في عام 1990، تحديدًا في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وقف الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، معلنًا للعالم انطلاق «النظام العالمي الجديد» في خطابه الذي ألقاه بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج العربي. حينها كان الاتحاد السوفيتي في حالة احتضار، ولفظ أنفاسه الأخيرة في العام التالي متفتتًا لـ15 دولة مستقلة، لتنفرد واشنطن بزعامة العالم.

حينها تحول النسق العالمي من نظام ثنائي القطبية، إلى النسق الأحادي، وقادت الولايات المتحدة العالم منذ ذلك الحين في ظل غياب أي منافس قوي يجرؤ على تحديها بعد غياب الروس عن الساحة؛ فالدول الأوروبية واليابان رغم غناها وتقدمها ظلت تدور في الفلك الأمريكي، وأصبحت القيم الغربية كالديمقراطية والليبرالية وغيرها قيمًا عالمية تسعى جميع الدول لتبنيها – أو حتى التظاهر بذلك – تماشيًا مع توجيهات الدولة العظمى التي هيمنت على المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد، وبدا للبعض أنها «نهاية التاريخ»، وأن الحضارة الغربية بقيمها الحالية هي أقصى ما يمكن أن تصل إليه البشرية وسيكتب لها الخلود، وهي النظرية التي ارتبطت باسم المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما.


قانون حياة الدول

جدير بالذكر أن قانون حياة الدول الذي توصل إليه ابن خلدون، بالاستقراء والتتبع الدقيق، يقول إن الدول تشبه الإنسان في مسيرة حياته، التي تبدأ بالطفولة، ثم المراهقة والشباب والقوة ثم الشيخوخة والهرم، إلى أن يوافيها أجلها فتموت لتظهر بعدها دول أخرى تمر بمراحل الحياة المختلفة، وهكذا في سلسلة متصلة الحلقات لا تستثني أحدًا.

وبالفعل كان وصول الأمريكان إلى القمة مؤذنًا ببداية تراجعهم؛ فمن يقارن بين الولايات المتحدة الآن وهي تعاني من الثقل والترهل الاقتصادي ووضعها السابق عندما كانت تستحوذ وحدها على 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وكانت قدرتها الإنتاجية الصناعية نصف طاقة العالم، يعلم أن نسبة ناتجها المحلي الآن تراجعت إلى الربع، وانتقلت معظم قدراتها الإنتاجية الصناعية إلى الصين التي أصبحت اليوم مصنع العالم، و أكبر مصدر ودائن للولايات المتحدة.

إلا أن النظر المجرد للميزان الاقتصادي لا يكفي للحكم بانتهاء حالة الأحادية القطبية تمامًا وزوال الهيمنة الأمريكية، فعملية تحول النسق الدولي تستغرق فترة طويلة تحتاجها الدول لكي تتهيأ للوضع الجديد، فالولايات المتحدة كانت تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث الإنتاج الصناعي منذ عام 1894، إلا أن هيمنتها الأحادية على العالم الغربي، لم تترسخ إلا بعد 62 عامًا من ذلك التاريخ، وتحديدًا أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، عندما فاجأ الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور حلفاءه الفرنسيين والبريطانيين، وأجبرهم على الانسحاب واستصدر بذلك قرارًا ملزمًا من الأمم المتحدة، وهدد رئيس الوزراء البريطاني بضرب قيمة الجنيه الإسترليني، وكانت تلك الحادثة هي نقطة التحول التي أدركت بعدها فرنسا وبريطانيا أنهما أصبحتا من «قوى الدرجة الثانية» في حين لم يعد أمامها منذ ذلك الحين سوى الانصياع للهيمنة الأمريكية.

اقرأ أيضًا: الحزام والطريق: الصين ولعبة السيطرة على مفاصل العالم

خرجت واشنطن من الحرب العالمية الثانية في أقوى حالاتها لكنها احتاجت 11 عاما لتترسخ مكانتها كقائدة للعالم الغربي، إذ إن لحظة إعلان بداية نسق جديد تبقى خاضعة للظروف والمستجدات الدولية، التي قد تأتي فجأة لكن ظروف إعدادها وعوامل تكوينها قد تستغرق عشرات السنين.

