هل يمكن لدمية أن تفكر ملياً في حياتها وما تقدمه من تضحيات دون عائد، ولو حتى معنوياً، فتقرر أن تترك المنزل للبحث عن ذاتها؟

يبدو ذلك سخفاً ولا منطق فيه في الواقع، ومن الممكن أن يتحقق فقط في أحد أفلام الكرتون أو قصص الأطفال. لكن الدمية لا تكون دائماً جماداً غير عاقل ودون مشاعر، فمن الممكن أن تكون إنساناً مسلوب الإرادة، ولا يلعب في الحياة سوى دور تكميلي لا يعود عليه بشيء سوى تجميل حياة الآخرين. ذلك ما أثاره الكاتب النرويجي «هنريك إبسن» في واحدة من أشهر أعماله «بيت الدمية» حين صوَّر «نورا» بطلة المسرحية بالدمية التي يمتلكها زوج لا يفكِّر فيها إلا على أنها شيء يملكه، لا إرادة له.

في «بيت الدمية» مزَّق إبسن ذلك القناع الذي كانت تتخفى وراءه الحياة الزوجية التي عاشت فيها المرأة في المجتمع الأوروبي في تلك الفترة، والتي كانت محكومة بالمظهر الاجتماعي واعتماد المرأة كلية على الزوج في اتخاذ القرارات والشعور بالأمان الاجتماعي والمادي، فدور المرأة في المنزل لا يتعدى كونها شيئاً مكملاً لا قيمة له.

استطاع إبسن تجسيد ذلك بكل براعة في الزوجة نورا التي اعتبرها زوجها «هيلمر» دمية لا أكثر، ولا يمكن أن يعول عليها في شيء. فهي لم تكن شريكة له على الرغم من أنها بذلت الكثير لإسعاده. كذلك فاحترامه لها لم يكن احتراماً حقيقياً، بل إن علاقته معها لا تتعدى علاقة المرء بدمية يلعب بها. ثار إبسن من خلال مسرحيته ضد الأفكار والمعتقدات البالية في تلك الفترة في أوروبا، وقدَّم ذلك من خلال مضمون مُحكم ولغة ثائرة وعميقة.

مسرحية بيت الدمية

تدور أحداث المسرحية حول نورا، تلك الزوجة التي تظهر بصورة طفولية وساذجة في البداية، والتي تحضِّر للاحتفال بالعام الجديد، فتشتري شجرة عيد الميلاد وبعض الهدايا لأطفالها. تزورها إحدى صديقاتها القدامى «مدام لنك» ويظهر من خلال الحديث أن نورا قد اقترضت بعض المال من أحد الأشخاص، دون علم زوجها، حين أوصى الأطباء بسفر الزوج لإيطاليا كي تتحسن صحته، وأنها ما زالت مدينة، وتحاول بشتى الطرق أن تسدد الدين من المال القليل الذي يعطيها زوجها إياه لشراء حاجياتها. ثم ما تلبث الأحداث أن تتصاعد ويظهر الصراع الرئيسي، حين يدور الحديث بين نورا وكروجستاد، الذي اقترضت منه المال، فيحاول ابتزازها وإفشاء ما قامت به، فهي لم تقترض المال فحسب، بل إنها زوَّرت توقيع والدها للحصول على ذلك المال. ذلك الصراع الذي يجعلها تمر برحلة لاكتشاف ذاتها ومواطن قوتها.

يستمر تصاعد الأحداث ويتضح نضوج وتطور شخصية نورا بشدة، من تلك المرأة الساذجة لتظهر بمظهر الزوجة التي تفكِّر ملياً وتحيك الخطط للحفاظ على حياة أسرتها مهما كلَّفها الأمر. تأتي الذروة عند قراءة الزوج هيلمر خطاب كروجستاد الذي يذكر فيه كل شيء عن اقتراض نورا النقود منه، فينفجر غاضباً.

وتنتهي المسرحية بمغادرة نورا للمنزل وصفع الباب خلفها إشارة لثورتها على حياتها في بيت الزوجية، وذلك عند تيقنها أن هيملر ينظر إليها على أنها شخص لا يُعتمد عليه، وليس لها الحق في مشاركته التفكير أو اتخاذ القرارات. تثور نورا في وجه المجتمع المتمثل في زوجها، وتقرر الرحيل.

الدمية تتحدَّث عن نفسها

نورا: اجلس… هذا أمر يستغرق بعض الوقت… لديَّ كلام كثير أريد أن أفضي به إليك… ألا يدهشك أن تجمعنا مثل هذه الجلسة؟

هيلمر: ما موضع الدهشة؟

نورا: لقد مضى على زواجنا ثماني سنوات وهذه هي أول مرة نلتقي فيها… أنا وأنت… كزوج وزوجة… للحديث بشكل جدي.

