عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، بدأ العالم يستشعر انقسام القوى العالمية المهيمنة إلى قطبين تمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية التي تحولت إلى مظلة تمثل التوجه الغربي الرأسمالي المنفتح على الحريات؛ وعلى الجانب الآخر من العالم كان الاتحاد السوفيتي بعقيدة فكرية يسارية شيوعية تحمل أمل «المساواة والتقدمية» للدول المستضعفة التي عانت آثار الاستعمار الأبيض سابقاً، وفي ظل هذا الاستقطاب العالمي لم يكن هناك بديل عن منافسة بطيئة، شرسة، غير علنية شهدت حروباً باردة على أصعدة عسكرية واستخباراتية واقتصادية، والأهم من ذلك : صعيد التكنولوجيا.

كان التفوق التكنولوجي الألماني النازي– بخاصة على الصعيد العسكري والصناعي– في الحرب العالمية الثانية درساً لا يُنسى لقوى العالم، فأدركت كل من أمريكا والاتحاد السوفيتي أن السباق في مضمار التفوق التكنولوجي هو ما سيكون الضامن الأقوى للتفوق العالمي والهيمنة المنشودة؛ فبدأت أولى المنافسات بين القوتين العظميين آنذاك في ما يعرف باسم سباق ريادة الفضاء الذي افتتحه الاتحاد السوفيتي بالخطوة المدوية بإطلاق أول الأقمار الصناعية «سبوتنيك»  أواخر عام 1957 خارج المجال الجوى الأرضي؛ وكانت خطوة أشعلت روح تنافسية غير مسبوقة بداخل الأمريكان للقفز إلى الخطوة التالية؛ إلى أن جاءت الخطوة الأمريكية التي أكدت التفوق الأمريكي بعد 12 عاماً وتحديداً عام 1969 عندما وضع الأمريكان أول بشري على سطح القمر.

قفزة أمريكية أخرى: العالم الرقمي

بعد هذه الخطوة الأخيرة هدأ الصراع قليلاً– أو هكذا بدا للعالم– وتحولت المنافسة إلى مجالات أوسع وأشمل في عوالم التقنية، كانت أبرز هذه الجولات التي ضمنت التفوق الأمريكي المؤَكد بتقديم أمريكا للعالم إحدى أبرز قفزات التقنية والتواصل إلى اليوم: الإنترنت، الذي بدأت نواته الأولى بمثابة شبكة مغلقة للتواصل العسكري عُرفت باسم ARPANET بين أفرع الجيش الأمريكي.

في المقابل، تضاءلت مبادرات الابتكار السوفيتية خصوصاً مع اضمحلال النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي لدول الاتحاد وتفككها في مطلع التسعينيات؛ ومُذّاك الوقت، حلّت قوى أخرى محل الاتحاد السوفيتي في مجال التنافس على الهيمنة التكنولوجية في العالم، وسطعت نجوم آسيا في سماء المنافسات بشكل كبير أثار قلق العالم الغربي مع كل محطة جديدة؛ إلى أن تصدرت دول مثل الصين واليابان وكوريا وتايوان عوالم التكنولوجيا، وبدأت حقبة جديدة من صراع قد يراه البعض مائلاً بكفتّهِ نحو الشرق اليوم، ومن بين أبرز تلك الصراعات وأحدث جولاتها حروب شبكات الجيل الخامس، التي تعتبرها القوى العالمية اليوم المربع التالي في رقعة الصراع العالمي.

الجيل الخامس: التنافس «التريليوني»

قد يبدو منطقياً أن يتساءل البعض اليوم: لماذا تُعد التكنولوجيا محوراً مهماً في الهيمنة العالمية بما أن أغلب الصراعات بين الدول تكون عادة بين ساحات الحروب المباشرة أو ساحات أسواق المال كمحور للتنافس الاقتصادي أو على أصعدة أخرى سياسية وحتى أيديولوجية؟

تتلخص الإجابة في التفسير المباشر؛ أن التكنولوجيا ما هي إلا– بوصف مختلف– سلعة من السلع التي تتقاطع مع عالمي السياسة والاقتصاد؛ فلو افترضنا مثلاً أن تكنولوجيا التواصل الرقمي الأشمل مثل الإنترنت قد تحولت اليوم إلى سلعة تباع وتشترى لها مزودو خدمات، ليس هذا فقط ولكن طبيعة عمل هذه السلعة نفسها تجعلها سلعة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها، فأصبحت عالماً افتراضياً كاملاً يوجد الناس عليه طواعية إما للتواصل أو لممارسة أي نشاط آخر سواء ترفيهياً أو تجارياً أو حتى سياسياً وحقوقياً؛ كل هذا جعل الإنترنت سلعة تكنولوجية أساسية يقوم عليها اقتصاد وسياسة وتجارة المؤسسات وحتى الدول.

