أصوات مدافع وتفجيرات تُسمع في أقصى غرب القارة الأفريقية، إنها أصوات الرصاص المصحوب بالغضب والمؤمرات قادمًا من الجزائر 1991، أطلقها الجيش ضد تيارات الإسلام السياسي التي فازت بأغلبية ساحقة في أول انتخابات تعددية شهدتها الجزائر في تاريخها منذ التحرر من الاستعمار الفرنسي عام 1962. الجيش لم يقف صامتًا إزاء اللحى الصاعدة، حرك آلته العسكرية مجهضًا أول تجربة حقيقية، حتى بدأت آلة العنف في الدوران ولم يوقفها إلا الجماجم والأجساد الممزقة.

احتاجت آلة العنف إلى أكثر من 200 ألف قتيل وعشرات الآلاف من المصابين والمعتقلين والمفقودين لكي تكف عن الدوران. جاء الرجل الذي انتظرته الجزائر طويلًا ليوقف الآلة التي عملت منذ حوالي عشر سنوات، إنه عبد العزيز بوتفليقة، الذي فاز في انتخابات الرئاسة عام 1999، واضعًا رؤية سياسية أنهت «العشرية السوداء» في البلاد، بدأها بقانون عفوٍ عام عن المتورطين في المذابح، انتهاءً بميثاق «السلم والمصالحة الوطنية» عام 2005، للعفو عن مئات المسلحين من الأحزاب الإسلامية المتورطين في العشرية السوداء، لينهي بذلك حقبة سوداء من تاريخ الجزائر.

حظي بوتفليقة بشعبية وسط الجزائريين لنجاحه في تجميد آلة العنف، إلى أن أقعده المرض ليحكم الجزائر في السنوات الأخيرة من أعلى كرسيه المتحرك خلافًا لتقدمه في السن. حانت لحظة اعتزال الرجل. خرج حزب «جبهة التحرير الوطني» الحاكم ببيان متوقع معلنًا سحب دعوة ترشيح بوتفليقة لعُهدة خامسة في الانتخابات المقرر إجراؤها في شهر أبريل/ نيسان المقبل، تاركًا التكهنات حول من يخلفه.

نظريًا يقوم النظام السياسي في الجزائر على التعددية الحزبية منذ عام 1989، اليوم يوجد أكثر من 60 حزبًا، إلا أنها تعددية شكلية، فمعظم الأحزاب توصف بالموالين للسلطة، هي صنيعة وربيبة الحزب الحاكم منذ الاستقلال «جبهة التحرير الوطني»، والذي حكم منفردًا لمدة ثلاثة عقود، وحتى بعد إقرار دستور 1989 التعددية ظل يحكم بالآلية ذاتها، فحينما فازت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بمعظم مقاعد البرلمان انقلب الجيش عليها.

بالتالي كانت الديمقراطية مضرة للحزب الحاكم ولا ضير من آلاف الجثث لتعديل هذا المسار، وقد كان. وحتى اليوم ما زال هذا السيناريو يُستحضر في كل مناسبة انتخابية كفزاعة إن لجأ الجزائريون لسيناريوهات مشابهة، فالخيار أمامهم فقط من داخل السلطة وليس خارجها.

انتفض الجميع بعد إعلان عدم ترشح بوتفليقة. قد يقال إن الفرصة سانحة أمام الأحزاب لطرح مرشحيها لانتخابات الرئاسة التي لم يتبقَ عليها سوى أقل من 4 أشهر. للأسف لم يتقدم أحد، معظم من أعلنوا الترشح أو من يدور حولهم تساؤلات إما أفراد تابعون للنظام وإما شيوخ بلغوا من الكبر عتيًا، فالنظام الحزبي في الجزائر غير قادر على المنافسة، وذلك نتيجة لتعمد السلطة إضعافه، بخلاف ضعف كوادر الأحزاب ذاتهم.


أحمد أويحيى: حافظ أركان النظام

يعتبر رئيس الوزراء الوزير الأول أحمد أويحيى من بين الأكثر ترشيحًا لخلافة بوتفليقة، ويشغل منصب الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديموقراطي ثاني أكبر الأحزاب في البلاد والموالي للحزب الحاكم. لم يأت أويحيي للسلطة فجأة، فهو ابنها منذ نظام ما بعد التحرر من الاستعمار الفرنسي، وقد ولد عام 1952، وشغل مناصب عدة في وزارة الخارجية.

ظل أويحيى يعمل في أدراج الخارجية حتى تولي بوتفليقة الحكم ليصبح أحد المقربين منه، وفي عام 1994 تولى منصب مدير الديوان لدى رئاسة الجمهورية، ليُختار بعدها رئيسًا للحكومة في ديسمبر/ كانون الأول 1995 حتى عام 1998، يتولى بعدها حقيبة العدل منذ عام 1999 وحتى 2002، تاركًا إياها للعودة لأحضان بوتفليقة شاغلًا منصب الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية حتى مايو/آيار 2003، وينتقل منها مجددًا لرئاسة الحكومة حتى مايو/ آيار 2006. يظل بها حتى مارس/آذار 2014، عائدًا لركب بوتفليقة متوليًا منصب مدير ديوان رئاسة الجمهورية حتى أغسطس/آب 2017، قبل أن يعيده بوتفليقة مرة أخرى لرئاسة الوزراء، وحتى يومنا هذا.

