هلّت علينا الذكرى الثامنة والستون للنكبة وسط موجةٍ غير مسبوقةٍ من التصهين «العربي» وارتفاعٍ ليس له مثيل لسقف التطبيع مع كيان الإحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من وجود موجات سابقة من هذه الحالة، كالتي أعقبت اتفاقية كامب ديفيد، وكموجة ما بعد أوسلو حيث كان الاتفاق سيئ الذكر بمثابة المبرر الرئيس عند المنادين بالتطبيع مع كيان الاحتلال، إلا أن الموجة التي نعيشها هذه الأيام تفوق نظيراتها كمًّا وكيفًا. وهي موجة لم تقف عند حد التطبيع السري من قِبَل النخب الحاكمة التي كانت تحاول حفظ ماء وجهها أمام شعوبها، التي ما زالت ترى في إسرائيل عدوها الأول، بل تتم بطريقة معلنة وتسوّق للرأي العام بكل تبجح.


حكام خونة

لطالما تغنى كثيرًا حكامُ العرب والمثقفون الليبراليون عن ضرورة المضي قدمًا في عملية السلام الشامل مع إسرائيل في أعقاب كامب ديفيد، وازدادت هذه النغمة علوًا بعد اتفاق أوسلو سيئ السمعة والذي اعتُبر من قبَلهم بمثابة قبول أصحاب الأرض بالأمر الواقع واعترافهم بإسرائيل وتخليهم عن حقوقهم. وفي هذا السياق تم تبني الرؤية الأمريكية للصراع العربي الإسرائيلي ولمشاكل المنطقة وحلولها، فلا حل أمام العرب سوى إنهاء هذا الصراع، ولو على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، لإرساء الاستقرار في المنطقة وتحقيق التنمية الاقتصادية لمجتمعاتهم.

تبني الحكام العرب الرؤية الأمريكية للصراع العربي الإسرائيلي ولمشاكل المنطقة، فلا حل سوى إنهاء هذا الصراع، ولو على حساب حقوق الشعب الفلسطيني

إلا أن تطورًا غير مسبوق في هذه النظرة أطلَّ علينا بها ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة في لقائه مع الحاخام اليهودي مارك شناير رئيس مؤسسة «إثنك أندرستاندنغ» أثناء استضافته بقصر المنامة، حيث اعتبر الأول إسرائيل دولةً صديقة وأنها الحليف الأول لدول الخليج العربي في مواجهة منظمة حزب الله «الإرهابية» والمدّ الإيراني في المنطقة. وقد أشار إلى أن الوجود الإيراني لم يعد يشكّل عقبة فقط، بل هو فرصة مناسبة للسلام بين إسرائيل والدول العربية، فعدوهما أصبح واحدًا. وبالتأكيد، لم يكن تصنيف ملك البحرين لحزب الله كمنظمة إرهابية بسبب دور الحزب في سوريا. فملك البحرين، الذي كان قد أهدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «سيف النصر الدمشقي» خلال لقائه به في منتجع سوتشي بالجنوب الروسي فبراير الماضي، كان قد أشاد بالدور الروسي في سوريا متمنيًا النصر لروسيا وداعيًا العالم أجمع للتعاون معها لتثبيت الأمن والاستقرار في سوريا. وبالتالي فتصنيف الحزب، وفي هذا السياق، يرجع لدوره السابق في محاربة كيان الاحتلال؛ الأمر الذي يذكّرنا بالحملة الطائفية التي أطلقها الإعلام السعودي في مطلع الألفية الثانية على الحزب بشكل خاص والشيعة بشكل عام، حيث دائمًا ما كان ينظر حكام الخليج لحزب الله باعتباره المهدد الأول لعروشهم متناسين أن سياساتهم العفنة وتواطئهم ضد شعوبهم هو السبب الأول لزوال هذه العروش.

