يعد كتاب «عبد الناصر وثورة إيران» من الكتب المهمة التي أرخت للعلاقة بين مصر الناصرية والمعارضة الإيرانية للشاه محمد رضا بهلوي، ومما يُكسب الكتاب مزيدًا من الأهمية أنه كُتب على يد رجل المخابرات المصري، فتحي الديب، وهو يحكي شهادته على هذه الأحداث من واقع مشاركته بها حينما كان سفيرًا للقاهرة لدى سويسرا، ويستشهد بالوثائق المتعلقة بتلك الوقائع، ويذكر في المقدمة أن الدعم المصري للثوار الإيرانيين ظل سرًا لفترة طويلة.

والكتاب من إصدار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لمؤسسة الأهرام عام 2000، ويتكون من أربعة فصول وخاتمة ثم الملاحق التي تتضمن عشر وثائق ورد ذكرها في الفصول الأربعة.

في الفصل الأول بعنوان «إيران والقومية العربية» يشرح الديب أن سياسة الشاه محمد رضا بهلوي تذبذبت ما بين العداء السافر للقومية العربية ومحاولات المناورة لتخفيف حدة العداء، وأنه تبنى سياسة معادية للقضايا العربية بعد إزاحة رئيس الوزراء الإيراني، محمد مصدق، عن السلطة عام 1953، وارتبط بإسرائيل وفتح الباب أمام شركاتها ودبلوماسييها واستقبل زعماءها في بلاده ونشطت خلال عهده الوكالة اليهودية في اجتذاب المهاجرين والتبرعات.

وارتبط كذلك بحلف السنتو (حلف بغداد) للحصول على الدعم الأمريكي والبريطاني مقابل تأمين المصالح الاستعمارية في المنطقة، بينما كانت مصر تناهض فكرة الأحلاف لأنها تسهم في زيادة حدة الحرب الباردة وتناقض سياسة عدم الانحياز وتمنح الأمريكيين موطئ قدم في الخليج العربي، لذلك عارضت هذا المشروع بشدة.

كما عمد الشاه إلى تعبئة شعبه ضد القومية العربية، وإثارة قضايا الحدود من حين لآخر كلما رغب في تحويل الاهتمام الشعبي الإيراني عن المشاكل الداخلية؛ فكان يطالب بتعديل الحدود مع العراق في منطقة شط العرب، ويثير مسألة ضم دولة البحرين، ويعمل على إيقاع الفرقة بين الدول العربية كما حدث حين حاول التنسيق مع المملكة الأردنية للتصدي لتأثيرات نجاح ثورة 1958 في العراق.

ويرصد الكتاب سياسة التعتيم التي فرضها نظام الشاه على شعبه لمنعه من التأثر بتيار القومية العربية والتحركات المصرية في الساحتين العربية والأفريقية ووسط دول العالم الثالث، وازداد خوف الشاه من هذا التأثير عقب إزاحة النظام الملكي العراقي عام 1958، ومع إحكام الشاه سيطرته على الجيش بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، ظل الحراك الطلابي مصدرًا لإزعاج النظام، وتأثرت تلك القاعدة الشبابية بنظام ثورة يوليو في مصر، لا سيما الطلاب الإيرانيين في الخارج الذين احتكوا بالتجمعات الطلابية العربية ونقلوا الروح الثورية إلى الداخل الإيراني.

اتصال الثوار الإيرانيين بعبد الناصر

ويأتي الفصل الثاني بعنوان «اتصال الثوار الإيرانيين بعبد الناصر» ويتحدث عن بداية توجه الثوار الإيرانيين إلى القاهرة بعد أن أصبحت قبلة للثوار الباحثين عن الدعم ضد الاستعمار، بسبب نجاحها في دعم ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي.

ويحكي الديب أن عبد الناصر عينه سفيرًا لدى سويسرا ليستفيد من موقعها المحايد ويكون بمثابة مركز اتصال متقدم، ومن هناك نفذ مهمته الرئيسية الأولى بدعم الجزائريين في مفاوضاتهم مع فرنسا، ليتلقى بعدها اتصالات من الحركات التحررية المختلفة وكان الإيرانيون على رأسهم، حيث تواصل معه لهذا الغرض محمد ناصر قاشقاي، زعيم قبائل قاشقاي جنوب غربي إيران، الذي فر بعد فشل انتفاضته العسكرية ضد الشاه، والتقاه في فبراير/شباط 1962، وشرح له تنسيقه مع قبائل البختيارية والأكراد والتجمعات الطلابية الإيرانية في الخارج بخاصة الجبهة الوطنية، وطلب إمداده بالسلاح والأموال وتدريب أتباعه من أجل بدء ثورة مسلحة ضد الشاه.

