«طير بلا أجنحة»، عنوان جذاب للغاية، والعنوان في النقد الأدبي هو «عتبة النص»، وهذا يعني أننا عندما نقرأ عنوان هذه المجموعة القصصية، يتحدد على الفور «أفق توقعات القارئ»، بالمعنى الذي حدده هانز جورج جادامر. إننا نتوقع أن نلتقي بقصص تتمتع بحبكة تحقق التطهير الأرسطي من مشاعر الخوف، وأن تثير في نفوسنا مشاعر الشفقة.

وصورة الغلاف هي عتبة أخرى تكثف هذه الدلالة وتهيئ القارئ لحالات الاهتزاز والاستغاثة والسقوط في أرض لا قرار لها، وإن كانت الألوان الزاهية التي جاءت فيها صورة الغلاف تُخفي الألم المرتبط بهذه الحالات، وربما يعود ذلك إلى سعي الراوي إلى التشبث بالأمل في نهاية المجموعة القصصية. فربما يكون الطير بلا أجنحة، وربما يكون السقوط حتميًّا، لكن الوعد باستمرار الحب يبعث على الأمل ويبث في النفس القدرة على التحليق والتشبث بالحياة.

كنت أعلم أن عبد الرحمن أبو ذكري ينتوي كتابة تقديم لهذه المجموعة القصصية، وقد رفضت هذه الفكرة بشدة، ونصحته ألا يفعل ذلك، فهو الكاتب والناشر، وكان يريد أن يكون الناقد أيضًا. ولكنه ذكّرني بشعراء كتبوا مقدمات لدواوينهم، وصارت هذه المقدمات بمثابة مانيفستو لحركة فنية جديدة أو لتأصيل إبداعي جديد. ولمّا رأيت منه إصرارًا على ذلك، طلبت إليه أن يكتب ما يريد، على أن يُلحقه بنهاية الكتاب حتى لا يفرض على القارئ قراءة معينة لهذه المجموعة القصصية. وحسنًا قد فعل.

حاولت أن أجتنب النظر إلى الصفحات الأولى من الكتاب، لأنني أعلم الخلفية الفكرية التي ينتمي إليها عبد الرحمن أبو ذكري، فكنت أتوقع أنه سيفتتح المجموعة القصصية ببعض المقولات التي تحدد موقفه الفكري، أو بآية قرآنية كاشفة، أو بحديث نبوي شريف، وهكذا قلّبت صفحات المجموعة القصصية بسرعة من دون قراءة حتى وصلت إلى الصفحة السابعة عشرة، وهي الصفحة التي تظهر فيها القصة الأولى بعنوان «من جنس العمل».

ونستشف من عنوان هذه القصة طابعها التعليمي، وإن كان ذلك لا يطغى على فنيتها، فهي تنتمي إلى ما يسمى بالقصة القوس، حيث تقع ذروتها في منتصف أحداثها. وبطل القصة هو أول طير بلا أجنحة في هذه المجموعة، إنه شاب مُرفّه «رهين محبسه الاختياري» بعدما فارق أبوه الحياة، ونعلم من الراوي العليم أن الأب أفسد أبناءه، «لقد كان يغدق عليهم المال بجنون، لكنه أبدًا لم يعلمهم شيئًا ذا بال… لقد أبى عليه طغيانه أن يعلمهم فضيلة الاعتماد على النفس».

ويواصل الراوي العليم الكشف عن مساوئ الأب، وحالة الكتمان التي يعيشها الشاب الذي علم أن أباه «كان يخادن النساء». وتنتهي القصة بثورة الشاب على حالة السقوط التي يعيشها، حيث «هبّ واقفًا في حسم، وانتزع صورة أبيه من على الجدار، ليطأها بقدميه»، ثم يضع نهاية لألمه وتحسره ويصيح بصوت مجلجل «الطعام يا أمّاه، فأنا أكاد أموت جوعًا»!

هذه القصة قريبة من قصة «الميراث» التي كتبتها فرجينيا وولف، حيث تقع الأحداث في وعي الزوج داخل غرفة مكتب بعد وفاة الزوجة في حادث، ليكشف الزوج بعد اطلاعه على مذكرات زوجته أنها لم تمت في حادث، وأنها وقعت في الرذيلة مع رجل آخر لأنه انشغل عنها بحياته المهنية، وهنا تقع الأحداث في غرفة الابن المرفه بعد وفاة أبيه، ويعلم سر أبيه الذي كان يخادن النساء، ولكن قصة فرجينيا وولف تعتمد على انكشاف السر عبر عملية مكثقة من التشويق والإثارة، وأمّا في قصة عبد الرحمن أبو ذكري فإن الراوي العليم يسرد الصدمة سردًا بلاغيًّا، ولكنه يبدو وعظيًّا وخطابيًّا.

