«طريق طويل ضيق»، كما تقول الأغنية الشعبية، ذلك الذي مرت به مسيرة الشعب التركي، ليؤسس جمهورية ديموقراطية لا يحكمها سوى إرادته الحرة. منذ حرب الاستقلال الأولى ونظام الحزب الواحد خاض الشعب التجربة تلو التجربة، وكل حكومة ديمقراطية كانت تأتي بها الانتخابات، كان ينقلب عليها العساكر. إلا أن التاريخ يتحرك دوما للأمام. فمن انقلاب دموي أعدم رئيس الحكومة المنتخب ومناصريه، إلى انقلاب وصائي أغلق المجال السياسي وسجن آلاف المتظاهرين ضده أو نفاهم، ثم انقلاب أبيض أجبر الحكومة – التي لم تكن على هواه – على الاستقالة دون إراقة الدماء، نهاية بمحاولة انقلاب فاشلة تصدى لها الشعب في الشوارع وأسقطها. مرة تلو مرة، وبالتجربة والخطأ، تعلم الشعب التركي، ووعى موعظة الأيام وحكمتها. تحركت عجلة التاريخ للأمام. بعد أربعة انقلابات ناجحة، فشل الانقلاب العسكري الخامس.


ترويض الوحش

في اللحظة التي وصل العدالة والتنمية فيها إلى سدة الحكم، وعلى مدار التاريخ التركي، كان الخطر الأكبر على الديموقراطية يكمن في مؤسسة الوصاية العسكرية، التي فرضت نفسها حامية للدستور التركي ولعلمانية الدولة. كان هدف العدالة والتنمية الأسمى والأهم القضاء على هذه الوصاية. أن يحكم الشعب نفسه بنفسه. لم يكن باستطاعة العدالة والتنمية نزع أنياب التنين في معركة واحدة. نحن هنا نتكلم عن واحد من أقوى جيوش العالم، صاحب ثاني أكبر قوة برية في حلف الناتو، وصاحب تاريخ طويل من التدخلات السياسية وشبكات المصالح العميقة والمتشعبة. مشى العدالة والتنمية على عدة مسارات متوازية نحو ترويض وحش الآلة العسكرية وإعادة هيكلتها.

ابتداءً من طريق استفتاءات شعبية أفقدت الجيش حقه الدستوري – الذي أثبته الجيش في الدستور الذي صاغه عقب انقلابه عام 1980 – في ممارسة الوصاية بصفته حامي العلمانية الكمالية مستغلًا في ذلك دعوى تطبيق معايير الانضمام للاتحاد الأوروبي، وثانيًا عن طريق إحالة كبار القادة العسكريين – المنتمين لمدرسة الهيمنة والوصائية – إلى التقاعد كلما سنحت الفرصة واستبدالهم بغيرهم، وأخيرًا كشف وإحباط مؤامرتين للانقلاب على حكومة العدالة والتنمية – «أرجنكون» و«المطرقة» – وإحالة كبار قادة الجيش المتورطين فيهما للمحاكمة. وللمفارقة، كان حليف أردوغان الذي ساعده على كشف الموامرتين هو جماعة فتح الله كولن!


ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه

الشرطة التركية، الجيش التركي، انقلاب، اعتقال
الشرطة التركية توقف أحد الجنود الذين حاولوا اقتحام وزارة الدفاع – أنقرة – تركيا – 16 يوليو/تموز 2016 (مصدر الصورة: Sinan Yiter – Anadolu Agency)

قبيل انتخابات يونيو/حزيران 2015 طلب داود أوغلو من رئيس جهاز الاستخبارات التركية – حاقان فيدان- ذو الجماهيرية الكبيرة، الاستقالة من مركزه والترشح على رأس قوائم العدالة والتنمية، ليستفيد الحزب من الشعبية التي يملكها فيدان في الانتخابات. لم يرتح أردوغان لترك فيدان منصبه في المخابرات، رفض القرار واعترض عليه علانية. في النهاية سحب فيدان طلب ترشحه واستقالته، وعاد على رأس الجهاز الحيوي الذي أبى أردوغان أن يترأسه سوى فيدان. ربما كان أردوغان يومها بعيد النظر.