وبعد تجميع المعلومات اللازمة سافر الديب إلى القاهرة ليعرض الأمر على على عبد الناصر الذي رفض التجاوب مع العرض مباشرة وأوصى بدراسة الأمر بشكل مستفيض والإبقاء على تواصل مع زعيم قاشقاي، والتركيز على التجمع الطلابي الإيراني في أوروبا باعتباره يجسد القاعدة الشعبية العريضة ولارتباطه الواضح بالقوى الوطنية في إيران.

ويذكر أنه التقى في 12 أبريل/نيسان 1963 في مقر السفارة المصرية بعلي شريفيان، المندوب عن حركة الحرية الإيرانية، أحد مكونات الجبهة الوطنية، موضحًا أن الجبهة باتت معزولة وفقدت ثقة الشارع ورجال الدين، وأن حركة الحرية تسعى للجمع بين السياسيين المخلصين ورجال الدين بهدف حشد قوى الشعب خلفها، وطلب المساعدة في إعداد بعض الشباب الإيراني لشن حرب عصابات ضد النظام وتجهيزهم لتولي زمام الحكم لاحقًا، وتطوير الإذاعة الموجهة إلى الشعب الإيراني من القاهرة، وتركيز الصحافة على القضية الإيرانية وكشف مخططات الشاه.

وعقب لقائه مع شريفيان، تلقى الديب عروضًا مماثلة من طلاب آخرين في الجبهة الوطنية الإيرانية في الخارج، عرضوا عليه مخططاتهم النضالية وطلبوا دعم القاهرة، وفي منتصف يوليو/تموز 1963، التقى بمقر السفارة ممثل الجبهة الوطنية، حسن مسالي، فطلب منه أيضًا دعمه إعلاميًا والمساعدة في تنفيذ ثورة مسلحة، لإزاحة الشاه وإقامة نظام سياسي بعيد عن الأحلاف العسكرية وإسرائيل، فنظم الديب في اليوم التالي لقاء بمكتبه بين مسالي وزعيم قاشقاي، أسفر عن اتفاق الطرفين على توحيد جهودهم، وظلت هذه المسألة محور تركيز الجانب المصري وشرطه الأساسي لدعمهم لأن نجاحهم في توحيد جهودهم يؤثر على نجاح جهودهم النضالية، وتم منح خسرو شقيق ناصر قاشقاي جواز سفر مصري نظرًا لانتهاء جوازه ورفض السلطات الإيرانية تجديده.

وقرر السفير المصري إيفاد مندوب عنه إلى مؤتمر الجبهة الوطنية في ألمانيا في منتصف أغسطس/ آب 1963، للوقوف على أوضاع الجبهة عن قرب، وخلص هذا المندوب إلى أن معظم عناصر الجبهة الوطنية غير حزبيين، وأن أعضاء الأحزاب الأربعة المنضمة للجبهة لا يمثلون سوى خُمس تعدادها، وأن الجبهة ليس لها رئيس ولكن هناك مجلس قيادة جماعيًا، وأن الإيرانيين في أوروبا يستمعون إلى إذاعة القاهرة باللغة الفارسية، وينتظرون منها الدعم والمساندة.

وبدأ التعاون بين مصر والجبهة الوطنية وآل قاشقاي وعمل بإذاعة القاهرة الفارسية عدد من المعارضين غير الحزبيين، وأصبحت السفارة في سويسرا مركزًا لتزويد الإذاعة بالمعلومات الواردة من إيران عن طريقهم.

