تقترض الدول والحكومات المليارات الكثيرة لخطط طموحة، وترى الدول أنها سوف تقدر على رد هذه القروض وفوائدها بالإضافة إلى تحقيق نمو اقتصادي. تدور الأسئلة كثيرًا حول الدول التي تقترض، وكيف ستتصرف بالأموال، لكن تُطرح الأسئلة بنسبة أقل حول الجهات الدائنة نفسها، ما هي؟ وكيف تمتلك هذا الفائض النقدي لدرجة تقديم قرض لدولة كاملة.

لسبب ما وجد العالم أن عام 2020 مناسب لإجراء معظم إحصائياته. من تلك الإحصائيات كانت نسبة الديون العالمية. في ذلك العالم كانت دول العالم قد اقترضت ما يقارب 22 تريليون دولار. الملفت أن هذا الرقم الضخم قد قدمته 8 جهات فقط. وأنه قد تضاعف عن الإحصائية السابقة عام 2010، بينما كان ينمو ببطء في العقود السابقة.

يقع البنك الدولي على رأس قائمة الجهات التي يقصدها راغبو القروض، ثم المؤسسة الدولية للتنمية، وثالثًا البنوك التجارية، أما المركز الرابع فيوجد فيه الدائنون الرسميون، ثم دائنو القطاع الخاص، ثم صندوق النقد الدولي في المرتبة السادسة، وبعده تأتي مؤسسة التمويل الدولية، وأخيرًا يوجد دائنو السندات. لكن المفاجئ أن هذا هو ترتيب طلب الدول، لكنه لا يعكس الترتيب الحقيقي للدائنين من حيث الأرقام التي منحوها للدول.

تعدد الدائنين ساهم في ارتفاع نسبة الدين العالمي بشكل كبير. ففي عام 2010 لم تكون الديون العالمية تتجاوز حاجز الـ 10 تريليونات دولار. وفي عام 2006 كان الدين العالمي 6 تريليونات دولار فقط. أما في العقود السابقة كعام 1970 فكانت تُقدر بالمليارات فحسب، فكانت 195 مليار دولار، ثم وصلت إلى حاجز التريليون عام 1980.

العالم مدين لـ 8 جهات

أما من حيث الجهات التي تدين العالم بأكبر نسبة فهم الدائنون الرسميون. وهي المجموعة التي تكوَّنت في باريس من 19 دولة من أكبر اقتصادات العالم. وأصبحت 20 دولة رسميًّا عام 2014 بعد أن قبلت الدول الأعضاء انضمام إسرائيل لها. هؤلاء الدائنون قد منحوا قرابة 35.5% من إجمالي الدين العالمي على مدى الستين عامًا الماضية. والسر في ذلك أن نظامهم القانوني أشد مرونة من الجهات الأخرى. خصوصًا أنهم لا يشترطون تغييرات في أنظمة الدول مثلما يفعل صندوق النقد الدولي، يطلبون ضمانات خاصة بهم، ويضعون شروطًا ترضخ لها الحكومات لكنها تتعلق بمواعيد السداد ونسبة الفائدة ومصادر جني الأموال.

يأتي بعدهم دائنو القطاع الخاص بنسبة 32%. تُعرِّف الأمم المتحدة كلمة دائني قطاع خاص بأنهم الدائنون الذين لا يندرجون تحت مسمى الحكومات ولا القطاع العام. وتضم قائمة القطاع الخاص القادر على تقديم القروض للدول بنوك القطاع الخاص، رجال الصناعة والتصدير، وأصحاب السندات من القطاع الخاص، والمؤسسات المالية الخاصة.

أما في المرتبة الثالثة فيوجد البنوك التجارية، بنسبة تقارب 17%. يأتي بعدها المؤسسة الدولية للتنمية، وأصحاب السندات. ثم مؤسسة التمويل الدولية.

نلاحظ مما سبق أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم يتواجدا في قمة أو وسط القائمة، بل في ذيلها تمامًا. فرغم أن الحديث دائمًا يدور حول الاقتراض من صندق النقد، وشروط البنك الدولي، والبعثات المتبادلة بين الدول وصندوق النقد أو البنك الدولي، لكن المفاجأة أنهما لم يمنحا الكثير من الأرقام للدول. فقد كانت أقصى نسبة شارك بها صندوق النقد الدولي هي 2.6% من إجمالي الدين العالمي. أما البنك الدولي فقد ساهم بنسبة تقارب الـ 3% فحسب.

بالطبع لم تكن هذه النسب هي الموجودة دائمًا، فقد جرت عليها تغييرات عديدة. فالترتيب على قائمة المنح يختلف بشكل سنوي. لكنها اختلافات طفيفة بين مانح وآخر، وما يتبع ذلك من تغيير ترتيبه في القائمة، لكن تظل الجهات الدائنة هي نفسها.

