يقول الأديب الروسي ماكسيم جوركي:

الورقة التي لم تسقط في فصل الخريف، خائنة في عيون أخواتها، وفية في عين الشجرة، ومتمردة في عيون الفصول، فالكل يرى الحقيقة من زاويته.

ولكن ماذا لو تم التلاعب بتلك الحقيقة لإجبارك على تبنيها؟

إن الحقيقة المُتلاعَب بها ما هي إلا طُعم زائف يُستخدم لصيد هدف سهل سطحي البصر والبصيرة، ولا تحزن إن كنت يوم ذلك الهدف، فكلنا نقع لمختلف الطعوم، ولكن إن لم تزدك كل صيدة حزاقة، وإن لم توقظ بداخلك غريزة النجاة شيئاً فشيئاً، فلن تحيا كثيراً، وسرعان ما ستصبح واحداً من الطعوم، تُستخدم وتُترك كما يشاء الصيّاد، مسلوب الإرادة والقرار.

قد تكون مقدمتي مبهمة بعض الشيء، وغير مناسبة نهائياً لتكون مقدمة مناقشة فيلم سينمائي، ولكن هنا نقطة الفصل، فأنا لست هنا لمراجعة الفيلم أو نقده، للنقد أهل هم أجدر به. أنا هنا لضرب مثال عمّا سبق وذكرته في الفقرتين السابقتين، ولا أجد خير مثال من واحد من أفلامي المفضلة، ومن وجهة نظري الخاصة من أجمل أفلام الحب، وإن كان فيلمنا هنا يختلف بعض الشيء عن أقرانه من الأفلام الرومانسية، فهو ليس قصة حب، إنما هو قصة عن الحب.

يدور فيلم 500 Days of Summer حول خمسمائة يوم يعيشها بطل الفيلم Tom الذي قدم شخصيته Joseph Gordon-Levitt، مع Summer، التي لعبتها Zooey Deschanel. يتناول الفيلم قصتهما سوياً منذ أول لقاء إلى ما بعد انفصالهما.

وللفيلم خلفية حقيقية لا بد من ذكرها، لأنها ستُوضِّح لنا كثيراً من الأشياء. حيث وقعت قصة مشابهة مع مؤلف الفيلم، فحين تركته حبيبته كما تركت البطلة البطل في الفيلم، أقسم بأن يكتب فيلماً يجعل كل من يقرأه يكره بطلته، التي هي في فيلمنا Summer، وفي الواقع هي حبيبة المؤلف السابقة، ويُوجِّه لها المؤلف رسالة واضحة صريحة في الفيلم ذاكراً اسمها الحقيقي وواصفاً إياها بـ«العاهرة».

ولهذا كان الفيلم أداة لتحريف سرد الواقع وتطويعه لما يريد المؤلف، وهو التعاطف الشديد مع Tom والنظر إليه كضحية لتلاعب واستغلال Summer، لكن مع تأمل القصة وحين تعيد مشاهدة الفيلم لأكثر من مرة ستسقط أمامك خدعة التلاعب بالسرد التي لعبها المؤلف عليك، وحين تعيد ترتيب الأوراق ستدرك أن الذنب لا يقع على Summer وحدها بل إنه ذنب مشترك يحمل Tom النصيب الأكبر فيه، وستدرك أيضاً أن Tom كان يشكل الواقع على مزاجه الخاص، ويعيش في خيال توقعاته حتى يصطدم بالواقع، فيبكي مُحمِّلاً العالم ذنب بكائه.

ليس هذا فحسب، بل في أول الخمسمائة يوم التي عاشها Tom مع Summer، يُوضِّح لها كيف يرى الحب، وبأنه إحساس يُقذف في داخل الإنسان، لا يعلم الإنسان له تفسير ولا أصل ولا سبب، ولا يملك الإنسان أي سيطرة عليه.

وحين تصارحه بعد انتهاء علاقتهما، وارتباطها برجل آخر، بأنها أحست مع الراجل الآخر ما لم تحسه مسبقاً مع Tom، وأنها أحست معه ما كان يصفه Tom له في بداية تعارفهما، يثور مُستنكراً عليها ما تقول، غير مقتنعاً بكلامها الذي هو صاحبه من البداية، وضف لهذا بعض الأخطاء الأخرى التي ارتكبها وحمِّل ذنبها إمّا على Summer أو على الحياة أو على الظروف.