لكن بعد اتضاح اقتصار تأثير الجبهة الوطنية على التجمعات الطلابية في أوروبا وعجز قياداتها داخل إيران عن القيام بنشاط فعال ضد الشاه، وفقدانها ثقة الجمهور، تقرر الاتصال بحركة الحرية لبحث مسألة دعمها، فوصل إبراهيم يزدي، المسئول عن قيادة الحركة خارج إيران، إلى سويسرا في سبتمبر/ أيلول 1963، حيث طلب منه السفير المصري إعداد تقرير عن فكر ومخطط الحركة وإمكانياتها واحتياجاتها والسفر إلى القاهرة، فسافر بصحبة علي شريفيان وأتم التقرير المطلوب.

وهو تقرير مطول خلاصته أن حركة الحرية ثورية إسلامية، وأنها تهتم بالتوعية الفكرية وتعتقد حتمية التعاون مع رجال الدين لأنهم قادرون على حشد معظم الشعب فطبقات العمال والفلاحين ومعظم الطبقات يتأثرون بهم، حتى الجيش فإن صغار الضباط يتأثرون برجال الدين، على عكس قادة الحركة الوطنية الذين ضعفت مصداقيتهم لدى الشارع، وخذلوا انتفاضة القاشقاي، رغم أهمية دور القبائل في الثورة.

وأوضحت الرسالة أن هدف حركة حرية إيران إنهاء النظام الملكي وإقامة حكم وطني ديمقراطي ثوري اشتراكي يعتمد على مبادئ الإسلام ونابع من الشعب الإيراني من خلال العمل السري المنظم والثورة المسلحة، على عكس قادة الجبهة الوطنية الذين رفعوا شعار أنها جبهة قانونية علنية، وتنازعتهم الأهواء والنزاعات، واقتصرت أهدافهم على تقليص سلطة الشاه وليس الإطاحة به، وبذلك قدموا للشاه خدمات جليلة.

ورفع السفير هذا التقرير إلى عبد الناصر مرفقًا بتوصية بدعم نضال حركة حرية إيران لأنها الحركة الوحيدة القادرة على حشد الشعب الإيراني وتنفيذ ثورة مسلحة للإطاحة بحكم الشاه، لكنه أشار إلى ضعف خبرة أعضاء الحركة.

عبد الناصر يدعم الثورة الإيرانية

ويتعرض الفصل الثالث «عبد الناصر يدعم الثورة الإيرانية» إلى الدور المصري في دعم حركة الحرية حيث اطلع عبد الناصر على التقرير وقال لفتحي الديب إنه كان قلقًا من الجبهة الوطنية التي ضمت أحزابًا سياسية تقليدية، مثلها مثل سائر الأحزاب في مختلف البلدان؛ تحكم قياداتها السياسية الحزبية تطلعات شخصية، واستعداد معظم رجال تلك الأحزاب للتخلي عن كل المبادئ والتعاون مع الشيطان في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم، مبينًا أن نقص الخبرة لدى حركة الحرية الإيرانية ليس عائقًا لأن الخبرة تكتسب بسرعة إذا خلصت النيات وتوافرت العزيمة، وكلف كمال رفعت، عضو مجلس الرئاسة وأحد مؤسسي جهاز المخابرات المصري، ليتولى متابعة موضوع إيران بالتعاون مع فتحي الديب.

ووافق عبد الناصر على تقديم الدعم وطلب معرفة موقف الإيرانيين من ثماني قضايا هي: نظام الحكم المرتقب بعد نجاح الثورة مع توضيح الأساس الاقتصادي والاجتماعي له، وعلاقتهم بالنظام الدولي، وموقفهم من المصالح الأجنبية في إيران، والقومية العربية، والمشكلة الكردية، والشيعة العراقيين، وإسرائيل، والخليج العربي وقضايا الحدود التي أثارها الشاه، مشددًا على ضرورة اهتمامهم بتوفير إمكانيات العمل الثوري محليًا لتكون مساعدة مصر لهم في حدود الإمكانيات المتاحة لديها، وأمر بصرف 5 آلاف جنيه إسترليني كدفعة أولى لهذا الغرض.

أما آل قاشقاي فقد عاد اثنان منهم إلى إيران طلبًا لعفو الشاه، فاستدعى الديب شقيقهم خسرو الذي أكد له تبرأه من فعل شقيقيه وأكد تعويله على حركة الحرية الإيرانية نظرا لمصداقيتها وتنظيمها وقوتها.

