تفتخر عديد الدول اليوم أنها تخطت سنوات من الحكم الفردي المطلق، ورسّخت لنظام حكم جديد يكون فيه الشعب في لجان الانتخابات يختار رئيسه وبرلمانه، مُنتظراً منهم تحقيق وعودهم الانتخابية الرنّانة. كما تكوّنت على مدار سنوات عقب الحروب العالمية منظمات دولية وحقوقية تراقب عمل وشفافية الانتخابات مستفيدة من حركات التحرر في أفريقيا والدول النامية.

لكن على الرغْم تلك الجهود والأموال التي تُصرف، إضافة إلى الدعاية في الإعلام أو تلقين تلك القيم إلى الأجيال الناشئة، لم تستطع إصلاح العيوب الواضحة والخفية في عملية اختيار الحُكّام ومُشرعي القوانين، بدايةً من اختيار الانتماء لحزب عن آخر أو تفضيل مرشح عن منافسه، وكيفية استخدام الطرق غير الشرعية في الوصول إلى سدة الحكم.

سواء لاحظت ذلك الخلل أو كان باطناً، سنسلط الضوء على بعض تلك المشكلات التي عجزت الانتخابات عن حلّها، بل كان منها ما أظهرته الانتخابات الحرة.

1. الانتماء لحزب وتبني أفكاره بشكل مطلق

الحياة الحزبية في الولايات المتحدة ثرية في دراستها، سريعة في تقلباتها، مثلما كان قديماً يمثل الحزب الديمقراطي طبقة رجال الأعمال والأغنياء، تحولت تلك الطبقة اليوم إلى المعسكر الجمهوري، ومثلما كانت سريعة التغييرات استقر اليوم الوضع وتحولت مبادئ الحزب الديمقراطي إلى مساندة الأقليات وأخرجت من تلك الأقليات مرشحين لها لأول مرة، فشاهدنا رئيس أسمر البشرة، وامرأة مُرشّحة للرئاسة، واليوم أول نائبة رئيس.

على جانب الحزب جمهوري، هناك اهتمام بدعم الفئات الكلاسيكية من المجتمع من رجال الأعمال والرأسماليين، فتم جذب الدعم المادي، ولعبوا على وتيرة توفير فرص عمل والحفاظ على قيم الأسرة.

لكن استمرت الاتهامات بين الحزبين؛ إمّا بالعنصرية من جهة، أو اللاأخلاقية من جهة أخرى. ولكن بين تلك المبادئ اكتسب كلا الحزبين منتسبين ومنتخبين، وهو ما استغلته المناظرات الانتخابية التي لعبت على مشاعر الناخب وتخويفه من وصول المنافس للحكم، فمال الناخب إلى الثقة غير المشروطة في الحزب المنتمي له بصرف النظر عن أحقية مرشح الحزب أو مناسبة قيم الحزب للفترة الراهنة.

2. اختلاف ظروف كل انتخابات

كان العالم غير مُستقر خلال حقبة الكساد العظيم، وزادت الصعوبات بعدها بسنوات وقت أعادت الحرب العالمية الصراعات بين الدول الكبرى، في تلك الأثناء لم يصغ الدستور الأمريكي بشكل قطعي إلزامية الترشح للمنصب مرتين على الأكثر، لكنها كانت من الاتفاقيات الضمنية، لكن ذلك المبدأ الضمني لم يمنع الرئيس «فرانكلين روزفلت» من دخول الانتخابات أربع مرات، فاز بهم جميعاً، وحاز على ثقة الشعب في ظرف استثنائي.

كان الخطر وجودي، وكانت الإجراءات الروتينية غير مطلوبة، ولكن تغير ذلك لاحقاً، وكُتب في الدستور مادة الترشح مرتان على الأكثر، دون اللامبالاة بالظروف الجديدة، التي يمكن أن تُعطِّل انتقال السلطة.