إن لم تستطع أن تمتلك السلاح الذي بيد عدوك أو تنزعه منه، اصنع لنفسك سلاحك الموازي. في مقابل فوهات الجيش المسلطة على رؤوس السياسيين المنتخبين، قرر أردوغان أن يصنع أجهزة أمنية موازية، قادرة على الدفاع عن الديموقراطية الوليدة، وأن يحكم السيطرة عليها. طهر جهاز المخابرات التركي الفاشل واختار لرئاسته فيدان الكفء الذي يحوز على ثقته الكاملة. حول فيدان الجهاز لواحد من أنجح أجهزة المخابرات في العالم مستفيدًا من الموارد الواسعة التي قدمها له أردوغان. أما وزارة الداخلية فكانت لها قصة أخرى. عقب محاولة الانقلاب القضائي في نوفمبر/ تشرين الثاني عمد أردوغان إلى إجراء تغيير حكومي واسع عين فيه مستشاره إفكان آلا – الذي لم يكن نائبا وقتها في البرلمان – وزيرا للداخلية. أشرف آلا على أوسع حركة تطهير للوزارة من أتباع جماعة فتح الله كولن. آلاف الضباط والجنود تمت إعادة توزيعهم أو إنهاء خدماتهم أو القبض عليهم. أحكم آلا قبضته على الجهاز الأمني. لاحقا، أثبتت الأيام أن ثقة أردوغان في فيدان وآلا كانت في محلها. في الليلة الماضية كان لقوات الشرطة، والقوات الخاصة، وجهاز المخابرات التركي الدور الحيوي في مواجهة الانقلاب. تصدت القوات الأمنية لضباط الجيش المنقلبين، هذه المرة ليست كما المرات السابقة، أصبح بيد حكومة الشعب المنتخبة أجهزة أمنية وسلاح قادر على الردع والمواجهة، في مقابل السلاح الذي أدمن الانقلابات بشكل مزمن. تم تأمين الرئيس وأعضاء الحكومة والبرلمان، حررت مراكز الدولة الحيوية التي استولى عليها جنود الانقلاب، وألقي القبض على العساكر المنقلبين بعد ليلة ليلاء. في اليوم التالي قامت قوات الأمن بأكبر حملة اعتقال بحق المشتبه في مشاركتهم في الانقلاب. 3000 عسكري ومثلهم من السلك القضائي – أحدهم قاض في المحكمة الدستورية – تمت إحالتهم للنيابة للتحقيق معهم.


ليثقَ المدني بالمدني

ليعلم كل من تسول له نفسه التطاول على البرلمان أو إرادة شعبنا في المستقبل أنه حتمًا سيواجه إرادة فولاذية من مجلس الأمة.
البيان المشترك لأحزاب البرلمان التركي الأربعة.

بخلاف المشهد البذيء الذي ارتضت فيه النخبة «المدنية» المصرية أن تكون مطية يركبها القائد العسكري ليتم انقلابه، وقفت المعارضة التركية صفًا واحدًا مع الحكومة في وجه الانقلاب. حزب الشعب الكمالي صاحب التاريخ الملطخ بعار مساندة الانقلابات، وحزب الحركة القومية المقدِّس للمؤسسة العسكرية، وحزب الشعوب الكردي الذي يعد ذراعًا سياسيًا لحزب العمال الكردستاني الموصوم بالإرهاب، كل هذه الأحزاب التي تبادلت مع حكومة العدالة والتنمية الهجوم والتلاسن والاتهامات بالفساد والمشاركة في المؤامرات، بل وحتى الضرب والمشاجرات تحت قبة البرلمان، كلها قررت أن تصون شرفها وأن تقف صفًا واحدًا، كمدنيين منتخبين ممثلين لشعبهم، أمام انقلاب العسكر الوصائي. حتى القنوات الإعلامية المنشغلة بسب أردوغان صباح مساء، واعتاد هو مهاجمتها، كلها وقفت ضد الانقلاب. سيبقى مشهد طائرات جيش الانقلاب وهي تقصف «مجلس الأمة»، رمز إرادتها وشرفها، بينما يعتصم نواب الشعب داخله، متمسكين بإرادة الأمة الحرة، مشهدًا مهيبًا لن ينمحي بسهولة من ذاكرة الأتراك، وذاكرة الإنسانية.