واجتمع كمال رفعت والديب مع كل من إبراهيم يزدي وعلي شريفيان وطلبوا التعرف على رؤاهم حول القضايا التي طرحها الرئيس عبدالناصر، فطلب يزدي مهلة للرجوع إلى الحركة، ليعود بعدها برد جماعي على الاستفسارات المطلوبة مبينًا سعيهم إلى تطبيق نظام اشتراكي يتماشى والإسلام المستنير مثل مصر، ويعارضون الأحلاف العسكرية وسيتبنون سياسة عدم الانحياز، والاحتفاظ بالتراب الإيراني الموجود وإهمال كل ما يثيره الشاه من مشاكل بالنسبة للإمارات العربية (كان هذا قبل الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث عام 1971) أو البحرين وغيرها، ويتبنون مقاومة النشاط الصهيوني ونصرة القضية الفلسطينية، وإعطاء الأكراد حقوقهم كباقي مواطني إيران، ويرون ضرورة التعاون الملموس مع القومية العربية، ويرحبون بأي حكم وطني في العراق يساند حركتهم، ويرون ضرورة تأميم البترول الإيراني ولكن ليس من البداية تجنبًا لمتاعب هذا الأمر.

 وأكد يزدي استعدادهم للتوقيع على ميثاق سري مع القاهرة بهذا الخصوص، وطلب توفير المال والسلاح والتدريب والدعم المعنوي لحركتهم، ورفع الديب تقريرًا يقول فيه إن حركة الحرية هي أقرب الحركات الإيرانية للسياسات المصرية.

وقدمت الحركة إلى السلطات المصرية ملخصًا عن إمكانياتها وتحركاتها وخططها للتغيير ومساعيها لإشراك كافة طبقات الشعب في الكفاح ضد الشاه، وتم الاتفاق على عقد اجتماع في القاهرة في يناير/كانون الثاني عام 1964 مثَّل الحركة فيه خمسة منهم يزدي وعلي شريفيان ومصطفى تشمران، وتم تزويدهم بجوازات سفر مصرية تأكيدًا للسرية وقدموا الصور والبيانات المطلوبة، وتم ترتيب الزيارة بكل سرية، وذكر إبراهيم يزدي أن الدكتور محمد مصدق على علم بهذا التعاون وأبدى سروره بما يجري بين الطرفين المصري والإيراني، ويعرض الكتاب تفاصيل الجلسات الخمس وكانت الأخيرة منهم بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني 1964، وتم فيها التوقيع على ميثاق يتضمن مبادئ وأهداف الحركة والتأكيد على عدم إثارة موضوع التفرقة بين السنة والشيعة.

وتقرر البدء في تدريب قيادات الثورة فكريا وعسكريا في معسكرات خاصة بالقاهرة في موعد غايته يونيو/حزيران 1964، على أن يتولى ضابط المخابرات، محمد نسيم، مسئولية المتابعة حسب تعليمات جمال عبد الناصر، وتولى فتحي الديب نقل هذه التعليمات للإيرانيين الذين سارعوا بنقلها لزعمائهم الدينيين الملقبين بآيات الله وهم طالقاني، وميلاني، والخميني، وشريعتمداري، لتذكيرهم بزيادة الاهتمام بمعارضة الشاه خصوصًا بين الفلاحين، واتحاد المسلمين ضد عدوهم المشترك، الصهيونية والاستعمار بكل أنواعه، وأحاطوهم علمًا بتفاصيل الاتفاق مع القاهرة، وقال يزدي إنه سيتواصل مع الخوئي، المرجع الديني الإيراني المقيم بالنجف بالعراق، للحصول على دعمه.

وأنهى الديب مهمته بسويسرا بعد تعيينه في صيف 1964 أمينًا عامًا لمجلس الرئاسة المصري العراقي، ووزيرًا برئاسة الجمهورية المصرية للشئون العربية، واستقر الرأي على تشكيل المكتب الدائم للحركة بالقاهرة من خمسة أفراد جاء ثلاثة منهم من داخل إيران، منهم تشمران (وزير الدفاع الإيراني لاحقًا)، ويزدي (صار وزيرًا للخارجية لاحقًا)، ومحمد توسلي (أمين حركة الحرية حاليًا).