لم يختلف الأمر كثيرًا لدى الجانب السعودي، ففي مطلع مايو الجاري أعلن الأمير تركي الفيصل، مدير المخابرات السعودية وسفيرها السابق في أمريكا في لقائه بالجنرال الإسرائيلي يعقوب عميدور، مستشار الأمن القومي السابق بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أن السلام مع إسرائيل هو حصانة للعرب وأنه بالعقول العربية والمال اليهودي يمكننا المضي قدمًا بصورة جيدة، مضيفًا: وفكروا ما يمكن تحقيقه في المواضيع العلمية والتكنولوجية والمسائل الإنسانية، والعديد من الأمور الأخرى التي بحاجة إلى النظر إليها. وبالطبع لم يخلُ الحوار من ذكر الأهداف المشتركة التي تجمع «العرب» وإسرائيل والتي يأتي في مقدمتها العداوة لحزب الله الذي يهدد أمن واستقرار إسرائيل، بحسب ما قالوه. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يعرب فيها الأمير عن مشاعره الحميمية والمشفقة على إسرائيل، ففي اجتماع عقد بميونخ في 2014 أطرى الأمير بشكلٍ واضح ومباشر على وزيرة العدل الإسرائيلية تسيبي ليفني وعلى رؤيتها للسلام الإسرائيلي الفلسطيني. ولا ننسى أيضًا في هذا السياق تصريحه الشهير «نحن لا نحبذ أن تكون إسرائيل دولة معزولة في المنطقة»، عند لقائه دوري جولد، مدير عام خارجية العدو الإسرائيلي.

اعتبر «حمد بن عيسى» إسرائيل دولة صديقة وأنها الحليف الأول لدول الخليج العربي في مواجهة منظمة حزب الله «الإرهابية» والمدّ الإيراني في المنطقة

لم تكن تصريحات الفيصل إلا معبرًا عن الرؤية السعودية لإسرائيل، حيث تم الكشف مؤخرًا عن التعاون العسكري المشترك بين كيان العدو والسعودية في البحر الأحمر منذ العام 2014، وتم الكشف أيضًا عن أسماء جنرالات وضباط سعوديين شاركوا بدورات عسكرية بحيفا بفلسطين المحتلة عام 2015. ويبدو من الواضح أن السعودية وإسرائيل، وبعد أن أدارت الولايات المتحدة ظهرها للمنطقة، وجدتا في بعضهما البعض الزوج المناسب بحيث تبقى عداوة حزب الله وإيران هي المبرر المعلن لهذا العشق الحرام الذي يجمع بينهما.

في 27 تشرين ثاني/ نوفمبر 2015، وافقت دولة الإمارات على فتح مكتب بعثة دبلوماسية إسرائيلية في أبو ظبي، في تتويجٍ للعلاقات السرية التي جمعت البلدين في السابق. فقد أعلنت مواقع إسرائيلية عدّة بعلم حكومة دولة الإمارات مسبقًا بالعدوان على قطاع غزة في يوليو 2014، بالإضافة للتعاون الاقتصادي بين الدولتين. ففي 2008 وافقت سلطات أبو ظبي على أن تدفع ما قيمته 816 مليون دولار لتركيب أنظمة أمان لحماية منشآت النفط والغاز في الإمارة، وذلك عبر الشراكة بين شركتين إماراتيتين وهما ATS و AIS وبين شركة AGT المملوكة لرجل المخابرات الإسرائيلية السابق ماتي كوتشافي.