رجل طويل شجاع

رجب طيب أردوغان، تركيا، حزب العدالة والتنمية، انقلاب
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طريقه لإلقاء خطاب جماهيري في مطار إسطنبول صبيحة ليلة الانقلاب العسكري الفاشل – إسطنبول – تركيا 16 يوليو/تموز 2016. (مصدر الصورة: Elif Öztürk – Anadolu Agency)

ربما هو متهور، ربما هو متسلط، ربما هو عنيد، لكنه حتمًا زعيم شجاع قلما يجود الزمان بمثله. لم يذهب أردوغان إلى مخبأ تحت الأرض، أو يطلب اللجوء إلى دولة أجنبية. أغلقت في وجهه الشاشات فخرج ليخاطب شعبه عبر هاتف محمول، دعاهم للنزول دفاعًا عن حريتهم، وإرادتهم، وعن أحلامهم. أخذ قرارًا بالانضمام إلى الشعب والعودة إلى مدينته الكبرى، إسطنبول. كان قرارًا جريئًا حد التهور في ظل مجال جوي تسيح فيه المقاتلات المنضوية تحت الانقلاب. صاروخ منها كافٍ لإسقاط طائرته. لكن أين يذهب المغرم بالشعر إن لم تكن إسطنبول. هنا البدايات، قاسم باشا، لعب الكرة في الشوارع، بيع السميط على الأرصفة، حب أمينة، ومبنى البلدية، وشرفة العدالة والتنمية. هنا حفظت الدروب خطواته، وهتفت الجماهير باسمه، وفي لحظة الخطر كانت في انتظاره في المطار. وقف ثابتًا، لم يرتجف، منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها إلى السياسة «ارتدى كفنه». دعا الرئيس الشعب للبقاء في الميادين، لم يحِنْ موعد الانصراف و«كنس الشوارع» بعد، الموجة الأولى من الانقلاب قد كُسرت، لكن قد يكون لها ما بعدها. لم يتراجع أردوغان أو يتردد، نزل إلى الشوارع وسط الجماهير، صلى الجنازة على الشهداء، وقاد بنفسه تطهيرًا ثوريًا.


لسنا في جمهوريات الموز

كانت هذه كلمات عبد الله جول الرئيس التركي السابق وهو يدعو الشعب للنزول للميادين ليسترد حريته من «حفنة اللصوص». لا تتم الانقلابات إلا على الأنظمة الفاشلة. رغم المخاطر والوضع المهتز الذي تمر به تركيا خلال السنوات الماضية، إلا أنه ليس بالإمكان وصف أداء العدالة والتنمية بغير النجاح، والنجاح المبهر. خلال 13 سنة غدت تركيا البائسة الغارقة في الديون والنفايات واحدة من أكبر اقتصادات العالم، تضاعف معدل دخل الفرد، ازدادت فرص العمل، الهواء صار أنظف والماء أنقى، المدارس والمستشفيات والجسور والطرق والمدن الصناعية والقرى السياحية والجامعات ومراكز الأبحاث، أنّى التفت في كل زاوية نجاح للعدالة والتنمية، وعلى مدى البصر تركيا جديدة. أحمق وساذج من يريد لشعب التخلي عن كل هذا ليعود لتركيا القديمة البائسة.


الذئاب لا ترقص في السيرك

تركيا ليست دولة إفريقية أو من أمريكا اللاتينية ليتم فيها انقلاب في منتصف الليل.
الأسود أقوى من الذئاب، إلا أنك لا ترى ذئبًا يرقص في السيرك.