ووضع برنامج التدريب وكانت مدته 10 أسابيع ويتضمن التدريب على قتال الصاعقة وحرب العصابات، وقواعد الأمن واستخدام كل أنواع الأسلحة الصغيرة، والعمليات السرية مثل التجنيد والمراقبة، والعمليات الفنية مثل التصوير واستخدام المفرقعات، والدعاية والإعلام وعلم النفس الاجتماعي، والعقائد السياسية كالاشتراكية العربية والقومية العربية والصهيونية، والعمل التنظيمي وفلسفة التربية التنظيمية، والاتصال بالجماهير وإثارة الاضطرابات في المدن.

تداعيات دعم ثورة يوليو للثورة الإيرانية

في الفصل الرابع بعنوان «تداعيات دعم ثورة يوليو للثورة الإيرانية» يستعرض الكتاب نجاحات حركة الحرية الإيرانية في إثارة روح ثورية في المجتمع الإيراني من خلال العمل السري في الداخل والعلني في الخارج، واعتقد النظام البهلوي في البداية أن هذه الروح من تأثير رجال الدين وحدهم لذا تهاون بها، لكن الحركة ثبتت أقدامها وحازت ثقة الشعب رغم عدم معرفة قادتها، وبروز دور رجال الدين فقط في طليعة الحركة.

وبينما كان الإيرانيون يتوافدون على القاهرة للتدريب على برنامج دعم الثورة شكا خسرو قاشقاي، للمصريين من استبعاده من جانب حركة الحرية وعدم اطلاعه على نشاطهم من دون مبرر واضح، فتمت طمأنته بأن مصر ستحاول معالجة هذا الأمر عبر الاتصال بقادة الحركة.

كما ذكر خسرو قاشقاي أن الأمريكيين تواصلوا معه بشكل مباشر وعرضوا دعمه للتخلص من الشاه بدعوى أنه استنفد أغراضه، وأبدوا رغبتهم في التعاون مع القيادات الوطنية ودعمها ومساندتها في مقابل الحفاظ على المصالح الأمريكية في حالة سقوط الشاه وانتصار الثورة، لكنه لم يتجاوب مع هذا العرض.

واستمرت التدريبات في مصر حتى منتصف عام 1966، واستمر الدعم المالي والمادي وأدى بعض المصريين مهام حساسة في الاتصالات بين العناصر المعارضة الإيرانية، إلى أن طلب يزدي نقل العمل إلى لبنان بعد أن اكتشف الشاه علاقتهم بالنظام المصري، بينما تحركهم في البيئة الشيعية اللبنانية سيكون أستر لحركتهم، ووافق عبد الناصر فورًا، وتم انتقال المكتب إلى بيروت في أواخر 1966، وظلوا على اتصال دائم بالقاهرة بعد ذلك وطلبوا ألا ينقطع الدعم، وأبقوا بعض العناصر في مكتب القاهرة لمتابعة التنسيق في المهام الإعلامية يخاصة إذاعة القاهرة باللغة الفارسية.

وفي لبنان حاولت حركة القوميين العرب احتواء أعضاء حركة حرية إيران لكن طرحها الماركسي لم يلق قبولًا لديهم، وبدلًا من ذلك اتجه الإيرانيون إلى حركة فتح الفلسطينية التي وفرت لهم السلاح والدعم والتدريب دون محاولة فرض أيديولوجيتها عليهم.

في الخامس من مارس/ آذار 1967 توفي الدكتور محمد مصدق، مما كان له أثر سلبي في نفوس أعضاء حرية إيران، وفي نفس العام أيضاً وقعت النكسة وانهزمت الجيوش العربية أمام إسرائيل، وتسببت النكسة في وقف الدعم المصري لحركة الحرية نظرًا لإغلاق قناة السويس وصعوبة الوضع الاقتصادي، فاتجه المناضلون الإيرانيون إلى تدبير أمورهم من موارد أخرى.

وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر/ أيلول 1970، وتولى أنور السادات مقاليد الحكم في مصر كان ذلك بمثابة نقطة تحول رئيسية في سياسة مصر الداخلية والخارجية، الأمر الذي عكس نفسه وبسرعة على الموقف من قضية نضال شعب إيران.

