مكان تحترمه
أهم إنجاز في ذلك المكان هو أنه خلق نظامًا system ذاتي الحركة لا يتوقف لغياب شخص. كل شيء يتحرك بنظام ودقة وكل فرد جديد يجد نفسه في الموضع الصحيح الذي ينتج فيه، ثم ينتقل العلم كالأواني المستطرقة ممن هو أعلى إلى من هو أقل. هذا هو ما يميز السويد وفرنسا مثلاً عن مصر. أتكلم طبعًا عن كتلة الأحلام التي بنوا بها مركز مجدي يعقوب في أسوان.
تلقيت دعوة كريمة من شباب المركز، فذهبت لأمضي يومًا رائعًا. الكلام عن السلبيات قد بلغ اليوم من المرء كل مبلغ، لهذا سرني جدًا أن أرى مكانًا يحمل الأمل والجمال. دعاية ؟ بالطبع هي دعاية .. يفخر المرء بأن يكون جزءًا من الآلة الدعائية لهذا المكان، فلعله الشيء الوحيد الصحيح الذي فعله في حياته، خاصة إذا لم يتقاض مليمًا ليقول هذا الكلام.
الانطباع الأول، لي هو أن المكان صغير جدًا ويختلف عن تخيلاتي .. كنت أتصور أنه أقرب لمدينة كاملة، وكنت أحسبه يطل على النيل – كما رأيت في حلقة تلفزيونية – فوجدت أنه موجود في أفقر منطقة من أسوان في شارع كسر الحجر. وأولوية خدماته هي لأهالي الصعيد وللفقراء.
الانطباع الثاني، هو السيطرة المذهلة للشباب على المكان.. أعتقد أن مقابلة من تجاوز الخامسة والأربعين أمر صعب جدًا. والجو برغم انضباطه مرح أقرب لشلة من الأصدقاء.
الانطباع الثالث، هو أن كل شيء يحمل بصمات وأفكار السير مجدي يعقوب، وهم يعشقونه عشقًا حقيقيًا، غير أنني لم أر الرجل العظيم للأسف لأنه يتواجد عشرة أيام فقط كل شهر.
الانطباع الرابع، هو أنه مكان منظم جدًا نظيف جدًا يمكن أن تراه في الدنمارك أو النرويج مثلاً. ويبرهن المكان على أن التمريض أهم جزء في مهنة الطب.. التمريض على أعلى مستوى بالفعل، وفي بعض العنابر تكون هناك ممرضة واحدة لكل سرير.
عامة يبدو المكان قوقعة نظيفة منعزلة بعيدة عن العالم المضطرب بالخارج، وعن التدهور العام الذي يجتاح كل شيء. ولسوف تشعر أن الأطباء الشبان يفرون من ضغوط العالم الخارجي إلى المركز. وكما تقول د. سها رميح رئيس قسم التصوير المتطور للقلب: «ليست هناك وسائل ترفيه كثيرة في أسوان، لذا تحول المركز إلى الملتقى الرئيس لأطبائه».
الأطباء من خارج أسوان يقيمون في أحد الفنادق الفاخرة بالمدينة، أو ينالون بدلاً يسمح لهم باستئجار شقة. لا أعرف كم دخل الطبيب هنا، لكن أعتقد أنه يكفل لهم حياة محترمة من دون حاجة لفتح عيادة. تأميم الطب! أعط الطبيب دخلاً محترمًا على أن يكون المستشفى همه الأول والأخير، بدلاً من أن تعطيه ألف جنيه في الشهر وتتذمر طيلة الوقت من (التزويغ) والإهمال.
عندما دخلت الكافتيريا تذكرت صورة قديمة لديك تشيني عندما كان يزور قاعدة أمريكية عسكرية، وكيف حمل الصينية بيده ووضع طعامه ثم جلس إلى منضدة وسط الجنود. هنا يأكل الجميع نفس الطعام ويجلسون معًا، عمالاً وممرضات وأطباء ورؤساء في جو اشتراكي محبب للنفس.
تقول أرقام المركز لعام 2015 إن المركز شهد إجراء 2808 عمليات جراحية أو تداخلية. تم فحص 13390 مريضًا في العيادة الخارجية. تم في عام واحد عمل 1320 قسطرة قلب و307 حالات علاج الجلطات الحادة بالقسطرة Primary PCI.
كل خدمات المركز مجانية مهما بلغت تكلفتها ومهما بلغ سعر الدواء، فالمركز يعتمد بالكامل على التبرعات. وطريقة الدخول هي البساطة ذاتها: أرسل ورقك وتحاليلك ولسوف يحددون لك وقتًا للمناظرة. وفي الزيارة الأولى يتم عمل تخطيط قلب وفحص بالموجات فوق الصوتية.
لا توجد خواطر في الدخول ولا وسطاء .. الأولوية لما تقرره لجنة مناظرة الحالات ثم أهالي الصعيد هم الأهم. هناك هامش 15% من الحالات للتوصيات التي لا مفر منها مثل أخت وزير أو زوجة محافظ، وهو تفكير واقعي في مصر طبعًا.
