النجم الأمريكي الوسيم المليئ بالمرح «جون كراسينسكي» يبرز لنا مؤخرًا جانبًا عظيمًا من شخصيته، هذا الشاب الذي أمتعنا في أعمال سابقة مثل مسلسل «The Office» مع الممثل الهستيري «ستيف كاريل»، وفي «License to Wed» أمام الراحل العظيم «روبين ويليامز»، الآن يثبت لنا أنه مخرج عظيم أيضًا وقادر على تقديم أعمال أيقونية.

«كراسينسكي» أخرج وقام بدور البطولة في فيلم الإثارة والرعب «مكان هادئ – A Quiet Place»، الذي تدور أحداثه في المستقبل القريب في بلدة زراعية بالولايات المتحدة، حيث تغزو الأرض كائنات مرعبة ذات حس سمعي فائق، وقوة عضلية خارقة، وسرعة حركة عظيمة، وبمجرد أن تسمع صوتًا لأي كائن حي، فإنها تخرج بسرعة البرق من مخابئها تحت الأرض وتلتهم صاحب الصوت قبل أن يرتد إليه طرفه.

في هذه النسخة المرعبة من العالم يتعلم البشر كيفية البقاء على قيد الحياة عبر البقاء صامتين، يتواصلون عبر لغة الإشارة، ويتنازلون عن نمط حياتهم الصاخب، فلا هواتف، ولا أجهزة تليفزيون، ولا سيارات أو قطارات، ولا ألعاب أطفال تومض وتصدر أصواتًا موسيقية، هدوء تام وكفى.

في بيتهم الريفي ووسط مزرعتهم الصغيرة تعيش عائلة «آبوت» المكونة من الأب «لي» – يقوم بدوره كراسينسكي – والأم «إيفيلين» – تلعب دورها الممثلة الإنجليزية البارعة «إيميلي بلنت» – وأولادهم الثلاثة، «بو» الصغير، و«ماركوس» الأوسط، والابنة الكبرى المراهقة الصماء والبكماء «ريجان».

في فيلم ينتمي بشدة لمدرسة «إم نايت شايامالان» ويذكرك للغاية بفيلمه الأشهر «Signs 2002»، يستكشف كراسينسكي قدرة البشر على التكيف ومدى متانة غريزتهم الفطرية على البقاء، التي نجحت في استمرار الجنس البشري على البقاء وسط طبيعة كوكب الأرض القاسية عبر 315 ألف سنة، منذ أن وطأ الإنسان العاقل الأرض، منحدرًا من سلالات بشرية أخرى يعود تاريخها لـمليوني سنة قضاها في التغلب على شتى أنواع التحديات الطبيعية، التي قضت على أجناس أخرى من الحيوانات ومحتها تمامًا من وجه البسيطة.

في فيلم «Interstellar» للمخرج البريطاني «كريستوفر نولان»، يقول رائد الفضاء «دكتور مان» – مات ديمون– لبطل الفيلم رائد الفضاء «كوبر» – ماثيو ماكونهي:

هل تعلم ما هو آخر شيء يراه الإنسان قبل أن يموت؟ إنها صورة أبنائه؛ الأبناء هم أكثر شيء يدفع الإنسان لمحاولة البقاء.

حول هذه الحيلة الغريزية المدمجة عبر مئات الآلاف من السنين في ذاكرة الـDNA البشري، يمضي «A Quiet Place» متتبعًا كيف تضحي أسرة «آبوت» من أجل الأبناء، وكيف يقاومون اليأس والكائنات المتوحشة العنيدة من أجل بقاء أبنائهم أحياء حتى ولو على حساب حياتهم الشخصية.

يستخدم الأب كل قدراته الهندسية – يبدو وكأنه كان مهندسًا قبل الغزو ولكن ذلك شيء غير مؤكد، أم تراه تعلم المهارات الهندسية الأساسية كحيلة للبقاء؟ وكذلك تستخدم الأم قدراتها الطبية – تبدو وكأنها كانت طبيبة قبل الغزو، ولكن ذلك شيء غير مؤكد أيضًا، تراها تعلمت مهارات التطبيب للبقاء؟ يحاول «لي» أن يبتكر لابنته جهازًا سمعيًا ليمكنها من التغلب على إعاقتها والتأقلم من أجل التحديات الخطيرة، وتحاول الأم التي هي على وشك وضع مولود جديد أن تضمن سلامة وليدهما القادم.

