1. نبدأ من البداية. والبداية هي الإقرار بأن حملة “إدانة الفهم” نجحت نجاحًا منقطع النظير. فأغلب المعادين لـ”الإرهاب” من عيال الدولة، ومحبي الانقلاب، بل ومِن بَين مَن يُطلق عليهم الثوريون، يدينون أي محاولة لتفسير ما جرى باعتبارها تبريرًا للجرم وتبرئةً للمجرمين. التفزيع من التفسير مصدره الحاجة الملحة إلى تفريغ ما يُسمى بـ”الإرهاب” من مضمونه الاجتماعي، ونزعه عن سياقه، وحجب أسبابه ومآلاته – باختصار إخراجه من التاريخ الحي للبشر وتحويله إلى حدث معجز لا سبب له أو نسب. فـ”الحرب على الإرهاب” تَطرح نفسها كحرب مقدسة ضد شر مطلق. وهي تتطلب كشرط لشرعيتها تصوير “الإرهاب” كجنون لاعقلاني، كنزق شرير لا تفسير له، مقطوع الصلة بما قبله وما بعده وما حوله، يهددنا وجوديًا، ومن ثمّ تفترض الحرب ضده وحدتـ”نا” المبرّأة من كل نقد، “فإن شققت الصف، حتى بسؤال، ستكون خائنًا لا مكان له بيننا”.

2. لكن أنسنة “الشر” وإدماجه في التاريخ الحي للبشر لا تبرره، بل تكشف أسبابه، وتنسبه إلى باقي الشرور الإنسانية، وتضمن عدم إحلاله بشرٍ آخر متخفٍ في صورة قداسة لا تزلّ ولا تخطئ. ونقطة البداية هنا، في موضوعنا، هي التساؤل النقدي عن “الإرهاب”، بألف ولام التعريف، كمصطلح ومفهوم تحول إلى قوة معادية غامضة، موجودة هنا وهناك وفي كل مكان، بلا جذر أو سياق، في حين أنه – “الإرهاب” – في أصله أداة وليس قيمة، وسيلة وليس غاية. فما نواجهه في الحقيقة ليس “الإرهاب”، بل بشر لهم قيم وغايات محددة، اختاروا أداةً بعينها لسبب بعينه، اسمها الفعل الإرهابي، أي العنف غير الجماهيري المسلح كالاغتيالات وتفجير المؤسسات والخدمات والأماكن العامة، للوصول إلى أهداف يرون أن العنف وسيلتها الأصلح.

3. إنزال “الإرهاب” من عليائه، والنظر إليه كأداة تُستخدم في سياقات متفاوتة، بل وأحيانًا متناقضة، يغيّر تمامًا من طبيعة المناقشة. فهكذا يمكننا أن نكتشف أنه ربما استُخدم من جانب قوى التمرد في التاريخ الحديث في ثلاث سياقات على حسب وضعية الصراع: فهو إما كان

(1) أداة من أدوات حرب العصابات والحروب الأهلية، وبهذا المعنى فهو تكتيك من ضمن تكتيكات في مواجهة ذات طابع عسكري واضح.

(2) أداة فرعية في نضال جماهيري واسع ضد السلطة وأنصارها، وهنا المواجهة غير عسكرية بل شعبية، لكن بعض القوى المنظمة تستدعى “الإرهاب” لتلبية أغراض تكتيكية أو استراتيجية تراها هي

(3) أداة أساسية في نضال حزبي، أو فردي، غير جماهيري، ضد السلطة، أو قوى الهيمنة، أو ضد أي قوة يُرى أنها معادية لسبب أو لآخر، في ظروف هبوط الحركة الجماهيرية. “الإرهاب” في كل هذه السياقات فعل فردي، ليس بالمعنى الحرفي للكلمة، بل بمعنى أنه ليس نشاطًا جماهيريًا شبه عفوي، بل قرارًا تأخذه جماعة منظمة من البشر، صغُر حجمها أو كبُر.

4. بما أن “الإرهاب” أداة، أي وسيلة وليس غاية، فقد ارتبط تقييمه دائمًا بالهدف منه وطبيعة القوى التي تستخدمه والظرف الذي يُستخدم فيه. فأحيانًا اعتُبر العنف غير الجماهيري المسلح فعلًا مبررًا، بل ربما بطوليًا، من جانب قطاع واسع من الرأي العام الشعبي في الدولة المعنية، وهذا ما رأيناه مثلًا في حالات نضال النارودنيين الروس ضد الاستبداد القيصري في أواخر القرن التاسع عشر، ونضال المؤتمر الوطني الأفريقي ضد سلطة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في ستينات القرن العشرين وما بعدها، ونضال منظمة التحرير الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في ستينات وسبعينات القرن العشرين، وغيرها. وأحيانًا أخرى كان العنف غير الجماهيري المسلح خالقًا للانقسام أو مستدعيًا لرفض شعبي واسع في الدولة المعنية، وهذا ما رأيناه مثلًا في حالات نضال المنظمات اليسارية الأوروبية الإرهابية في سبعينات القرن العشرين، ونضال التنظيمات الإسلامية الجهادية في مصر في تسعينات القرن العشرين. وبين هذا وذاك كان السجال حول “الإرهاب” دائمًا موجودًا، محتدمًا، ومسببًا لانقسامات بين الأصدقاء وتحالفات بين الفرقاء.