نورا: لم نضم رأسينا في يوم من الأيام بغية الوصول إلى البت في أمر من الأمور.

هيلمر: وهل كان يجديك ذلك في شيء؟

نورا: هذه هي المشكلة… أنك لم تفهمني يوماً في حياتك.

تتطور شخصية نورا عبر المسرحية بشكل كبير، فتظهر في البداية على أنها شخصية طفولية وساذجة، ثم ما تلبث أن تبدأ تتضح شخصيتها خلال حديثها مع مدام لنك، وكيف أنها قامت بتدبير المال للسفر لإيطاليا لعلاج زوجها، وأنها حصلت على المال لأنها تمتلك الذكاء والحيلة، وتفتخر بأنها لا تزال تحفظ هذا السر بداخلها دون الإفشاء به لزوجها، وذلك يُعلي من شأنها كامرأة. ثم تتطور الشخصية أكثر في النهاية حين تغادر بيت الدمية.

كذلك يتطور فهم نورا لمعنى الحرية على مدى المسرحية. ففي الفصل الأول، تعتقد أنها ستكون «حرة» بمجرد سداد ديونها، لأنها ستتاح لها الفرصة بعدها لتكريس نفسها بالكامل لمسئولياتها تجاه زوجها وأولادها. لكن بعد أن يبتزها كروجستاد، تعيد النظر في مفهومها للحرية وتتساءل عما إذا كانت سعيدة في منزل هيلمر، وهي مجرد دمية خاضعة لأوامره وقراراته. في نهاية المسرحية، تسعى نورا إلى نوع جديد من الحرية، فهي ترغب في أن تُعفى من التزاماتها العائلية من أجل متابعة طموحاتها والبحث عن هويتها.

التضحية كدور أساسي للمرأة

تقول نورا:

إنها الحقيقة السافرة يا تورفال. كان أبي فيما مضى يسرُّ إليَّ برأيه في كل كبيرة وصغيرة. فنشأت أعتنق نفس آرائه. وإذا حدث أن كونت لنفسي رأياً مخالفاً كنت أكتمه عنه خشية أن يُضايقه. كنت في نظره عروساً من الحلوى. يدللني كما كنت أدلل عرائسي ولعبي. وعندما انتقلت لأعيش معك وجدتك تنظم الكون من زاويتك الخاصة. فتبعتك في الطريق المرسوم.

يرسم إبسن في المسرحية صورة قاتمة لدور المرأة المهمَّش الذي تلعبه في جميع الطبقات الاقتصادية في مجتمعه، وأنها خُلقت كي تُضحِّي بكل الأشكال. فعلى الرغم من أن الرجال يرفضون التضحية بنزاهتهم، فإن مئات الآلاف من النساء قد فعلن.

تضحِّي نورا من أجل زوجها باقتراض المال من كروجستاد ليتمكنا من السفر، ولقد تعرضت إثر ذلك للابتزاز منه. كذلك فالسيدة «لنك» وجدت أنه من الضروري التخلي عن حبيبها كروجستاد من أجل دعم والدتها وشقيقتها، والزواج برجل أكثر ثراءً. كما أنه كان على مربية نورا أن تتخلى عن طفلها لتدعم نفسها من خلال العمل كمقدمة رعاية لنورا منذ طفولتها.

التعبير عن الإرادة الإنسانية

كان العرض الأول لمسرحية «بيت الدمية» على خشبة المسرح الملكي في كوبنهاجن عام 1879، وتهافتت الفرق المسرحية على أدائها، وتم اقتباسها فيما بعد لعدد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية. تلك المسرحية ليست الأولى للكاتب، لكنها المسرحية التي جلبت له الصيت البعيد والشهرة. ثار النقاد حول هذه المسرحية وفكرة استقلال المرأة التي عبَّرت عنها نورا بمغادرة بيت الزوجية وصفق الباب، فالمسرحية تعبر عن الإرادة الإنسانية التي تسلك طرق التجارب المحفوف بالمخاطر لتعبر عن نفسها.

هنريك إبسن

هنريك إبسن (20 مارس/أذار 1828 – 23 مايو/آيار 1906) هو كاتب مسرحي نرويجي، يعرف بـ «أبي الدراما الحديثة». ألَّف حوالي 26 مسرحية خلال 55 عاماً. على الرغم من أن مسرحياته نادراً ما تأخذ الشكل التراجيدي، فإنها تتسم باللغة الثائرة العميقة والنزعة التراجيدية.

كان محور مسرحيات إبسن يرتكز على فكرتين أساسيتين؛ أولهما إيمانه العميق بقيمة النفس البشرية، مما دفعه لبذل جهد فكري لإعلاء حرية الفرد، وثانيهما هي فكرة تمسكه بقيمة الحب الحقيقي الخالص من شوائب النفاق.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.