لا قروض مجانية

جدير بالذكر أن الحديث عن مرونة جهة وصرامة أخرى، ما يؤدي إلى ميل الدول لجهة وعزوفها عن أخرى، لا يعني أن هناك جهة تقدم قروضًا مجانية. خصوصًا بعد ما عُرف بأزمة المديونية العالمية عام 1982، حيث قررت عدد من دول أمريكا اللاتينية عدم الوفاء بالتزاماتها المالية، ونفي أنها اقترضت من الأساس. وبالطبع كان ذلك دافعًا لمزيد من الدول نحو إنكار الديون، وإعلان التمرد والتوقف عن السداد.

فباتت تضاف شروط جديدة لضمان السداد، كأن تكون تلك القروض موجهة لمشاريع التنمية والعمران، كي تُدر دخلًا تسدد منه الدول أقساطها. وتركز الدول الدائنة على طلب أن تكون صادرات الدولة المدينة موجهة إليها بشكل أساسي. أو تلزمها بسياسات اقتصادية معينة، كما يحدث في حالة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي.

 أما البنوك التجارية فتركز بشكل أكبر على آجال القرض ونسبة الفائدة وقيمة الأقساط بغض النظر عن المجالات التي سوف يُستخدم فيها القرض. وكل ما تشترطه هو أن طول مدة السداد يعني زيادة نسبة الفائدة. وأيًّا كانت الجهة المانحة فإنه عند تعثر الدولة في السداد، أو طلبها لإعادة جدولة الأقساط، فإن الشروط تختلف تمامًا، وتصبح أشد قسوة، فقد أصبحت الدولة المدينة في أشد لحظاتها ضعفًا، ولا تفوِّت البنوك أو المانحون هذه الفرصة لفرض شروطهم.

خصوصًا أن الجهات المانحة تتبع في النهاية دولًا محددة، وتكون مجرد واجهة تفرض من ورائها الدول رغباتها. فمثلًا تعتبر اليابان أكبر مقرض عالمي، وتحتل هذا المركز لأعوام متتالية دون أن ينازعها أحد. ثم تليها ألمانيا في المرتبة الثانية. والمفاجئ أن الصين ذات الصيت الواسع في إقراض الدول الأفريقية تقع في المرتبة الثالثة عالميًّا من حيث القروض الخارجية.

الولايات المتحدة أكبر دولة مدينة

يربط العديدون بين الاقتراض والضعف، الدولة تقترض إذن هي دولة مأزومة. والواقع يقول عكس ذلك. فالولايات المتحدة الأمريكية، أقوى دولة في عالم اليوم، تعتبر أكبر دولة في العالم من حيث الدين الخارجي المستحق عليها. فرغم أنها صاحبة أقوى اقتصاد في العالم، إلا أنها أكبر دولة مدينة في العالم. فقد اقترب الدين الخارجي للولايات المتحدة من سقف 31 تريليون دولار في أواخر عام 2022.

المفاجئ أن اليابان تعتبر من أكبر الدول الدائنة للولايات المتحدة، وتمتلك اليابان ما قيمته 1.3 تريليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية. تميل الولايات المتحدة للاقتراض من اليابان بسبب العائد المنخفض، واستمرت الولايات المتحدة في الاقتراض حتى باتت اليابان وحدها تمتلك قرابة 17% من ديون الولايات المتحدة الخارجية.

أما الصين فتعتبر في المرتبة الثانية، فتمتلك سندات خزانة أمريكية بقرابة تريليون دولار. وتمتلك قرابة 13% من الدين الأمريكي الخارجي. أما المملكة المتحدة فتقع في المرتبة الثالثة بقيمة 615 مليار دولار من سندات الخزانة. المفاجئ هو الدولة التي تحتل الترتيب الرابع، أيرلندا. فهي تمتلك قرابة 5% من الدين الخارجي الأمريكي. أما خامس أكبر دولة دائنة للولايات المتحدة فهي لوكسمبرج، وتمتلك 4% من الديون الخارجية الأمريكية.

ربما يفسر آخر مركزين أن أيرلندا ولوكسمبرج بمثابة ملاذات ضريبية آمنة، وتختار العديد من الشركات العملاقة إقامة مقارها هناك مثل جوجل، وشركات الأدوية، وشركات التقنية. بالتالي تحقق تلك الشركات فائضًا ماديًّا تستثمره في المصادر منخفضة الخطورة مثل سندات الخزانة الأمريكية.

إذن فإن الديون الخارجية قد تكون أحيانًا نوعًا من المنافع المتبادلة بين الدول، وليست دائمًا أمرًا سيئ السمعة، أو علامة لضعف الدولة.