5. أغلب إرهاب الحركات الإسلامية الجهادية المعاصرة ينتمي إلى “السياق الثالث” الذي أشرنا إليه قبل قليل، وذلك طبعًا باستثناء استخدام حركتي المقاومة حماس وحزب الله لتكتيكات إرهابية كجزء من نضالهم المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلي. فرغم التدويل المتزايد لحركات الجهاد الإسلامي في صورها التنظيمية المختلفة، ورغم ميل تنظيم “القاعدة”، على خلاف تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلى التركيز نسبيًا على الإمبريالية الأمريكية، إلا أن أغلب وأهم معارك الإسلام الجهادي تدور حاليًا مع وحول سلطات الدول التي تنشط فيها، في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر. لكن الحركات الجهادية فشلت في تأسيس قاعدة شعبية لنفسها في بلدانها أو في مجمل المنطقة العربية والإسلامية، اللهم إلا بمعنى زيادة تأثيرها على جمهور الإسلاميين العريض، مما أدى إلى هجرة أعداد من الذين كانوا منتمين إلى تيارات معتدلة متنوعة إليها. وكما سنشرح لاحقًا، لا يعد هذا الفشل الجماهيري، المقترن بنجاح عسكري ولوجيستي نسبي، مفاجأة في ضوء تطور الأوضاع السياسية والاجتماعية على خلفية هزيمة موجة الثورات العربية. فكل من الفشل والنجاح يجد جذوره في سياق يغذي في الوقت نفسه الغضب من ناحية واليأس من ناحية أخرى.

6. ترجع جذور الإسلام الجهادي المتبني للتكتيكات الإرهابية إلى النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، حين انقسمت الحركة الإسلامية المصرية، ممثلة بالأساس في جماعة الإخوان المسلمين، حول العنف على خلفية ما أطلق عليه الإخوان في أدبياتهم “المحنة الثانية”، وهي حملة المداهمات والتنكيل التي قام بها النظام الناصري في 1965. وكما هو معروف، فإن سبب تصاعد الخلاف الذي أدى إلى انقسام الحركة بشكل نهائي هو فشل استراتيجية الإخوان الانتقائية المتذبذبة القائمة على المزج بين العمل الجماهيري التربوي والتوعوي والخيري، والمراوحة بين مغازلة السلطة والهجوم عليها، مع استخدام العنف الإرهابي بشكل مقيد كأداة من أدوات الصراع. بفضل هذه الاستراتيجية نجح الإخوان في النمو العددي بشكل مذهل، لكنهم في المقابل فشلوا في السيطرة السياسية، بل انتهى بهم الحال إلى تلقي ضربات موجعة واسعة النطاق من السلطة. من هنا طُرح التساؤل حول جدوى الاستراتيجية التي تقوم على “حسن الظن” بالجماهير والسلطة معًا، خاصة وأنه لا الجماهير هبت لنجدة الإخوان في محنتهم، ولا السلطة استمرت في تحالفها معهم. وهكذا تبلورت استراتيجية أخرى، إلى جانب استراتيجيات الإسلام المعتدل، تقوم على الرفض المزدوج للجماهير والسلطة، للدولة والثورة الشعبية؛ استراتيجية انقلابية تسعى إلى تأسيس الحكم الإسلامي بالسيطرة على سلطة الدولة عبر كفاح “عصبة مؤمنة” صغيرة العدد متماسكة البنيان.

7. تبني استراتيجية التمكين عبر صراع الجهاديين ضد الدولة بالوسائل الإرهابية لم يكن مجرد اختيار لوسيلة من ضمن وسائل، بل كان تجسيدًا منطقيًا لمنظور محتقر للجماهير وغير واثق في حركتهم أو صابر عليها. فالتمكين من وجهة نظر الإسلام الجهادي، بمعظم أطيافه، ليس تمكينًا للجماهير، بل تمكين للإسلام، في صورة تمكين للإسلاميين، أي للعصبة المؤمنة، وهذا خيار سلطوي في جوهره يقوم على اعتبار ملايين الخاضعين موضوعًا للإخضاع، مجددًا، لكن هذه المرة باسم ما ترى عصبة المؤمنين أنه حكم الله. وبلا شك، فإن جذور هذه الهندسة الموتورة للعالم تضرب في تربة غضب البرجوازي الصغير، الرجل الصغير على الهامش، المصدوم من الحداثة الرأسمالية، والمرفوض من جانبها، أي من عالم الأعداء، والأغيار الأرضيين غير المبالين، الذي يعيش فيه ويكتوي بناره، من ثمّ، فاحتقار أغلب الناس غير المنتمين لعصبته يتخلل نظرته للعالم، فينعكس في صورة رجعية جامحة ضد كل مختلف، تصل أحيانًا إلى تبرير استهداف الأقباط والسياح وغيرهم.

