغال ميتسو بجوار فرنسا والدنمارك والأوروجواي فمغرب رينارد وقعت بجوار العملاق الإسباني وبرتغال رونالدو والفريق الإيراني. وبالطبع نتمنى جميعًا أن يتشابه المصير بين الفريقين ويستطيع رينارد أن يحقق المفاجأة ويصعد بالمنتخب المغربي للدور التالي. وهو ما يعتزم فعله الرجل الذي يقدم مباريات ودية جيدة، ويصرح بضرورة التحسن واستغلال الفرص في كأس العالم.


4.الموت في السنغال وفيفيان دييه

أوصي أخيرًا برونو ميتسو أو عبد الكريم ميتسو كما سمى نفسه بعد أن اعتنق الإسلام أن يدفن جثمانه في داكار بالسنغال ليودعه السنغاليون بالكثير من الوفاء والدموع، وعلى رأسهم زوجته السنغالية فيفان دييه

هل ما زلت لا تصدق أن رينارد هو ميتسو الجديد؟ حسنًا فيفان دييه أرملة برونو ميتسو هي شريكة حياة هيرفي رينارد الآن ويعيشان سويًا بالسنغال. سأتركك الآن مع تصريح رينارد الذي يؤكد فيه أنه ربما يدفن في أفريقيا هو أيضًا.

في أفريقيا أشعر بالحرية، لا أعتقد أني أستطيع أن أنهي حياتي في أي مكان آخر غير هذه القارة.