ولما كان الرئيس السادات يتبنى بعض الرؤى المغايرة لنظيراتها لدى الرئيس عبد الناصر، فلم يكن على معرفة بتلك القضية، ولم يكن على استعداد لمواصلة تقديم الدعم والمساندة لمعارضي الشاه، واتضح هذا من تدعيم أواصر الصداقة بين مصر وإيران في فترة حكم الرئيس السادات.

وبالفعل لم تمض عدة أشهر على تولي السادات حكم مصر حتى أصدر أوامره للإذاعة المصرية لتوقف حملتها ضد الشاه في إذاعتها الموجهة إلى شعب إيران باللغة الفارسية؛ استجابة منه لطلب الشاه، إلا أن موقف السادات لم يؤد إلى وقف مسيرة حركة حرية إيران بل تم الاستعاضة عن إذاعة القاهرة الفارسية بشرائط الكاسيت الموجهة إلى الداخل الإيراني كوسيلة لنشر الدعاية الثورية.

ولما نجحت الثورة الإيرانية عام 1979 استضاف السادات الشاه بعدما تنكرت له دول العالم وعلى رأسهم الولايات المتحدة، واستضاف جثمانه في أرض مصر، واعترف بابن الشاه وريثًا لعرش أبيه.

وقد أعلن الخميني بعد وصوله إلى طهران بعد نجاح الثورة أنه منذ بداية الحركة الثورية كان على اتصال بالرئيس جمال عبد الناصر الذي دعم هذه الحركة وقدم لها احتياجاتها.

الرد الإيراني على الكتاب

أصدر هادي خسرو شاهي، رئيس البعثة الدبلوماسية الإيرانية في مصر سنة 2003، كتابًا باللغة العربية بعنوان «حقيقة علاقة عبدالناصر والثورة الإيرانية»، طبعته دار الهدف للإعلام والنشر بالقاهرة، يرد فيه على فتحي الديب ويتهمه بإيراد أخطاء تاريخية وموضوعية، ويكذب ما قاله من الدعم المصري للثورة الإيرانية زاعمًا أن الخميني وقادة الثورة لم تكن لهم صلة بهذه العلاقة، بل إن عبد الناصر هو الذي تأثر بالإيرانيين، مستشهدًا في ذلك بما ذكره محمد حسنين هيكل من أن عبد الناصر ذكر له تأثره بمشهد تحدي آية الله الكاشاني للشاه وتأييده رئيس الوزراء محمد مصدق عام 1952.

وينكر الدبلوماسي الإيراني دور مصر في الإعداد للثورة على اعتبار أن الموضوعية تأبى أن يكون الدعم الذي توقف عام 1966 سببًا في نجاح ثورة عام 1979، مع الاستشهاد بما ذكره هيكل أيضًا من أن عبد الناصر لجأ إلى التقارب مع الشاه بعد نكسة 1967، مشيرًا إلى أن دعم القاهرة لرئيس قبائل قاشقاي وإبراهيم يزدي ومصطفى تشمران لا يعني دعمها للثورة وأن هؤلاء الناس ليس لهم علاقة بالخميني ولا بالرجال الذين فجروا الثورة.

لكن كتاب خسرو شاهي يمتلئ بالمغالطات الواضحة كالخلط بين دعم القاهرة لحركة الحرية والجبهة الوطنية، والخلط بين الشيوعية والاشتراكية، والتخرص بأشياء لم يرد ذكرها في الكتاب، كالزعم بأن عبد الناصر فقد ثقته في السفير فتحي الديب، وأن رجال مخابرات الشاه (السافاك) هم الذين تلقوا دعمًا من عبد الناصر! وغير ذلك من الاستنتاجات التي يعرضها على أنها توقعات منه دون أي دليل واضح.

ويقول إن رجال الدين الإيرانيين كانوا يتمتعون بثقة الشعب فلم يكونوا بحاجة إلى عون مصر وعلي رأسهم الخميني، وبالتالي فإن النظام الناصري أنفق أمواله على مرتزقة لا ثوار، ويستخف بحركة الحرية الإيرانية وبما قدمته مصر لقادة الحركة وفدائييها من إعاشة وتدريب ودعم شامل، فيقول: «هل هؤلاء القلة القليلة الذين تعاونوا مع النظام الناصري قادرون على تغيير حكم الشاه بارتباطاته الخارجية وبجيوشه وأجهزته وآلياته العسكرية، هل هذا معقول؟»، ويستخف أيضاً بكل الجهات والكيانات التي شاركت في ثورة 1979 باستثناء الخميني وأتباعه فقط، وهذا مغاير للحقيقة تمامًا لأن الثورة شاركت فيها فئات عديدة بدوافع مختلفة، ورجال دين آخرين غير الخميني الذي كان حينها في الخارج.