قضيت يومًا مبهرًا، خاصة أن أمراض القلب ليست تخصصي، وقد أثار دهشتي كل ما يستطيعون القيام به حتى شعرت أن علمي أمراض الكلى وأمراض الكبد يتواريان خجلاً. مع د. سها رميح ومحمود نسيم رأيت – لأول مرة – الرنين المغناطيسي يستعمل لتصوير القلب. جهاز مساعدة البطين VAD وهو جهاز معقد يغني المريض عن زرع القلب. المريض يحمل بطارية يشحنها يوميًا ويبلغ المحافظة ومرفق الكهرباء حتى لا تنقطع الكهرباء عن منطقته!
هناك كذلك الاستبدال غير الجراحي للصمامات TAVI.
كنت أحسب العيوب الخلقية للكبار خارج نطاق الطب، لكن لديهم وحدة لعيوب القلب الخلقية لدى البالغين GUCH . أما عن العيوب الخلقية للأطفال وحديثي الولادة فهو مكان مذهل.. يمكنك أن ترى المرضى صغار السن في حجم كف يدك وهم يتلقون رعاية صارمة. قال لي أحد الجراحين إن رباعية فالو تحتاج لثمانية أيام حتى تجرى الجراحة ويتحسن الطفل. أصابني هذا بالذهول لأن رباعية فالو معقدة لدرجة يصعب تذكرها، وكان معناها بالنسبة لي تدمير حياة الأبوين إلى أن يموت طفلهما. دعك من تغير أماكن الشرايين العظمى TGA. ما نوع الجراح الذي يجري جراحة معقدة كهذه لرضيع؟ كلا .. هو لا يبدو مثل لستر وهالستد وكورفوازييه بالشعر الأشيب والسوالف الكثة والغليون.. إنه مجرد شاب مرح تشعر أنه جاء من (الجيمّ) حالاً وسيذهب للكافيه للقاء أصحابه.
على العموم طور المركز جراحات قلب الأطفال التداخلية مما خفف العبء عن قسم الجراحة. هكذا يتم علاج ثقب الأذينين والقناة الشريانية المفتوحة وثقب ما بين البطينين من دون جراحة كبرى.
مركز فسيولوجيا القلب قام في عام واحد بأكثر من 150 عملية اجتثاث ablation وزرع منظمات ضربات. البروفسور بروجادا خبير عالمي في فسيولوجيا القلب الكهربية وله مرض شهير باسمه، وقد استفاد منه المركز كثيرًا.
هناك وحدة أبحاث طبية معقدة تعنى بعلوم الحياة والهندسة الطبية والبحث الطبي، وقد رأيت نموذجًا لقلب مريض تم تكوينه بالكمبيوتر بحيث صار تمثالاً يمكن أن تضعه في كفك.
لحظة !!
الشفرة زرقاء! هناك مريض قد توقف قلبه… الجرس يدق … يتركك الأطباء ويجرون بسرعة إلى العنابر وكل واحد يعرف مهمته بالضبط. بعد قليل يعودون لك وهم يضحكون.. لقد عاد قلب المريض يخفق.
نعود لكلامنا إذن …………….
المحاضرات منتظمة في المركز .. محاضرات عامة ثم محاضرات أسبوعية خاصة لكل قسم. كما أن طبيبة أجنبية تدعى كارين تأتي للمركز كل شهر لعمل الجراحات المعقدة، هذا بالطبع مع العمليات التي يختارها السير العظيم ليقوم بها. لكن الفريق المصري صار يؤدي أكثر من 80% من جراحات المركز.
عدد العاملين يقترب من 600. لن أشغلك بالتكوين الإداري للمركز، وأطلب أن يسامحني من نسيت اسمه وسط حشد الأسماء التي دونتها في ذهني، لكن لابد من ذكر اسم د. مجدي اسحق عن مجلس الأمناء، ود. وائل عبد العال المدير الطبي ونائب رئيس المجلس.
أحببت د. محمد زكريا المدير الإداري للمركز، وهو شاب نشط ودود من كفر الشيخ. رأيت كيف يتعامل مع مبالغ طائل بلا تعقيدات روتينية. وقرأت تقرير الصيانة الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في المركز. وقت الرحيل كانوا يتكلمون عن حلقة «صاحبة السعادة» التي تم تصويرها مع السير مجدي يعقوب منذ أسبوع.
المكان يشهد بأن الإدارة البارعة الأمينة قادرة على تحقيق المعجزات، وقد رأيت مركز الكلى في المنصورة قبل هذا.. في لحظات بعينها كان بوسعي أن أصدق أنني في ألمانيا أو فرنسا مثلاً.
هذا مكان يدعو للتفاؤل. أعرف أن بعض التعليقات (الموضوعية) ستقول لي: «الأمر ليس كما تتصور .. معلوماتك ناقصة .. هناك مخالفات جسيمة» .. الخ.. كالعادة، لكني بصراحة لن أصدق. عندما يتحمس شخص كئيب مثلي لمكان إلى هذا الحد فلابد أنه مكان رائع!