فلندخل مباشرة في صلب الموضوع، أراك تتخبط داخل أحشاء والدتك، تحرك يديك و قدميك الصغيرتين وكلك شوق بالانضمام إلى عالم الإنسان، فتمهّل ولا تلقِ بنفسك في مصر.

فقد يحدث أن تكون ابنًا لعائلة من شعب الغلابة، ابنًا لكهل يعمل موظفًا صباحًا وسائق سيارة أجرة بعد الظهر، لا يملك الوقت الكافي ليشاهدك تترعرع وتكبر أو ربما يكون غير مهتم برؤية ذلك أصلاً تمامًا كما لم ير أمك قط قبل زواجه منها. لا تصدق ما تسمعه خارجًا من كلامٍ في الحب وحوارات عن العشق، إنْ هي إلا أصوات مترجمين عربٍ وكلمات لممثلين أتراك تنبعث من أبواق شاشة تلفازكم الصغير حين تشاهده ليلاً من حملتك في بطنها لأكثر من ثمانية أشهر، تذرف الدموع وحيدة حسرة وحزنًا بينما يتخذ والدك كرسيًا في إحدى مقاهي القاهرة، يدخن بوتيرة متزايدة حتى إذا ما تأكد من نوم أمك سار بين الأزقة المجاورة ليلاً وعاد إلى المنزل.

ستخطو خطواتك الأولى في حارتكم وسط الأسواق المزدحمة، تتقاذفك أرجل المارة الذين لن يتكلفوا عناء النظر إليك، فكل واحدٍ منهم يمشي كما الأشباح بعينين شاخصتين ووجه عبوس، منهم من يؤرقه غلاء الأسعار ومنهم من يفكر في طريقة للهرب من مستقبلٍ أسودٍ كسواد ليالي حلب إذا ما دكتها القذائف وانتشر فوق عماراتها الشبيحة، وآخرون لا يزالون تحت تاثير صدمة الثلاثين من يونيو. لن تنتبه لكل هذا، ففي ذلك الوقت ستكون صفحة ناصعة البياض، تتفاخر بخطواتك كما يتفاخر عبد الفتاح السيسي بإنجازاته، وما أشبه خطواتك تلك بإنجازات عبد الفتاح السيسي، خطوات ستنطلق على إثرها مسيرتك نحو المجهول وكأنك سوري يركض باتجاه بحرٍ أمامه بينما يقف العدو من ورائه.

في البداية ستحب القاهرة كما أحب هادي العبد الله الثورة الشامية، ستعشق بناياتها المهترئة وستغرم بالتسكع بين أزقتها والنظر خلف شبابيك منازلها، ستدمن هواءها الملوث تمامًا كما أدمن شباب حيّك المخدرات.

ستكبر أكثر فأكثر على أنغام مشاجرات والديك التي ستتكاثر مع مرور الوقت، وتصبح كما الفتنة بين فصائل المقاومين في سوريا، تندلع لأتفه الأسباب تارة وتنطفئ تارة أخرى، وحينها سيدبّ قليل من الخوف إلى قلبك. ستتساءل عن تلك القصص ذات النهايات السعيدة التي قصها عليكم مدرسكم، لا تجزع فقد كنتُ مثلك، أنا أيضًا صدقت تلك القُبلة التي أعادت فلّة إلى الحياة من جديد حتى أني صدقت ذلك الهندي الذي أنقذ بيديه طائرة تقل حبيبته من السقوط والانفجار، لينضم الركاب بعد ذلك إلى بطلنا ويلتحق بهم المارة لتأدية رقصة جماعية، تلاشى كل ذلك من مخيلتي مع أول صفعة تلقتها والدتي أمام عيني ممن كان يفترض به أن يقبّلها أو يحضنها، وكان برميلاً متفجرًا استهدف دماغي فصيّرها خرابًا كعمارة بمدينة إدلب.