تتأقلم العائلة على الرغم من الخسائر الفادحة التي تتكبدها ربما بشكل يومي عبر مواجهات متكررة مع الكائنات الغريبة، وتعود لحياة شبيهة بحياة الإنسان الأول، حيث تعتمد على الجمع والالتقاط وصيد الأسماك والترحال من مكان لمكان بحثًا عن الأدوات النافعة – وسط القرى والمدن التي أتت الكائنات على سكانها جميعا فتركتها مدنًا للأشباح – محاولين اكتشاف نقطة ضعف الكائنات الغريبة للتغلب عليها، واستكشاف طرق وحيل متنوعة لممارسة الحياة بعيدًا عن خطرها الداهم.

في هذا العالم يعود الإنسان ليتعلم من جديد أن بقاءه يخضع لقدرته في البقاء داخل «جماعة» ترتبط معًا بشكل عضوي من أجل البقاء، لا وجود في هذا العالم للأنانية والـ«فردانية» التي تضرب عالمنا الحالي الذي نعيشه.

في تقديري فإن أفضل ما أنجزه الفيلم هو إعادة اكتشاف الإمكانيات المذهلة للممثلة الاستثنائية «إيميلي بلنت»، يكفيك أن تتخيل كيف قامت بأداء مشهد الولادة حيث كان عليها أن تتحمل آلام المخاض دون أن تصدر آهة واحدة! تمكنت بلنت من استخدام كل عضلة في وجهها وجسدها للتعبير عن الألم، وعن غريزتها كأم في تحمل أقسى ألم ممكن من أجل سلامة وليدها.

بلنت أذهلتني من قبل في دورها الثانوي بفيلم «The Devil Wears Prada» أمام «ميريل ستريب» حيث قامت بدور المساعدة باردة المشاعر، أنانية الهوى، التي تقمع مشاعرها من أجل الاحتفاظ بوظيفتها في واحدة من أكبر مجلات الأناقة في العالم. نفس الأمر قامت به مرة أخرى في «A Quiet Place»، كان عليها أن تقمع مشاعرها ولكن هذه المرة ليس من وراء وجه بارد مسطح التعابير، وإنما من خلال اختلاجات ورعشات تطلبت منها مجهودًا أدائيًا جبارًا قامت به لتقدم أفضل أدوارها على الإطلاق.

الفيلم لا يركز كثيرًا على تفاصيل مثل: من أين جاءت تلك الكائنات، وما هي مراحل الخراب التي مرت بكوكب الأرض حتى وصلنا لتلك اللحظة التي تحياها العائلة الصغيرة، ولا يعبأ بتقديم بطولات عظيمة لـ«Super Heroes» من أبطال خارقين أو لجنود أمريكيين تجيشهم الحكومة من أجل القضاء على الغزو، وإنما ركز على بطولة عائلة عادية تسعى من أجل الحياة يومًا آخر.

يعيد الفيلم النظر في مفاهيم الحب والعطاء واليأس والغضب والتضحية والألم، أشعر به كمحاولة للإبطاء وسط عالمنا ذي الإيقاع السريع، كي نفهم كيف وصلنا كبشر إلى هذه النقطة بعد مئات الآلاف من السنين عشناها على هذا الكوكب، وما هي المهارات الأساسية التي ساعدتنا على ذلك، وكيف أن تلك المهارات نفقدها يومًا بعد يوم في ظل تفكك وتفسخ المجتمعات الرأسمالية والمادية، وكيف عودتنا للوحدات الاجتماعية وعلى رأسها وحدة «الأسرة» هو الضامن الوحيد لبقائنا واستمرارنا.

فيلم «A Quiet Place» يقدم أفكارًا فلسفية عميقة أكثر من كونه فيلم رعب مسليًا، وسيترك داخلك انطباعًا عميقًا، وأسئلة كثيرة ستظل تفكر في إجابتها وقتًا طويلًا، وكذلك امتنانًا عميقًا لجماعتنا البشرية، التي بدون تماسكها لم نكن أنا وأنت لنحيا حتى هذه اللحظة التي نعيشها، أنا لأكتب وأنت لتقرأ مثلًا.