واليوم يقف العالم على أعتاب تحول النسق الدولي من النظام العالمي «الذي لم يعد جديدًا» إلى نظام «متعدد الأقطاب»، يكون للصين فيه دور محوري بينما يتراجع الدور الأمريكي ليكتفي بجزء من المشاركة في إدارة هذا النظام، ثم تسري عليه نصوص قانون حياة الدول ليلقى مصيره الحتمي في وقت ما، وما تدري بلد بأي وقت تموت.


الصين الصاعدة

الصين
الصين

وفي الوقت الذي تسعى فيه عدة دول لمزاحمة ومنافسة الهيمنة الأمريكية، تبرز مجموعة البريكس التي تتصدرها الصين كأقوى تكتل يسعى لكسر الاحتكار الأمريكي لقيادة العالم، ويضم في عضويته أيضًا روسيا والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا، إذ تشكل مساحة الدول الخمس ربع مساحة اليابسة، وعدد سكانها يقارب 40% من سكان الأرض، واقتصادياتها تسير بوتيرة صاعدة بالتوازي مع مكانتها الدولية. وتسيطر الصين على دفة توجيه هذا التجمع بشكل كبير، إذ ترجو من خلاله أن يكون سلمًا لها لتبوء ريادة العالم عبر المرور بمرحلة وسيطة من التعددية القطبية.

أنشأت بكين في سبيل تحقيق ذلك الهدف منظمات مالية دولية بديلة لتلك التي تخضع للنفوذ الأمريكي كالبنك والصندوق الدوليين، ففي يونيو/ حزيران 2014 أُعلن عن إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية في العاصمة الصينية بكين، برأسمال قدره 100 مليار دولار بمشاركة أكثر من 50 دولة، بهدف إنهاء سيطرة أمريكا على أسواق المال في العالم.

اقرأ أيضًا: الدواء المر: كيف يدمر صندوق النقد الدول؟

وفي الشهر التالي شهدت شنغهاي افتتاح مقر بنك التنمية الجديد برأس مال مبدئي 50 مليار دولار تتقاسمها بالتساوي دول البريكس الخمس، وتم الاتفاق على إنشاء صندوق احتياطات نقدية بقيمة 100 مليار دولار. وبذلك اكتملت المنظومة المالية العالمية البديلة، التي – بالرغم من المعارضة الأمريكية لها – ضمت لها عددًا من الدول الغربية المهمة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا.

بالطبع لن تكون القروض والتمويلات التي تقدمها تلك المؤسسات مرفقة باشتراطات البنك الدولي وصندوق النقد والتي كانت تصب في خانة تدعيم النفوذ الأمريكي والتمكين لنظام العولمة والاقتصاد الحر.


منظمة شنغهاي

بالتوازي مع النظام المالي الجديد، شرعت الصين في إنشاء نظام للأمن الجماعي العالمي تهيمن عليه هي وحلفاؤها على غرار حلف الأطلسي الذي تهيمن عليه واشنطن، فأسست منظمة شنغهاي للتعاون، وهو حلف عسكري يضم كلًا من روسيا وكازاخستان وباكستان والهند وقيرغيزستان وأوزباكستان وطاجكيستان، أي أنه يضم 4 دول نووية وشعوبًا يبلغ تعدادها نصف البشرية تقريبًا، بالإضافة إلى تمتع إيران وأفغانستان وروسيا البيضاء ومنغوليا بصفة مراقب، ومنح الشراكة – وهي درجة أقل من العضوية – لتركيا وأرمينيا وأذربيجان ونيبال وسيريلانكا وكمبوديا.

اتفقت المجموعة على معارضة التدخل في الشؤون الداخلية للدول بحجة مبادئ الإنسانية وحماية الحريات وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات الغربية. وتلقت المنظمة طلبات انضمام من عدد من الدول ما زالت تنتظر موافقة المجموعة كمصر وأوكرانيا والعراق وسوريا، والغريب أن الولايات المتحدة نفسها تقدمت في عام 2005، بطلب للحصول على صفة مراقب في المنظمة، إلا أن الطلب قوبل بالرفض الفوري.