بالطبع الإنترنت مثال لا ولم يتكرر في أهميته وتأثيره، ولكن إذا نظرنا إلى أمثلة أخرى من التقنيات سنجدها على الأقل تحتوي في مضمونها على جانب لوجيستي واستراتيجي مهم؛ وهو ما يجذبنا نحو الصراع الحالي القائم بين أمريكا والصين وأوروبا للهيمنة على تزويد خدمات شبكات الجيل الخامس للهواتف الذكية، الذي يتلخص في دخول الصين كلاعب رئيس في إنتاج أبراج ومحطات شبكات البث– البنية التحتية التشغيلية– لتقنية 5G التي تضمن لمستخدمي الهواتف الذكية سرعات فائقة في إرسال واستقبال البيانات، بخاصة بواسطة أكبر شركتين صينيتين في هذا المجال وهم «هواوي» و «زي تي إي». أما بالنسبة للمنافسين فيبرز اسم مثل «سامسونج» من كوريا الجنوبية،  و«إريكسون» السويدية و«نوكيا» الفنلندية و«كوالكوم» مصنعة المعالجات الأمريكية وغيرهم، وهي الأسماء التي تبرز على ساحات عوالم التقنية بجوار أسماء الدول التي تنتمي إليها هذه الشركات كمصدر رئيس للتنافس في هذا المجال.

ولكن يبقى السؤال الأهم: لماذا كل هذه التنافسية  للوصول إلى الهيمنة على هذه التقنية والرغبة في الوصول إلى الريادة في تصنيعها وتصديرها وتطويرها؟

الإجابة تتلخص في مجموعة من المعلومات الحيوية عن هذه التقنية، أبرزها هو تفوق هذه الشبكات على سابقتها من الأجيال الثالث والرابع في ما يلي.

 السرعة والتطور: الاستحواذ على المستقبل

تتفق أغلب منصاب التكنولوجيا على أن شبكات الجيل الخامس للمحمول وحَمل البيانات تصل سرعتها إلى 100 ضعف سابقتها من شبكات الجيل الرابع، وهو ما يُعد قفزة كبرى في عوالم التواصل ونقل البيانات بسرعة تصل إلى 20 جيجابت/ثانية؛ بحسبة أكثر تبسيطاً يمكن لمستخدمي شبكات الجيل الخامس تحميل فيلم مدته ساعتان في 10 ثوان فقط. والسبب في ذلك تقنياً هو الاعتماد على الموجات الهوائية عالية التردد ذات القدرة المتفوقة Super High Frequency Airwaves التي يمكنها نقل أي بيانات-رقميات ذات طبيعة بنظام العد الثنائي (Binary System) الذي ترتكز عليه أغلب تقنيات الحوسبة والعالم الرقمي- بسرعة فائقة غير مسبوقة، وبهذا التعريف تتحول تقنيات الجيل الخامس إلى السلعة الأكثر تطوراً والأكثر رغبة في حيازتها بواسطة المستخدمين حول العالم.

القيمة السوقية: تريليونات في الخزائن

الجانب الاقتصادي للاستحواذ أو الهيمنة على شبكات الجيل الخامس واحد من أبرز الأسباب التي تجعل الغرب والشرق أطرافاً متصارعة، فبحسب عديد من التقارير الاقتصادية خلال السنوات القليلة الماضية؛ فإن «بيزنس» شبكات الجيل الخامس من المتوقع له الوصول إلى قيمة سوقية تتراوح بين 7 و 13.2 تريليون دولار بحلول عام 2035، بجوار المساهمة في النمو الاقتصادي العالمي بنسبة غير مسبوقة تصل إلى 10.8%، وتوفير عمالة تصل إلى 22 مليون وظيفة تقريباً بحسب ما أوردت دراسة تقنية لشركة تصنيع المعالجات والرقائق الأمريكية «كوالكوم».

