إن واشنطن لم تعد تريد التعاون مع بقية العالم، ووصلنا إلى مرحلة باتت تفرض علينا البحث عن بديل للولايات المتحدة.

رئيس المفوضية الأوروبية معلقًا على تصرفات الإدارة الأمريكية تجاه الاتحاد الأوروبي

منذ ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة يترنح في خلفية المشهد ظلال لشيء ما غير معتاد، أمرٌ يخبرنا أن إستراتيجية تعامل أقوى دولة في العالم على وشك التغيير، مائة وثمانون درجة، تجاه حلفائها كما أعدائها. ومنذ بداية توليه الرئاسة ولا يخطئ في مفاجأتنا بادعاءات وقرارات هي الأولى من نوعها. قدم تنازلات إزاء عديد القضايا التي أثارها أول ما جاء إلى البيت الأبيض لكنه لم يغير سياسته تجاه أوروبا، فلطالما كانت الحليف الدائم والأبرز للولايات المتحدة في مواجهة الشرق السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، ومن الواضح أنه في طريقه للتخلي عنها.يتعامل مع كل دولةٍ على حدة، ولا يولي اهتمامًا للكتلة الأوروبية مجتمعة، يعاملها كما يعامل دولًا كالسعودية والإمارات وقطر، يطالبهم بالدفع مقابل الحماية، ولا يولي اهتمامًا لمصالحهم!

خمس خطوات مشاها ترامب نحو تفكيك الكتلة الأوروبية وإضعافها أكثر من أي وقت مضى، في زمن صعود روسيا الاتحادية والصين لا تجد أوروبا الحليف الأمريكي القوي إلى جوارها!


1. اتفاقية المناخ

بعد عدة أشهر من انتخابه يصرح ترامب بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، ما وصف بانتكاسة للجهود العالمية، فلا سبيل لمناقشة الاتفاقية مرة أخرى كما يرى موقعوها بعد انسحاب الولايات المتحدة. تقضي الاتفاقية بالعمل على تقليص ارتفاع درجة الحرارة درجتين مئويتين. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة هي الدولة الثانية بعد الصين المسؤولة عن انبعاث قدر كبير من الغازات الدافئة والضارة، إلا أنها مصدر هام لتمويل التكنولوجيا في الدول النامية للحد من تلك الانبعاثات، ما سيؤدي إلى زيادة فاتورة الدول الكبرى كألمانيا وفرنسا لتمويل الدول النامية.يصطدم ترامب للمرة الأولى بالاتحاد الأوروبي بعد وقوف الأخير إلى جانب الصين أمام قراره. يدرك ترامب كرجل أعمال قبل أن يصبح رئيسًا أهمية استمرار الاستثمارات الامريكية على حالها وأن أي تغيير سيؤثر بالسلب على الاقتصاد الأمريكي، هكذا رفع شعاره، بل صرح بأنه سيعمل على تشجيع الصناعات القائمة على الفحم والنفط في الولايات المتحدة!يرى البعض أن الموقف ليس له علاقة بفكرة التأثير على الاستثمارات الأمريكية بقدر ما هو أيديولوجي، يبدأ ترامب رحلته (المدعاة) للحفاظ على الولايات المتحدة كقطب واحد في هذا العالم.


2. الانسحاب من الاتفاق النووي

في مايو/ آيار 2018 تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، تتعهد بإعادة فرض العقوبات على إيران – لتشمل القطاع النفطي والمصرفي – مرة أخرى.ضمن إستراتيجية أمريكية عامة بشأن إيران لتسببها في «نشر الإرهاب» على حد قول رئيسها، نتج عن ذلك عدة أزمات أهمها؛ إظهار الاتحاد الأوروبي بمظهر الضعيف، إذ لم يرجع إلى الاتحاد الأوروبي لمناقشة القرار وتوابعه فلا يمكن للأوروبيين التراجع عن الاتفاق باتباع أثر الولايات المتحدة لما فيه من تبعية مهينة، ما يجبر أوروبا على تحدي قرار ترامب واستكمال الاتفاق لهذا السبب. وأيضًا لحجم الاستثمارات التي عقدها الأوروبيون في إيران بعد الاتفاق، فيعلق وزير الاقتصاد الفرنسي قائلًا: «هل سنسمح للولايات المتحدة بأن تكون الشرطي الاقتصادي للعالم؟ الإجابة لا»، وذلك مع تأكيد الخبراء على انهيار الاتفاق بعد خروج الولايات المتحدة لتحكمها في النظام المالي العالمي ولأن القوى الأوروبية لا تستطيع حماية مصالحها في إيران. فعلى سبيل المثال قامت شركة توتال الفرنسية بالإعلان عن انتهاء اتفاقها على مشروع الغاز مع إيران إلا إذا حصلت على استثناء من الولايات المتحدة مما يدعم فكرة الموقف الأوروبي الضعيف.ولذلك يحاول الأوروبيون احتواء الأزمة وطمأنة إيران، فيبتكرون حلًا لحماية إيران من العقوبات المفروضة عليها وهو مقايضة المنتجات الإيرانية بالمنتجات الأوروبية، وهو السيناريو الأخطر الذي لا يريد أحد حدوثه إذ لوحت الولايات المتحدة أن العقوبات ستطال أي بلد تتجاوز العقوبات التي فرضتها على طهران، وهو ما يؤدي إلى تخوف الدول الأوروبية من استضافة ذلك الحل حتى الآن.