 ويعلق على اتفاق المبادئ الذي وقعته الحركة مع الجانب المصري بأن حركة الحرية تعلم جيدًا ما يرضي غرور النظام الناصري، فمن باب الشطارة أعطت له كل ما يريد من أجل أن تأخذ منه ما تريد وكما يقول المصريون «كله يضحك على كله»، أو أن هذا الكلام ملفق، بحسب خسرو شاهي الذي يستدل على ذلك أيضًا بأن إبراهيم يزدي، الذي اقترح توقيع الميثاق، يؤمن بالرؤية الليبرالية الإسلامية وليس بالاشتراكية المذكورة في الميثاق.

ويورد مقاطع من كتاب الديب ويرد عليها بسخرية قائلًا:

ثورة مصر قدمت دعمًا لخمسة أشخاص – وقدمت مبالغ 30 جنيهًا شهريًا! أو تذكرة طائرة أو حفنة من الدولارات – لا يمكن أن تشتري سيارة جيب واحدة ولا حتى مروحية مستعملة! ثم مر على هذا الدعم حوالي 14 سنة وبقدرة قادر كان الدعم كله بركة! فأسقط نظام الشاه؛ بدليل أن واحدًا من هؤلاء المتعاونين مع النظام المصري صار وزيرًا في أول حكومة أسسها الإمام الخميني، فهذا هو الدليل القوي الوحيد ولا مانع ولا يهمنا! أن يقول هذا الرجل إنه قطع علاقته بالنظام الناصري هو وأعوانه منذ أربع عشرة سنة.

ويهزأ خسرو شاهي مما حكاه السفير الديب عن مساعدة مصر للنضال الإيراني انطلاقًا من واجب الأخوة الإسلامية، قائلًا إن من يقرأ هذا الكلام يظن أن ثورة 23 يوليو «ثورة إسلامية وليست هي الحركة التي طاردت كل رموز الحركة الإسلامية وأعدمت شخصيات إسلامية على وزنها -على المستوى الإسلامي والدولي- من أمثال الشهيد عبد القادر عودة، الشهيد الشيخ محمد فرغلي، الشهيد سيد قطب وغيرهم».

ورغم احتواء كتاب الدبلوماسي الإيراني على معلومات قيمة، وتصويبات لأخطاء وقع فيها الديب كتصحيح كتابة بعض الأسماء أو الأحداث، مثل ذكر الديب أن آية الله طالقاني رئيس حركة حرية إيران رغم أنه هو نفسه ذكر أن مهدي بازركان هو رئيس الحركة في موضع آخر، لكن تعنت خسرو شاهي ولجوئه إلى كيل الاتهامات لمصر بلا مبرر أو دليل أضعف من قيمة الكتاب ومصداقيته، مع ما بذل فيه من جهد وما احتواه من تجميع للكتابات المؤيدة والمعارضة لفكرته.

ويورد خسرو شاهي في ملاحق كتابه في صفحة 88 -ويستشهد بمحتواها في ثناياه- رسالة من إبراهيم يزدي يؤكد فيها أن الخميني لم يكن يعلم شيئًا عن الميثاق وأنه كان منفيًا في تركيا عندما بدأ نشاط حركة الحرية، وأن أعضاء الحركة عندما قابلوه فيما بعد في العراق لم يخبروه بالأمر.

وفي رسالته المذكورة، التي تعد أهم ما حواه كتاب خسرو شاهي، يقول يزدي إن الأسباب الحقيقية لانقطاع العلاقة بينهم وبين القاهرة دورها في تسمية «الخليج العربي» بدلًا من «الفارسي»، وتسمية محافظة خوزستان بـ«عربستان»، ودعم «جبهة تحرير إقليم عربستان»، ودعم القاهرة لعناصر إيرانية معارضة مشبوهة، وإطلاق الصحافة المصرية اسم «الإسرائيليين الجدد» على الإيرانيين المقيمين في دول الخليج العربية، مما يعد تحريضًا على الشعب الإيراني وليس نظام حكمه.