ظهر وزير العمل، والقيادي البارز في العدالة والتنمية سليمان صويلو على شاشة القناة الرسمية البارحة، داعيًا الشعب إلى مواجهة الانقلاب ومبشرًا إياهم بقرب اندحاره. وقف صويلو يتحدث بجوار مذيعة محمرة العينين كانت قد أجبرت سابقا على تلاوة بيان انقلاب الجيش، وحول الشخصين كان يحتشد العشرات من جماهير الشعب التي اقتحمت التليفزيون التركي وأجبرت الآلات العسكرية على الانسحاب. وفي لقطة تجول فيها المصور بالكاميرا بين هذه الجماهير رفع شاب تركي «شعار رابعة»، الذي كان معبرًا للغاية عن اللحظة الراهنة، بينما صنع آخر بيده «رمز الذئب». يعد رمز الذئب شعارًا شهيرًا للقوميين الأتراك، شعار يعبر عن الشعب التركي القوي والجريء، والمفترس إذا لزم الأمر، كما الذئاب.

استجاب الملايين من الشعب التركي لنداء رئيسه الذي انتخبه، انتفضوا من سرائرهم ونزلوا إلى الشوارع – بعضهم بملابس النوم – ليستعيدوا حريتهم التي يريد العسكر سلبها منهم. مئذنة تلو مذنة، ارتفعت التكبيرات والأذان. ضجت الشوارع «يا الله، بسم الله، الله أكبر». قرعت ربات البيوت الآنية المعدنية، علا الهتاف من النوافذ «أردوغان .. أردوغان»، حتى من يبغضونه ربما هتفوا باسمه تلك الليلة. لم يعد الاسم شخصا، صار فكرة، رمزا لحرية الشعب وإرادته. أخذوا ما تيسر لهم من بيوتهم، بعضهم لديه مسدس أو رشاش، الآخر جمع أسلحة بيضاء، والبعض اكتفى بعصا ربما نزعها من مكنسة قديمة. كل من يحبهم الشعب التركي ويقدرهم من رجال ومؤسسات يدعونه للنزول في الميادين، الرئيس، رئيس الوزراء، عبد الله جول، داود أوغلو، حتى وقف هيئة الإغاثة الإنسانية (i.H.H) أرسل رسائلا للشعب يدعوه لمواجهة الانقلاب. نزلت الجماهير إلى الشوارع غاضبة مستميتة، لن تسلب حريتنا هذه المرة. على دبابات العسكر أن تمر على جثثنا قبل أن تسحق كرامتنا. أخرجوا الجنود المنقلبين من دباباتهم وأوسعوهم ضربا وركلا، حتى تورمت وجوههم ودمت. ألقى صاحب السلطة الأصيلة المدني القبض على العسكري المغتصب. منظر لم تعتده منطقة أدمنت مشهد العسكريين وهم يوجهون بنادقهم، المشتراة من مال الشعب وقوته وقوت عياله، لرؤوس المدنيين المطأطئين في وضع القرفصاء. صنع الأتراك التاريخ، وأبوا أن يرقصوا كما يرقص غيرهم في أقفاص السيرك. في برد الليل وظلمته، كان الشعب نور الشوارع ودفأها، وعندما وقف الحديد أمام الإنسان، كانوا هم انتصار المعنى، وكانوا لهذا العالم الجدوى وسط العبث.


اعتاد أردوغان إلقاء الشعر في خطبه الجماهيرية، أحيانا كان يغني مقطعًا من أغنية شعبية قديمة. تقول كلمات إحدى تلك الأغاني، التي اعتاد أن يرددها وسط الحشود الملتفة حوله والمتعلقة به:

مشينا معا في هذه الطرقات ..

وتحت المطر المنهمر، تبللنا معا ..

كل ما أسمع من أغنيات ..

كل شيء حولي ..

يذكرني بكم.