السيطرة الناعمة

ضباط من جيش التحرير الشعبي الصيني في لقاء مع نظرائهم من الجيش الأمريكي

لا تسعى الصين من خلال تحركاتها تلك إلى الانقلاب على النظام الدولي وهدمه بل إلى السيطرة الناعمة عليه وزيادة حجم مشاركتها فيه باستمرار، فبرغم دعواتها المتكررة لإصلاح النظام الدولي والأمم المتحدة إلا أنها تحتل المركز الأول عالميًا في حجم مساهمة قواتها ضمن المهام الأممية.

تقوم الاستراتيجية الصينية في الأساس على عامل الزمن والانتظار الإيجابي، ولا يتعجلون في سيرهم نحو ريادة العالم، فوجود الولايات المتحدة في الصدارة جعلها تتحمل العبء الأكبر في التصدي للمشكلات الدولية، الأمر الذي استنزف قواها بشكل كبير، فالورطة الأمريكية في العراق وأفغانستان حطت من مكانة واشنطن كثيرًا وعززت في المقابل من موقف الصين التنافسي، فعلى سبيل المثال لم تجرؤ كوريا الشمالية (التي تعد ذراع الصين لتخويف العالم) على فتح منشآتها النووية إلا بعد انطلاق الحملة العسكرية الأمريكية لغزو العراق في 2003، ليقينها أن واشنطن لا تستطيع فتح جميع الجبهات في وقت واحد.

اقرأ أيضًا: الكتالوج الصيني: طريق طويل لسيادة العالم


بداية النهاية

الصين، جيش التحرير الشعبي الصيني
الصين، جيش التحرير الشعبي الصيني

إن كان في إمكاننا الوقوف عند حدث دولي معين واختياره ليكون علامة على بداية تحول النظام العالمي إلى النمط متعدد الأقطاب الذي لم يتشكل بعد بصورة كاملة، فإن الأزمة السورية تظل هي المنعطف الأكثر بروزًا في هذا المشهد، فإبان الثورتين المصرية والليبية في 2011 كانت الأنظار تتطلع إلى البيت الأبيض على اعتبار أن كلمة سيد هذا البيت سيكون لها وقعها الحاسم على سير الأمور، أما الآن والأزمة السورية تدخل عامها الثامن فترتيبات الوضع تخضع للتوافقات والتفاهمات بين واشنطن وموسكو ومن ورائهما بكين.

وتشكل الأزمة السورية أول نزاع عالمي تتدخل فيه الصين بهذه القوة (بالتنسيق مع الروس) فلم تستخدم الصين على مدار تاريخها نفوذها في مجلس الأمن الدولي وتستعمل حق الفيتو بهذه الكثافة كما فعلت من أجل دعم نظام بشار الأسد في سوريا، بالإضافة إلى الدعم المادي والفني لقوات النظام.

اقرأ ايضًا: العسكرية الصينية: التحولات الكبرى تبدأ دائمًا من الجيش

يعترف المنظرون الأمريكيون بأن بلادهم تسير في طريقها إلى التراجع، وهم في ذلك لا يحاولون تحدي السنن الكونية بل التخطيط لهذا التراجع وإدارته بالشكل الذي يصل ببلادهم إلى أن تكون إحدى قوى الصف الثاني بدلًا من أن تنهار، وعلى حد قول المفكر الأمريكي الشهير روبرت كابلان فإنه ليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آلية مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل من أمد بقائها كأمة قوية، مشيرًا إلى أن العولمة التي اخترعتها الولايات المتحدة لترسيخ هيمنتها على العالم استغلتها قوى أخرى (على رأسها الصين) كأداة لتقويض النفوذ الأمريكي من داخل هذا النظام.

وتعد مرحلة التحول من نسق دولي إلى آخر من أخطر المراحل في العلاقات الدولية، فعلى حد قول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في كتابه «النظام الدولي»، فإن مرحلة انتقال النظام الدولي من نظام إلى آخر، تختفي فيها الضوابط والقيود ويصبح الميدان مفتوحًا لأكثر المساعي توسعية وأكثر اللاعبين عنادًا، وتنتشر الفوضى إلى أن يتأسس نسق دولي جديد.