وكذلك إصرار القاهرة على إشراك عناصر حركة الحرية في برنامج إذاعي ضد الشاه – وهذا الأمر ذكره هيكل باعتباره سبب الفراق – ويوضح يزدي أنهم رأوا أن عبد الناصر يريد إصلاح علاقته مع الشاه لكن بعد مساومته بهذا النشاط الإعلامي المعارض، وهو ما رفضوه.

ويسرد يزدي تفاصيل عن إقامة عناصر حركة حرية إيران في القاهرة والدعم الذي تلقوه هناك قائلًا: «كانت الإقامة بالقاهرة لمدة سنتين تجربة مفيدة جدًا لكل عضو من أعضاء التنظيم، ولقد وجدنا المواطنين بالقاهرة في منتهى الود والعطف ومضيافين يتحابون.. هذه المساعدات وهذا الود لن ننساه ولا يمكن نسيانه».

حقيقة الدعم المصري وعلاقته بالخميني

نوصلت الدكتورة إيمان محمد السعيد جمال الدين، المدرس بكلية الآداب بجامعة عين شمس، في بحث لها بعنوان «دور مصر في دعم حركة الحرية الإيرانية ضد نظام الشاه (1962 : 1966)» إلى أن هناك التباسًا ناتجًا عن الخلط بين أمرين مختلفين؛ فخلال اتصال حركة الحرية برجال الدين لم يتطرقوا إلى مسألة التدريب العسكري لأنها كانت سرية لا يعلم بها إلا أصحابها فقط، أما الدعم السياسي والإعلامي فلم يكن يخفى على الخميني الذي أُحيط علمًا بمسألة التعاون مع مصر إجمالًا دون التطرق لمسألة التدريب العسكري.

ولإثبات وجهة النظر هذه، أجرت الباحثة مراجعة تفصيلية للأربع وعشرين رسالة التي تبادلها الخميني مع إبراهيم يزدي، ومراجعة لمذكرات الأخير الصادرة عام 2010، بعنوان «شصت سال صبورى وشكورى» أي: «ستون عامًا من الصبر والشكر»، وخلصت إلى معرفة الخميني بالدعم المصري وجهله ببرنامج التدريب السري.

كما أوردت نصوصًا مترجمة من هذه المذكرات المهمة تشرح تفاصيل خصوصًا ببرنامج التدريب، منها أن الموضوع ظل سرًا حتى بالنسبة لأعضاء حركة حرية إيران الذين لم يشاركوا في الأمر- وظل كذلك حتى نشر كتاب فتحي الديب عام 2000- وأن المفكر علي شريعتي، العضو بالحركة، لم يشترك في هذا البرنامج التدريبي في مصر نظرًا لظروفه الخاصة فقد كان يعيش في باريس مع زوجته وأبنائه الثلاثة على ما يسد الرمق، كان صاحب فكر وقلم لا أهل ميدان وحرب، لم تكن ظروفه الأسرية تتناسب بأي حال مع تلك البرامج، كان له اطلاع كامل واهتمام واف بالمسألة، وترك مصطفى تشمران زوجته الأمريكية وأبناءه عند أهلها في كاليفورنيا، بينما اصطحب الدكتور إبراهيم يزدي زوجته الإيرانية وأبناءه الأربعة إلى مصر بعد استقالته من الجامعة التي يعمل بها بالولايات المتحدة، وخصصت لهم الحكومة شقة سكنية في كوبري القبة، وبجوارها شقة أخرى لسكن باقي الشباب مثل قطب زادة وبرويز أمين، وراستين.

ونظرًا لأهمية دور يزدي فقد تأخر التدريب سبعة أشهر انتظارًا لحضوره إلى القاهرة في أغسطس/آب 1964، وأشاد بالمدربين المصريين مبينًا أن «مستوى معلوماتهم عال للغاية، ومتمكنون تمامًا من الموضوعات التي يدرسونها»، مستشهدًا بقول زميل له «كانت معلوماتنا صفرًا تقريبًا، وكل ما هو موجود يثير دهشتنا وإعجابنا».