تكشف سيرة أويحيى أنه رغم رئاسته لحزب ثانٍ في الدولة بخلاف الحزب الحاكم «جبهة التحرير الوطني»، أصبح من رجال بوتفليقة منذ توليه الرئاسة عام 1999، فهو ليس مجرد شخص وضع في رئاسة الوزراء ليكون حاكمًا شكليًا، إنما كان أحد أذرع بوتفليقة لإرساء حكمه في ظل الحرب الأهلية والعشرية السوداء التي ضربت الجزائر عقب الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية.

بالتالي ليس مستبعدًا أن يكمل أويحيى مسيرة بوتفليقة ويكون على رأس السلطة، خاصة أن الأوضاع في الجزائر تغيرت بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، فقد اضطر النظام إلى إجراء بعض التغييرات خوفًا من امتداد شرارة الغضب العربي إليه. وإن لم يتولَ أويحيى رئاسة الجزائر فعلى الأقل قد يبقى طويلًا في رئاسة الوزراء إن قدم بوتفليقة عليه أحد رجاله الآخرين.


سعيد بوتفليقة: أخو الرئيس وكاتم أسراره

سعيد بوتفليقة ليس مجرد أخ للرئيس، إنما أحد أذرعه القوية التي كانت خفية، ثم سرعان ما برزت للعلن بفعل مرض بوتفليقة. ولد سعيد عام 1957، وقد بدأ التاريخ السياسي له حينما وصل أخوه إلى الرئاسة، كان أحد كوادر حملته الانتخابية، وبعد ذلك مستشارًا خاصًا له، وظل هكذا يتولى حملاته الانتخابية لجميع فترات ترشحه، وإن كانت محسومة بفعل سيطرة الحزب على البلاد.

انتقل سعيد عام 2005 إلى مرحلة جديدة، حينما مرض أخوه، وبرز دوره بشكل أكبر كحاكم خفي عام 2011 تزامنًا مع شدة مرض أخيه وما حل بالمنطقة العربية من موجة احتجاجات نالت الجميع، واستطاع سعيد أن يتجاوز هذه المرحلة ويحفظ عرش أخيه.

ومن أجل التفرغ لمرحلة ما بعد الثورات العربية، تخلى سعيد عن قيادة حزب «التجمع من أجل الوئام الوطني» الذي أسسه عام 2010، ليظهر علانية أنه سيكون خليفة أخيه إن كان حتمًا هناك تغيير قادم، وسبق أن لعب سعيد دورًا كبيرًا في الإطاحة برؤساء حكومات، من بينهم عبد المجيد تبون، بخلاف دوره في التدخل بالدوائر القيادية في حزب «جبهة التحرير الوطني»، مثل دوره في إقالة علي بن فليس من منصب الأمين العام لجبهة التحرير في 2003.

إذن تبقى حظوظ سعيد كبيرة، خاصة أنه من رجال الحكم منذ ما يقرب من 20 عامًا، عرف كيف تدار الانتخابات وهندستها وتحقيق المواءمات الداخلية والخارجية، فمن استطاع الحفاظ على عرش أخيه قادر على أن يطيل في عمره سنوات أخرى، لكن هذه المرة تحت قيادته.


مولود حمروش: منافس بوتفليقة القديم

يوصف مولود حمروش بأنه مهندس مرحلة الانفتاح السياسي في الجزائر، وذلك بمشاركته في وضع دستور 1989 الذي أنهى مرحلة الحزب الواحد «جبهة التحرير»، فقد تولى رئاسة الحكومة منذ عام 1989 إلى 1991، ومن بعدها أصبح من دائرة المغضوب عليهم.

يريد حمروش أن يطرح نفسه من خلال بوابة الشارع لا النظام، مروجًا لنفسه وسط قطاعات الشباب أنه «رجل المرحلة» رغم كبر سنه، فهو من مواليد عام 1943، وسبق أن نافس بوتفليقة في انتخابات 1999، لكنه سرعان ما انسحب متهمًا النظام بالانحياز إلى مرشحه، ورفض بعد ذلك الترشح مجددًا بدعوى غياب ضمانات النزاهة.

يعتبر حمروش من أحد أفراد نظام ما قبل بوتفليقة، فقد بدأ عمله في دولاب الدولة عام 1968حينما عُين منتدبًا من وزارة الدفاع لدى رئاسة الجمهورية، وشغل أيضًا منصب مدير مساعد برئاسة الجمهورية، وأمين عام الحكومة، وفي عام 1986 تقلد منصب أمين عام رئاسة الجمهورية، وأخيرًا رئاسته القصيرة للحكومة من سبتمبر/ أيلول 1989 وحتى يونيو/ حزيران 1991.