3. القرارات والقوانين ليست حرة

في مذكرات السفير السعودي السابق في الولايات المتحدة «بندر بن سلطان»، تم التطرق إلى حملة منهجية تكاتفت بها مجموعات ضغط للحصول على إقرار الكونجرس في إمداد المملكة السعودية بمجموعة من طائرات اواكس.

كان الكونجرس رافض لتلك الصفقة، على عكس البيت الأبيض بقيادة رونالد ريجان، الذي استخدم سلطته في استمالة أعضاء الكونجرس، حتى إنه اجتمع بمجموعة منهم وناقشهم في مكان عمله.

في المقابل استخدم السعوديون نقاط قوتهم من جانب آخر، وعقدوا تحالفات مع شركات تستفيد من إتمام الصفقة مقابل عقود بترولية، مثل شركة موبيل، مما ضمن ضغطاً إعلامياً أنهى تلك المعركة بالموافقة على صفقة الأسلحة.

الشاهد من تلك القصة أن القرارات والقوانين تُحاك في الظلام وتدخل التحالفات ضمن شراء القرار قبل صدوره.

4. وعي الناخب فارق وغياب الوعي يغلب

في بداية صياغة الدستور الأمريكي، اهتم الآباء المؤسسون بالوصول إلى نظام انتخابي مناسب، وكان الحل عندهم في طريقة المجمع الانتخابي، تلك الطريقة رغماً عن كثرة الانتقادات الموجهة لها، لكنها في المقابل تجد العرفان في تقليل فرص شراء الأصوات، لأنك مهما احتجت من ناخبين يمكنك أن تخسر بأصوات قليلة وتخسر معه أصواتاً مؤثرة في المجمع الانتخابي، لكن غفلت تلك الطريقة وغيرها من طرق التصويت المباشر عن مشكلة دراية الناخب بأمور الدولة السياسية والاقتصادية والإدارية، فهو لمشاغله الحياتية يستحيل أن يمتلك كفاية من الوقت حتى يتابع برامج المرشحين جميعاً وأن يفاضل بينهم ويحدد من بينهم هو الأصلح.

خطورة ذلك ظهرت فيما بعث به لصحيفة «ذي أتلانتيك – The Atlantic» أحد المتحمسين لحكم ترامب، مبرراً ذلك أنه يريد أن يتابع الفوضى، فهو شاب لا يفكر في الزواج أو الأبناء ولا يهتم بالأحداث في الولايات المتحدة، لذا من الممتع له رؤية معاناة ملايين غيره، مُتعاملاً مع الانتخابات كلعبة.

5. لعبة تسويقية أكثر منها سياسية

في أعقاب فترة ريجان، كان الرئيس مهتماً أن يورث الرئاسة إلى حليفه ونائبه بوش الأب، تلك الرغبة لم يخفها الرجل، بل إنه استغل شعبيته وحضوره في الدفع بالنائب في الانتخابات التالية، موصلاً للناس أن المشروع لم يكتمل وأنه في حاجة لبوش لاستكمال نهج ريجان المنتهية ولايته.

تلك الدعاية لم تتوقف عند التأييد فقط، لكن طالت منافس بوش، «ميكائيل دوكاكيس»، الذي كان في مرمى الشائعات، عقب وفاة شقيقه وخسارته الانتخابات في ولايته، حيث أُشيع أنه أُصيب بمشاكل صحية.

هي شائعات يمكن التغاضي عنها لو تمتم به رجل عادي، لكن أن يُلمِّح ريجان بذلك، حولّها إلى دعاية انتخابية سلبية على منافسه. وهو أمر فشل دوكاكيس في معالجته لاحقاً، عبر تأكيدات صحفية ونشر تقارير صحية تثبت وضعه المستقر.

كذلك لم تتغير الأوضاع كثيراً حين نفى ريجان نفسه صدق كلامه السابق، ليهدم فرص الحزب الديمقراطي في الوصول للسلطة.

وكم من مرة تبادل المرشحان الاتهامات الشخصية وإبراز الفضائح، مما يقلب الموازين في الانتخابات، وتتوه الوعود الانتخابية والخطط بين تلك الصراعات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.