كمراهق متأخر انتهت رحلته في قطار المراهقة ولكنه لم يغادر المحطة يوماً، فظل لا يعلم حقيقة ما يريد ولا يريد الاعتراف بأخطائه أو حتى رؤيتها، يجول Tom عبثاً في الفيلم يسرد قصته.

والآن يمكننا استعراض بعض النقاط عن كيفية نجاح المخرج في التلاعب بسرد القصة:

1. الراوي

يتناول Tom رواية القصة كلها من وجهة نظره ومن تجربته الخاصة، مع إضافة لصوت راو يقوم بتوضيح بعض النقاط كتعريف للشخصيات، ولكن صلب الأحداث تُروى من خلال Tom، وفى أحد المشاهد يعيد Tom قراءة المشهد مرتين، الأولى بوجهة نظره والأخرى بنظرة حيادية أكثر، فيدرك بعض الأمور التي كان غافل عنها، وهذا يؤكد فرضية أن الفيلم كله لا يُروى منصفاً للطرفين، بل للفيلم «أجندته» الخاصة.

2. تسلسل الأحداث

من المفهوم أن الفيلم يدور حول 500 يوم قضاها Tom مع Summer؛ بدءاً من مرحلة التعارف حتى ما بعد الانفصال، ولو كان المخرج عرض لنا الفيلم بدءاً من أول يوم ثم أكمل بترتيب سليم للزمن لاستطعنا تكوين رؤية منطقية عن الأحداث، لكن بدأ الفيلم بالأيام الأخيرة، والعودة لليوم الأول، ثم التنقل بين الأيام بطريقة قد تبدو عشوائية، إلا أن الهدف منها هو التلاعب بسير الأحداث لتوصيل رسالة معينة.

3. تصوير أحزان Tom فقط

يعرض لنا الفيلم حال Tom فقط بعد الانفصال وحجم ما عانى من الأحزان والآلام، ولم يلتفت نهائياً لحال Summer، بل لم يعرضه من الأساس، ومن المؤكد أن أصاب Summer ولو القليل من الحزن، فحتى لو لم تحبه، ومهما كان مستوى جحود الإنسان، من المؤكد أنه يهتز ولو لفترة قصيرة بعد أي انفصال.

4. التركيز على تلاعب Summer

لا يمكن أن ننكر أن شخصية Summer كانت تمارس بعض التلاعب وحتى وإن كانت دوافعها حسنة، فكما يُقال «الطريق إلى الجحيم مرصوف بالنوايا الحسنة»، ولنعترّف أننا لسنا ملائكة ولكل منّا زلّاته، ولكن لنطرح السؤال على Tom، هل هو أبله ليسقط مرة تلو الأخرى في شباكها؟

وإن كان من الممكن أن نلتمس له عذر أنه كان واقعاً في الحب، فحين نقع في الحب يصبح الأبله بجانبنا فائق النباهة، وحين نحب قلما ما نُحكِّم العقل أو نسمع لصرخاته المستغيثة، بل نسير أكفاء البصر والبصيرة، لا يقودنا سوى الحب، ولا نحيا إلا به.

5. النهاية السعيدة لـTom

من أبجديات السينما أن ينتصر ويكافأ البطل في نهاية الفيلم، فيخرج من الفيلم منتصراً بعدما واجه من مظالم أو صعوبات أو تحديات، وهنا أوجب الكاتب أن يكافئ بطلنا، فيُختتم الفيلم بهدية جميلة لـTom، على شكل فتاة جميلة تُسمى Autumn، وتقرر أن تهمل موعدها الغرامي، وتترك حبيبها، من أجله. أما عن Tom فيخبرنا الراوي أنه لم يتغير كثيراً، بل على حاله من البداية، في توجيه خفي أنه على مدار الخمسمائة يوم كان دائماً على صواب.

تتناقض مشاعري تجاه المؤلف، فرغم غضبي منه لنجاحه بإسقاطي في شباكه، فإن مشاعر الإعجاب به تنتصر في النهاية، استعمل كل أدواته بامتياز، ونجح في إعطائنا درساً في فن السرد، وعلّمنا أن أوجه الحقيقة عديدة ويمكن تزييفها، وإن كان هذا يحدث حولنا كثيراً، فهكذا تتحقق المبيعات، وهكذا تُوجَّه الشعوب، وهكذا يُشكل التاريخ، مُمجداً أشخاصاً ومُحقِّراً غيرهم، وهكذا تتعاطف مع Tom على حساب Summer.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.