مهًلا، لا تخف ففي البداية لن يؤثر فيك كل هذا خاصة وأنك لا زلت، لِنَقُل، طفلاً كل همه الانتصار للأهلي أو الزمالك، مغازلة بعض الفتيات على أمل الظفر بواحدة منهن ترافقك ليلاً إلى ضفاف النيل لتشاهدا القمر معًا، تُشْبعُ حاجتك إلى سماع أرق الكلمات، تشتاق إليك ليلاً فتبتسم لرؤيتك صباحًا، حينها لن تكون على علم بأن “السبكي” قد كذب عليك وأن الظفر بأبسط المشاعر في شوارع مدينتك يتطلب أبًا ذا دخل عالٍ وملابس باهظة الثمن وربما سيارة فخمة.

ستكبر أكثر فأكثر وستكبر الخصومات بين والديك، وفي الأثناء ستكبر معك هموم مدينتك وعجز وطنك وظلم حكومتك، مفردات وشخصيات جديدة ستدخل عالمك؛ أبرزها الثورة، الحرية، القمع، العسكر، رجال الشرطة، القائد الأعلى للقوات المسلحة، التصفية الجسدية، سجن العقرب، …

عالم آخر سيأخذك بعيدًا عن عالمك القديم، عالم المنزل وكرة القدم والتسكع ليلاً، عالم ستدخله بحماس وبعزيمة أصحاب القبعات البيضاء في سوريا وستخرج منه منهكاً مدمرًا مثل رضيع في تدمر هوى سقف بيته بفعل صاروخ فعلق تحت أنقاضه.

وحينئذ سيكون الخوف واليأس قد سيطرا عليك كليًا خاصة وأنك عائد إلى عالم والديك الخالي من أي مشاعر مرهفة وأحاسيس جميلة. ستعود إلى حارتك في القاهرة ولكن هذه المرة ستراها بشكل مختلف، لن تقدر على أن تحبها ثانية، سترى في جدرانها حزنًا كذلك الذي يخيم على أجواء منزلك الصغير حين يملؤه بكاء أمك ليلاً، وستذكرك طرقاتها المتسخة بعالم الثورة ومآسيه، ستراها ملطخة بالدماء ومعبدة بالظلم والقهر، ستعيش كابوسًا حقيقيًا لن تخرج منه إلا حين تعترضك تلك الجميلة في أول سنة لك في الجامعة.

في ذلك الوقت سيكون عودك مشتدًا فتحاول بطرقٍ تعلمتَها من المسلسلات التركية التي تشاهدها والدتك أن تجلب انتباهها، وإذا ما ابتسمت وضحكت في وجهك ستمحو كل اليأس الذي أنهك قلبك البريء.

لا تفرح، فبنظرة أخرى ستقدر تلك الجميلة على ملء قلبك بأضعاف مضاعفة من اليأس، فبينما تقرر بسذاجتك أنها في طريقها للوقوع في حبك وأنك قد وجدت أخيرًا من هي قادرة على أن تبصر طيبة قلبك وبساطة أحلامك، فتذهب للعمل كنادلٍ بإحدى المطاعم الفاخرة بالقاهرة على أمل توفير بعض من المال قبل موعد عيد ميلادها، بينما تفكر أنت بكل هذا ستتفاجأ مثلي برؤيتها تتخذ رفقة حبيبها مائدة في نفس ذلك المطعم، يتبادلان نظرات قررا بأن يسمياها نظرات الحب ويرمقانك بنظرات قررتَ أن تسميها نظرات الشفقة، يهمّان بالمغادرة فيمدك حبيبها ببعض من البقشيش بينما تُعجبُ هي بشهامته ورفعة أخلاقه.

أما أنت قد تعود مرغمًا إلى عالم والديك الحزين، تستسلم لعلو صوتيهما وللروتين الذي سيتشبث بأيامك أكثر فأكثر، حتى إذا ما بلغت الثلاثين من عمرك قررت والدتك أن تزوّجك امرأة لم ترها من قبل، فتتخذ نفس كرسي والدك في نفس المقهى وتسير ليلاً بين نفس الأزقة التي كان يسير فيها ولا تدخل منزلك إلا حين تتأكد بأن زوجتك قد نامت.

والآن سأترك لك الاختيار؛ فإما أن تتمهل وتتوقف عن التخبط داخل أحشاء أمي، وإما أن تستعجل بإلقاء نفسك في مصر.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.