ومن بعد منافسته لبوتفليقة واتهامه لنظامه بعدم النزاهة في الانتخابات غاب عن دولاب الدولة، فكان أحد كوادر حرب التحرير وأحد أعضاء حزب جبهة التحرير ، لكنه الآن أصبح منبوذًا خارج الجبهة وطمس ماضيه، بخلاف عدم امتلاكه ظهيرًا حزبيًا وسياسيًا قويًا يمكنه من المنافسة وإدارة الدولة إن نجح في ذلك، فقد يعود إلى الدولة من بوابة الشارع في هذه الانتخابات رغم بلوغه من الكبر عتيًا.


بلخادم: المغضوب عليه يعود لحظيرة الرضا

يعتبر عبد العزيز بلخادم (مواليد 1945) من أقدم الوجوه السياسية في الجزائر ، رغم خروجه المهين من السلطة على يد الرئيس بوتفليقة في أغسطس/ آب 2014، حينما أقاله من منصبه كمستشاره الخاص، وليس هذا فحسب، بل منعه من شغل أي منصب في أيٍ من مؤسسات الدولة.

لم يكن بلخادم رجل بوتفليقة فقط، فقد ولج إلى السياسة عبر أبواب من سبقوه، شغل منصب نائب مدير العلاقات الدولية برئاسة الجمهورية من عام 1972 وحتى 1977، وظل أحد قياديي جبهة التحرير، لينتخب نائبًا سنة 1977 في البرلمان، وفي 1988 شغل منصب نائب رئيس البرلمان، ثم تولى رئاسته حتى عام 1992.

يعد بلخادم من أهم قياديي الحزب الحاكم، فقد كان عضوًا في المكتب السياسي، ثم عضوًا في لجنته المركزية عام 1997، عُين بعدها وزير دولة للشئون الخارجية في يوليو/ تموز 2000، ومن يومها ظل أحد أذرع الرئيس، حتى وصل الأمر به إلى الإطاحة بعلي بن فليس من منصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير وشغل مكانه، وذلك عام 2005، وظل ممثلًا شخصيًا لبوتفليقة حتى عام 2006، ليعينه رئيسًا للوزراء خلفًا لأويحيى حتى عام 2008، عائدًا بعدها لمنصبه كممثل للرئيس ومن هنا غادر في 2014 ظِل بوتفليقة تمامًا.

عاد بلخادم مجددًا إلى حظيرة الرضا بشكل مفاجئ، ضمن خطة النظام لإجبار الجميع على قبول مرشح معين، ففي ديسمبر/ كانون الأول الجاري عاد إلى مقر الحزب،وسط تقارير عن أن النظام يعده لشيء ما متغاضيًا عما سبق، وكان الأمين العام لحزب الجبهة جمال ولد عباس قد أقيل من منصبه، وقد يأتي بلخادم بديلًا له، وإذا تم ذلك فقد يتم الدفع به في الانتخابات الرئاسية، أو على الأقل يظل ظهيرًا لمن يستقر عليه النظام بشكل نهائي.


عبدالمالك سلال منا آل بوتفليقة

يعتبر سلال أهم رجال بوتفليقة الذين اعتمد عليهم منذ وصوله لكرسي الرئاسة. ولاه منصب رئاسة الوزراء منذ سبتمبر/ أيلول 2012 وحتى مايو/ آيار 2017، وقد شغل هذا المكان بحكم علاقتهما القوية. كان مديرًا لحملة بوتفليقة الانتخابية في دورة 2004 و2009 و2014، وسبق أن شغل عدة حقائب وزارية من بينها وزارة الري ووزارة النقل وحقيبة الأشغال العمومية، وكان يتولى وزارة الداخلية قبل مجيء بوتفليقة للرئاسة، ليعينه أول مجيئه وزيرًا للشباب والرياضة.

ورغم كبر سنه (مواليد 1948)، فإنه ما يزال يحظى بالقبول لدى جبهات النظام، وقد كان من ضمن المرشحين لخوض غمار الانتخابات عام 2014، لكن مع ترشح بوتفليقة تراجع كغيره من أبناء النظام، وتشير تقارير إلى أن بوتفليقة أقاله من رئاسة الحكومة تمهيدًا ليكون خليفته، فالجيش قد يعارض تولي أخيه الحكم خوفًا من إرساء وراثة الحكم، وبهذا يحمي سلال مصالح عائلة بوتفليقة والمقربين.

وإلى جانب هذه الأسماء هناك آخرون داخل النظام أمثال الفريق أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع، رئيس أركان الجيش، ومن المحسوبين على المعارضة رئيس الوزراء السابق علي بن فليس، الذي كان منافسًا قويًا لبوتفليقة عام 2009 وتم إقصاؤه.

وأيًا ما يكون المرشح القادم فإنه لن يخرج عن عباءة النظام، فالجزائريون جربوا العشرية السوداء حينما أتى من لا يرضى عنهم الجيش الذي انقلب على الانتخابات، وبالتالي هو ومعه أركان جبهة التحرير سيتوافقون على من يخلف بوتفليقة إن قرر بشكل نهائي الاعتزال وختام حياته على كرسيه المتحرك بدلًا من كرسي الرئاسة الساكن.