السيسي راعي التصهين العربي، ومصر السباقة دائمًا

لم تحلم إسرائيل في أي يومٍ من الأيام بقائد لمصر مثل عبد الفتاح السيسي؛ الأمر الذي دعا صحيفة يديعوت احرنوت لأن تكتب ذات مرة أنه على تل أبيب أن تصلي من أجل السيسي في ظل المشاكل الاقتصادية التي تواجهه. فالسيسي، الكنز الإستراتيجي كما وصفته معاريف، لم ينس إغراق نظيره رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بعبارات الود والغرام واصفًا إياه بأنه «زعيم له قوة جبارة لا تمكنه فقط من قيادة دولته إسرائيل، بل وتعزيز وتطوير المنطقة كلها والعالم» خلال لقائه قادة التنظيمات اليهودية الأمريكية في فبراير الماضي، وهي تنظيمات معبرة عن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة المعادي للعرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، وذلك في الوقت الذي تعرّض فيه نتنياهو لحملة انتقادات حادة من قبل النخب الإسرائيلية التي اتهمته بالفشل والمسؤولية عن تفجير انتفاضة القدس؛ بسبب تطرف مواقفه السياسية وحرصه على مراعاة مصالحه السياسية ذات البعد الشخصي. وبالطبع لم يفت الرئيس المغوار، في نظر أنصاره، أن يرسل تطميناته لأصدقائه في إسرائيل منذ أيام أثناء احتفالهم بعيد «الاستقلال»، كما أسماه في خطابه عن السلام مع إسرائيل. يبدو أن الرئيس السيسي يتبنى الرؤية الصهيونية التي ترى العرب مغتصبين للأرض الفلسطينية؛ لذلك سمّى النكبة بعيد الاستقلال.

نتنياهو زعيم له قوة جبارة لا تمكنه فقط من قيادة دولته إسرائيل، بل وتعزيز وتطوير المنطقة كلها والعالم
عبد الفتاح السيسي – رئيس جمهورية مصر العربية

كما أبدى السيسي استعداده التام لإعطاء إسرائيل كل الضمانات من أجل أمنها، ويأتي ذلك بعد ثلاثة أيام فقط من قطع القاهرة للكهرباء عن غزة، حيث قطعت القاهرة آخر كابل كهرباء يصل إلى جنوب القطاع من مصر، والذي كان يغذي رفح وخان يونس؛ وبالتالي غرق القطاع في الظلام الدامس، في الوقت الذي لا يمكن فيه أن تتهم الحكومة الفلسطينية في غزة إسرائيل بأنها السبب في ذلك. وبحسب مراسل موقع مان بارلي، فإن مسئولية انقطاع التيار الكهربائي تتحملها مصر بشكل كامل، وهي أيضًا مسئولة عن معاناة مناطق رفح على الحدود المصرية، وخان يونس المتاخمة لواحدة من أكبر المستوطنات الإسرائيلية «جوش كاتيف»، من انقطاع تام للكهرباء. وقال الموقع، إن الخط الأول قطع منذ أسبوعين؛ ما أدى لتقليل فترات استخدام استهلاك الكهرباء إلى 6 ساعات فقط في اليوم لكل مناطق وأحياء القطاع، لكن أضيفت مشكلة الكهرباء إلى مشاكل أخرى يعاني منها القطاع، الذي عانى من فترات تخفيف أحمال كبيرة معظم أيام الشهر الماضي؛ بسبب خضوع خط الكهرباء الواصل إلى القطاع من إسرائيل إلى الصيانة.

يائير جولان نائب رئيس أركان جيش الاحتلال لم يتردد بالتأكيد على أن نظام عبد الفتاح السيسي يشارك إسرائيل في حصارها قطاع غزة

وفي فبراير الماضي كانت الحكومة المصرية قد قامت بإغراق أنفاق غزة بناء على طلب إسرائيل. حتى أن يائير جولان نائب رئيس أركان جيش الاحتلال لم يتردد بالتأكيد على أن نظام عبد الفتاح السيسي ومنذ سيطرته على الحكم في مصر يشارك إسرائيل في حصارها قطاع غزة وسط سكوتٍ تام من الجانب المصري على مثل هذه التصريحات. ولا يمكن أن ننسى قرار الحكومة المصرية في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 بالتصويت لأول مرة لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة عندما دعمت ترشح إسرائيل لعضوية لجنة الأمم المتحدة لشؤون الاستخدامات السلمية للفضاء الخارجي، في الوقت الذي كانت تشهد فيه الضفة الغربية الانتفاضة الثالثة. وكان قد سبق أن عاودت إسرائيل فتح سفارتها في القاهرة بعد أربع سنوات من الإغلاق، وذلك بعد أن قامت القاهرة في مطلع العام 2015 بتعيين سفيرها لدى دولة الاحتلال بعد أن تم سحبه من قبل الرئيس المعزول محمد مرسي في 2012 بعد الهجوم العسكري لإسرائيل على قطاع غزة.