وأمّا في القصة الثانية «هموم وطنية»، فإننا نلتقي بقصة تقوم على عناصر فنية رصينة، حيث تجمع بين الراوي العليم، والحوار بين الشخصيات، وتصاعد الأحداث، ووصولًا إلى الذروة، ناهيك عن الحس النقدي الساخر. هذه القصة هي تصوير حي للقطة درامية واحدة لشخصية نسائية في مؤتمر عن المرأة العصرية، ورجل مجهول لا يهتم إلا بجسدها والنوم معها في غرفة الفندق، لتدلف بعد ذلك إلى قاعة الاجتماعات الكبرى وتلقي كلمتها، وسط تصفيق حاد، حتى تصل إلى ذروة حديثها قائلة: «السيدات والسادة، انطلاقًا من المثل الشعبي الراسخ في وجداننا الجمعي، والمُقر بأن أم الطفل هي أدرى بنسبه؛ انتهينا اليوم من صياغة مشروع قانون تسمية المواليد، بنسبهم لأمهاتهم، بدلا من آبائهم…» ووسط هذا الجو النخبوي والبرج العاجي، يحتشد بضعة سعاة بسطاء، ويتندرون، ويقول أحدهم بابتسامة خبيثة: «أظنُّها حُبلى». وهكذا يتضح من خلال الحس الساخر للمؤلف أن «الهموم الوطنية» ليس لها صلة بالبسطاء والمساكين، وأن المدافعات عن حقوق المرأة يعشن في برج عاجي، ويتجملن أمام الكاميرات، ويأتين الفاحشة، وهذا موقف تعميمي حاد، وربما يكشف حالة من الاحتجاج المتطرف ضد سطوة النخبة النسوية على مقاليد الأمور.

والأهم من الناحية الفنية أن القصة لا تقوم على المشاكلة، بحيث تنطق الشخصيات كما تنطق في الواقع اليومي، ففي عصرنا الحالي لا نجد أحد السعاة يقول: «أظنّها حُبلى»، فهذه ليست لغة السُّعاة، كما يظهر هذا العيب الفني في أثناء المكالمة الهاتفية بين الشخصية النسائية وزوجها حينما تقول له:«وأنت أيضًا أوحشتني. أراك لاحقًا». ويظهر هذا العيب في قصة تالية بعنوان «الفرعون الرحيم»، حيث تنتهي بالراوي وهو يخاطب سائق سيارة أجرة قائلًا: «قف؛ سأترجّل هنا».

ويبدو أن كراهية النساء تسيطر على الراوي العليم في المجموعة القصصية، فلا تجد تصويرًا إيجابيًّا للمرأة، فهي لا تستدر شفقته، ولا تفلح في كبت احتقاره، حتى أن «كاثرين» تحمل عنوان إحدى قصصه، وهو يحدثنا عن «نظراتها الزجاجية الميتة»، وبشرتها «اللامعة المشدودة» التي تذكره «بوجوه النخّاسين»، إلى أن يخاطبها قائلا: «اعذريني يا عزيزتي؛ فإليك يرجع الفضل في معرفتي معنى أن تكون المرأة أحيانًا مقززة!». وربما يعود ذلك إلى اللحظة الفردوسية التي يحلم بها الراوي، ويظهر ذلك في قصة «الحلم»، والمواصفات المثالية لشريكة الأحلام، والاكتفاء بالصورة المتخيلة لأفضل النساء المسلمات في انفصال عن الواقع المركب، وهو يبقى على هذه الحال إلى أن تقترب منه زميلة العمل، وتصادق أمه وأخته، وتزوره يومًا ما، وتخبره أمه قائلة: «إنها تطلبك للزواج، فما رأيك؟».

وتصل المجموعة القصصية إلى صفائها التام وأصالتها الفنية النادرة عندما تترك العالم الوعظي والتعليمي والسياسي، عندما يترك الراوي العليم عالم البشر وصخبه وضجيجه وتفاصيله المزعجة، ويعيش بحواسه وأحاسيسه تجربة شعورية صادقة في قصة بعنوان «طير بلا أجنحة»، مع فراشة صغيرة (ربما فراشة إنسية) تحاول التحليق، فتطير لثوانٍ ثم تقع.

إن الراوي يشعر بما تشعر به الفراشة الصغيرة من توتر وخوف وفزع وألم، فيحتضنها كفّه ويصير ملاذًا لها. فلم تكن الفراشة تعاني من انكسار مادي في جناحيها، بل «مزقت القسوة جناحي قلبها، فعجز جناحا جسدها عن حملها إلى السماء السابعة». والدفء الذي وجدته، والحب الذي عثرت عليه، هو الذي بث الروح فيها «كوردة أنضرتها شمس ربيعية حانية»، ولذا «بدأت تحلق في ثقة، وتجوب الأفق في سعادة»، وحتى بعد الارتطام بالأرض، «وقبل أن تسبل جفنيها للمرة الأخيرة، تمتمت: سأظل أحبك… هذا وعد!».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.