هذه الأرقام التقريبية المتوقعة تجعل الهيمنة على هذه التكنولوجيا واحداً من أبرز الأهداف الاستراتيجية الاقتصادية للدول الكبرى، ولهذا يشهد العالم عديداً من المعارك الخفية بين أقطاب التكنولوجيا لنيل قطعة من هذه الكعكة الدسمة.

مخاوف مشروعة

في تقرير رسمي– مؤرشف– لموقع وزارة الخارجية الامريكية صدر عام 2017، جاء من بين الآثار السلبية المقلقة لوجود بنية تحتية صينية– إما من قبل «هواوي» أو «زي تي إي»– لشبكات الجيل الخامس في أمريكا بوصفها تقنية مستقبلية حيوية هو إمكانية إطلاع تلك الشركات على بيانات المستخدمين الأمريكيين، بخاصة وأن تلك الشركات الصينية غير مستقلة بل وتتبع الحكومة الصينية بشكل مباشر وهو ما يجعل الحكومة الصينية متمثلة في الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في الصورة مباشرة بإمكانية الولوج إلى أي بيانات تحملها المحطات والهوائيات الصينية التابعة لـ«هواوي» أو «زي تي إي».

تلك المخاوف استغلها الرئيس الأمريكي الجمهوري السابق دونالد ترامب لحشد مقاطعة صارمة لوجود مزودي الخدمات الصينيين في أوروبا وأمريكا، وهو الأمر الذي أشادت به عديد من التحليلات السياسية برغم غضب الغرب واليسار الديمقراطي الداخلي في أمريكا من أغلب سياسات ترامب الخارجية والداخلية أثناء فترة حكمه، وأكملت إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن النهج ذاته باستمرار الضغوط على الدول الحليفة لها بالامتناع عن التعامل مع الطرف الصيني في تكنولوجيا الجيل الخامس.

الدخان الذي يتسرب من منخري التنين الصيني

منذ بداية التسعينيات تقريباً والعالم يشهد «طفرة» صناعية وتقنية تقوم بها الصين، هذه الطفرة جعلت الغرب المعادي للصين ينتبه مؤخراً وخلال العقدين السابقين إلى الانتشار والهيمنة الصامتين للصين، ولكن الأمر بدأ يتحول إلى قلق غربي متصاعد كمن يراقب تنيناً نائماً تزداد كثافة الدخان الخارج من منخريه استعداداً للنهوض.

وهناك بالفعل عديد من التقارير الراصدة للتقدم الصيني تخبّر بأنه ورغم الضغوط الأمريكية والأوروبية لدفع الصين خارج المنافسة في مجال شبكات الجيل الخامس؛ فإن الصين لا تزال تتحرك بخطاً ثابتة نحو الهيمنة، وبخاصة في أفريقيا التي تمتلك «هواوي» الصينية قرابة 70% من بينتها التحتية لشبكات الجيل الرابع السابقة، وتتقدم بثبات نحو تزويد خدمات 5G في عديد من الدول الأفريقية– أبرزها جنوب أفريقيا– التي قررت التعاون مع الصين بدلاً عن المزودين الغربيين مثل «إريكسون» و«نوكيا».

وبحسب تقرير أعده مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (مؤسسة مستقلة غير حكومية) نُشر في مارس 2021؛ فإن كفة الهيمنة في شبكات الجيل الخامس ترجح بالفعل كفة الصينيين في أفريقيا، بينما نجحت إلى حد ما جهود الغرب وأمريكا في تقليل هيمنة الصين في تزويد الخدمة في أوروبا، ولكن أحدث التقارير اليوم تؤكد الزحف البطيء الواضح للصين– بخاصة مع أسعار شركاتها المنخفضة مقارنة بأقرانها الأوروبيين- تجاه الدول الراغبة في إتاحة هذه الخدمات قريباً بخاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، وهي المعركة التي لم تتضح بعد نتائجها نظراً لحداثة هذه الخدمة وانتشارها المحدود عالمياً اليوم؛ وإن كان الأمر مسألة وقت فقط، وسوف تتضح خرائط الهيمنة قريباً حالما تُتاح الخدمة بشكل موسع ومنتشر حول العالم في ظل سعي غربي للإطاحة بمنافسه الأشرس، في مقابل محاولات صينية بطيئة ولكنها تبدو واثقة من الاقتراب من الهيمنة.