8. على أن إرهاب الإسلامي الجهادي ليس وليد الغضب فقط، بل كذلك اليأس. فبعدما يأس هذا الإسلامي من أهل الأرض، من الملايين الذين خذلوه بعدما أُلقي مهمشًا في غابة المدينة البائسة، تطلّع إلى السماء، مؤكدًا لنفسه أن الصبر على من يُطلَق عليهم جماهير لن يفيد البتة، بل إن المطلوب هو قفزة كبرى إلى الأمام، أو في الفراغ، قفزة إلى كرسي الحكم، الذي يمكن انطلاقًا منه إعادة صياغة العالم على قد المثال. هنا نكتشف أن الإسلامي الجهادي هو إسلامي معتدل نفد صبره، يعوّض بالسلاح وقوة الدولة فشله، وفشل المعارضة كلها، في قيادة حركة شعبية للتغيير الجذري من أسفل، وبهذا فكأنما هو يقول: “فلتذهبوا جميعًا إلى الجحيم، فإن الله معي، ولا أحتاج منكم شيئًا، فسأسوقكم جميعًا إلى حظيرة حكمي، الحكم باسم الله، بالقوة.” في هذا السياق يظهر السلاح، والفعل الإرهابي، ليس كدليل قوة كما قد يعتقد حامله، بل كعلامة ضعف تتجسد في صورة مقلوبة، فكلما زاد البعد عن الناس، كلما زاد التوسل إلى الوسائل العسكرية والإرهابية كبديل، بحيث لا يكون النصر ممكنًا أبدًا، إلا في صورة انقلابية، أي رجعية بالضرورة في نهاية المطاف، ومهما طال الزمن، ذلك أن فعل الانقلاب يتطلب رافعة غير جماهيرية للتحقق، وهي لن تخرج عن أن تكون جناحًا من أجنحة الدولة الظالمة ذاتها، أو تيارًا من التيارات النافذة في المجتمع، أو قوةً خارجية ذات نفوذ إقليمي أو دولي.

9. تزايد شعبية خيار الإرهاب الرجعي، الذي يمزج بين الوسيلة المتعالية على الناس والهدف غير المكترث بأشواق الناس إلى العدل والحرية، غير مقطوع الصلة بتاتًا بتراجع شعبية خيار الثورة الجماهيرية. اليأس يولّد اليأس. والحلقة الجهنمية تدور حول نفسها. فالإرهاب يمكنّ السلطة من التجييش، وتجييش السلطة يرهب الحركة الجماهيرية، وإرهاب الحركة الجماهيرية يغذي اليأس من الثورة، واليأس من الثورة يغذي خيار الإرهاب الرجعي، وهكذا. المؤسف في هذا السياق أن أغلب المعارضة المسماة بالديمقراطية أو الجذرية ركبت “الحلزونة” عندما وضعت نفسها مكان السلطة وتفهمت نظرة تلك الأخيرة للأمور، فأدانت الفهم، ورفضت إدخال “الإرهاب” في التاريخ، ورفعت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، واهمة أن التحالف مع السلطة، أو السكوت عليها، إلى حين القضاء على الإرهاب، سيفتح الباب لاحقًا، بعد أن ينقشع غبار المعركة، ويهدأ ضجيج أنخاب النصر على “الإرهاب الأسود”، لمعركة أخرى من أجل الديمقراطية والعدل والحرية. هذا وهم كبير. فلن تنكسر الحلقة الجهنمية بتعزيز السلطة وإضعاف الثورة من أجل القضاء على “الإرهاب”، فكلما زاد تغّول السلطة، وكلما تراجعت الثورة، زاد اليأس من التغيير، وهو ما سيؤدي إلى انتعاش الحلول الرجعية البائسة اليائسة، وعلى رأسها ما يطلق عليه “الإرهاب”. الحقيقة أن إحياء الثورة كأمل وبديل، كحقيقة في الشوارع وفي القلوب، هو الذي سيسحب البساط من تحت أقدام الحركات الرجعية بكل أشكالها، سواء استخدمت “الإرهاب” أو لم تستخدمه، فطالما انتعش الأمل في حركة الناس سيتوارى اليأس المتجسد في الاستحكام إلى السلاح لفرض سلطوية هي الآن أضعف من أن تنتصر، لكنها أقوى من أن تنهزم. لكن إحياء الثورة يتطلب ربط محاربة الرجعية، التي تستخدم أداة الإرهاب، بمحاربة الثورة المضادة على مقاعد الحكم. فلمّا يستعيد الناس في الأحياء ومواقع العمل ثقتهم، لمّا تهتف حناجرهم مجددًا مطالبة بـ”العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”، سترجع السلطة إلى وضع الدفاع، وسيُملأ الفراغ بقوة من أسفل، وستتولى تنظيمات جماهيرية وليدة مهمة اقتلاع الرجعية من جذورها.