ورغم كل هذه المواقف المليئة بالعار والخيانة لا يتوقف إعلام السيسي عن وصم كل معارض لهذا النظام المتصهين بأنه عميل وخائن وأنه على علاقات بالمخابرات الإسرائيلية، ربما عليهم تكريم من يصفونهم بالخيانة بدلًا من وصلات الردح التي برعوا فيها.


ردة كنسية

لم يكن من الغريب أن يسير بابا الكنيسة القبطية تواضروس الثاني، وهو أحد الذين تلوثت أيديهم بدماء المصريين، على نهج الرئيس السيسي. فقد قام تواضروس الثاني في ديسمبر الماضي بزيارة القدس مخالفًا قرار المجمع المقدس للكنيسة والذي يمنع أي مسيحي مصري بزيارة القدس حتى تحريرها وأن من يخالف هذا القرار سيلقى الطرد والحرمان. تواضروس الذي لم يُلق أي اهتمام لمآل تحالف الكنيسة مع نظام السيسي ومشاركته في انقلاب الثالث من يوليو، ووضع المجتمع المسيحي موضع الاتهام أمام فئات كثيرة من الشعب، لم يلق بالًا أيضًا لما يمكن أن يلقاه مسيحيو مصر من اتهامات بالتواطؤ والعمالة.

وفي محاولة بائسة، حاول البعض الدفاع عما قام به تواضروس الثاني، معللين ذلك أن الزيارة ليست سياسية ولكنها رعوية؛ أي لصلاة الجنازة على الأنبا إبراهام مطران الكرسي الأورشليمي والشرق الأدنى. والسؤال هنا هو عن معنى المقاطعة أصلًا، وهل يمكننا من هذا المنطلق الفصل بين السياحة الدينية وبين التطبيع مع كيان الاحتلال بحجة أنه شأن سياسي؟، إن كلامًا كهذا هو نفس المنطق الإسرائيلي في رفعه الحصار عن القدس عبر إخراج الشأن الديني والذهاب للمسجد الأقصى خارج المقاطعة.


الرهان الخاسر على الزمن

قرار المجمع المقدس للكنيسة يمنع أي مسيحي مصري بزيارة القدس حتى تحريرها وأن من يخالف هذا القرار سيلقى الطرد والحرمان

راهنت إسرائيل على جيل ما بعد أوسلو، ذلك الجيل الذي ولد بعد اتفاقية أوسلو والتي روج لها على أنها الحل وأنها نهاية «الصراع» الفلسطيني-الإسرائيلي، راهنت على الزمن وأنه كفيلٌ بتدجين هذا الجيل. ولكن وفي الوقت الذي تخلت فيه الحكومات العربية عن القضية الفلسطينية نشأ جيل ينافس الأجيال التي سبقته في النضال، فجيل ما بعد أوسلو هو الجيل الذي حمل السكاكين في الانتفاضة الثالثة، وهو الجيل الذي ما زال يتمسك بحق العودة الكامل وما زال يحلم بزوال دولة الاحتلال الإسرائيلي. وإذ تراهن إسرائيل اليوم على موجات التصهين العربي التي تقودها الحكومات العربية جهارًا نهارًا، فلا شك أنه رهان خاسر كالرهان السابق، فالقضية الفلسطينية لم تكن يومًا قضية الفلسطينيين بل هي قضية الشعوب العربية أجمع التي ما زالت تناضل ضد حكوماتها التي مارست كل أنواع القمع.