3. الانسحاب من اتفاقية روسيا

وبجملة الانسحابات المتتالية، وبعد صمود المعاهدة لـ 31 عامًا، قامت الولايات المتحدة بالانسحاب من الاتفاق الأحادي مع روسيا للحد من الأسلحة النووية والذي من المؤكد أنه يضع أوروبا في مأزق. ففي السنوات الأخيرة بمقتضى المعاهدة انخفض عدد الصواريخ النووية الموجودة في أوروبا التي يصل مداها القصير والمتوسط إلى الدول الأوروبية وليست لأمريكا من حوالي 60 ألف صاروخ إلى 15 ألف، والانسحاب الأمريكي من المعاهدة سيزيد من عددها ثانيةً رغم تعهد الأخيرة بعدم إقدامها على هذا التصرف. ومع قراءة المشهد بعقلية رجال المال مثل ترامب، فتلك الخطوة سوف تزيد من المبيعات الأمريكية للسلاح إلى الدول الأوروبية وهو أكثر ما يهتم به في علاقته بحلفائه الأوروبيين.


4. الهجوم على الناتو وتكوين جيش أوروبي

يلقي ترامب عدة مرات بكلمات عن ثقل عبء الناتو، بل ويضغط على دول حلف الشمال الأطلسي لرفع ميزانياتها الدفاعية، ومع إدراك عدم إمكانية التعويل على الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية لمواجهة تهديدات عدوتها الأولى روسيا تفقد أوروبا وفي مقدمتها فرنسا وألمانيا الثقة في الإدارة الأمريكية شيئًا فشيئًا، فيدلي الرئيس الفرنسي ماكرون بضرورة وجود جيش أوروبي يحمي أوروبا من الصين وروسيا وأيضًا الولايات المتحدة.يتهم ترامب حلف الشمال الأطلسي بمجانية الحماية الأمريكية له، وذلك في إطار زيادة مساحة سياسة المقابل التي يتبناها الرئيس الأمريكي بعد نجاحها مع دول الخليج العربي وفي مقدمتها السعودية. تظهر النية الأوروبية حتى قبل تفوه ماكرون بهذا التصريح، فقد دعت قبله وزيرة الدفاع الفرنسية إلى إنشاء قوة عسكرية أوروبية بعيدة عن حلف شمال الأطلسي. لكن على الجانب الآخر تبرز الأزمة في الدول التي لا يمكنها الوفاء بالتزاماتها الاقتصادية والمالية المترتبة على إنشاء جيش أوروبي موحد، وأيضًا معارضة الدول التي لها حدود مشتركة مع روسيا كبولندا وليتوانيا؛ خوفًا من عجز تلك القوة العسكرية عن الدفاع عنها في حال نشوب نزاع مع الجانب الروسي.


5. علاقة أوروبا وأمريكا ببريطانيا

لطالما كانت العلاقات البريطانية الأمريكية مميزة بعض الشيء عن غيرها من الدول في الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من الحدة التي شابت العلاقة مؤخرًا إلا أن تيريزا ماي كانت من أوائل من دخلوا البيت الابيض بعد فوز الرئيس ترامب، وتتجلى هنا محاولة ترامبية لهدم الاتحاد الأوروبي عندما دعم الرجل الخروج من الاتحاد الأوروبي وتوجيه البريطانيين إلى أسواق أخرى غير الأوروبية، ومع إعادة صياغة علاقة بريطانيا بأوروبا تحاول بريطانيا حتى الآن الوقوف على مسافة واحدة من الجميع.كما أن الرئيس الأمريكي وقف بجانب رئيسة الوزراء البريطانية بشأن خطتها للخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، بل وأكد أنه بمجرد انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بشكل كامل سوف يفتح مجالًا واسعًا للتجارة مع بريطانيا.


مع انتهاء الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي باتت العلاقات الأمريكية الأوروبية تتسم بالمنافسة أكثر منه التحالف – سياسيًا واقتصاديًا -. ربما يظهر ذلك أكثر في إدارة الجمهوريين حين بدأت معركة الحداثة الأوروبية والرجعية اليمينية الأمريكية وبالتالي صعوبة تلاقي الطرق، وهو الشيء الحتمي في ذلك الحين. ويعتبر الخبراء أن فترة ترامب هي الأسوأ أيضًا من بين تعامل الجمهوريين مع أوروبا. على سبيل المثال: الضغط اليهودي بدفع مليارات الدولارات لدعم الحزب الجمهوري وفي المقابل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بخلاف سعي اليمين الدائم لإرضاء الطرف الإسرائيلي، يشعر ترامب بإمكانية أن يصبح للاتحاد الأوروبي دور فعال في إدارة الأزمات الدولية معتبرًا ذلك توطئة لشبح التعددية، وتهديد مكانة الولايات المتحدة كقطب واحد ليس له منافس في العالم، حتى مع قيامه بدعم روسيا في بداية الأمر ولكن مع شخص الرئيس بوتين – الذي يريد أن يعيد روسيا إلى مكانها الطبيعي كقوة عظمى – لم يبدُ أن لذلك بد.