احتلت حركة الضباط الأحرار، وما قامت به في 23 يوليو/ تموز 1952، مكانة مهمة في التاريخ الحديث لمصر، وللمنطقة بالكامل. اهتم المؤرخون بكل من تواجد في تنظيم الضباط الأحرار أو مجلس قيادة الثورة. وشكلّت تصريحاتهم ومذكراتهم نافذةً سريةً لمعرفة شخصيات وأحداث تلك المرحلة المفصليّة. من أبرز هؤلاء الضباط الأحرار، وللتناقض أيضًا، فإنه واحد من المنسيين، ومن الأسماء التي لا تُتداول إعلاميًا أو تاريخيًا بكثرة، إنه عبداللطيف البغدادي.

ترك البغدادي إرثًا سياسًا لا يُنكر، والأهم أنه ترك إرثًا أدبيًا من مذكراته. نُشرت مذكراته 4 مرات مختلفة في سياقات مختلفة. المرة الأولى كانت في كتاب صدر عام 1977، أما الثانية فكانت في كتاب يجمع مذكراته مع مذكرات كمال الدين حسين، وحسن إبراهيم، في حوار مطوّل أجراه معهم جميعًا سامي جوهر، وهو صاحب الكتاب. أما المرة الثالثة فقد نشرها مُسلسلةً في مجلة أكتوبر بداية من يوليو/ تموز 1993 وحتى فبراير/ شباط 1994. ثم في نفس المجلس نُشرت مذكراته على هيئة حوار طويل أجراه معه رئيس تحرير المجلة، صلاح منتصر آنذاك، ونشرها على هيئة حلقات.

هذه المواد المنشورة تعتبر مواد شديدة الأهمية في كشف عديد من كواليس الثورة، وخبايا حياة البغدادي نفسه. كما أنها تكشف لنا شيئًا آخر غير مكتوب، الاهتمام الشعبي بالرجل. فالصحف لن تعيد الحديث أكثر من مرة مع رجل إلا إذا علمت أنه يلقى رواجًا شعبيًا، ويهتم به القارئ العادي قبل القارئ المتخصص.

وبالفعل كان لعبداللطيف البغدادي مكانة متميزة في الوجدان المصري الشعبي. فشاعت بين المصريين أسطورة عن الرجل أنه إذا مر على طريق غير مُمهد وأمر برصفه، فيبدأ العمل فورًا في نفس الصباح، ثم يعود عبداللطيف ليمر عليه مرصوفًا في المساء.

جدير بالذكر أن تلك المذكرات المختلفة لا يغلب عليها التكرار، بل الزوايا المختلفة. فمثلًا في مذكراته المنشورة عام 1977 لم يتحدث الرجل عن حياته الشخصية ولا الاجتماعية، بل بدأها بالحديث عن محاصرة القوات البريطانية لقصر عابدين عام 1942 وإجبارهم الملك فارق على التوقيع على مرسوم استدعاء مصطفى النحاس لتشكيل الحكومة أو يتنازل عن العرش.

البذرة الأولى للضباط الأحرار

لكنه استدرك الأمر في حواراته الصحفية. حكى عن انتقاله للمنصورة حيث تلقى تعليمه الابتدائي. وقد وُلد في قرية شاوه التي لا تبعد كثيرًا عن مدينة المنصورة. وعن رغبة والده، العمدة، إلحاقه بكلية البوليس. التحق بالكلية بواسطة هي أم كلثوم، التي كانت قريتها قريبة من قريته، وتربط الأسرتين علاقات عائلية. بالفعل قضى عبداللطيف أسبوعًا في كلية البوليس، لكن لم يعجبه كونه شرطيًا، فقدّم أوراقه في الكلية الحربية.

من الطرائف التي حكاها أن دافعه للكلية الحربية هو الوظيفة المضمونة. يقول إنه حين سُئل في المقابلة الشخصية عن الأسباب التي دفعته لاختيار الكلية الحربية، فاجأ الممتحنين بإجابته الصريحة المباشرة، أنه يريد أن يصبح مثلهم في وظيفة مضمونة بعد التخرج. بعد تلك الإجابة كان قبوله في الكلية معجزةً لم يكن يتوقعها.

لكنه دخلها وتخرج فيها 31 ديسمبر/ كانون الثاني 1931، وترتيبه الثاني على دفعته. ثم التحق بعدها بكلية الطيران وتخرج فيها عام 1939، ترتيبه الأول على دفعته هذه المرة. كان البغدادي أول طيار مصري يُلقي قنابل على تل أبيب. وحصل على وسام النجمة العسكرية مرتين خلال حرب فلسطين. في عام 1948 تم تعيينه قائدًا لمحطة طيران غرب القاهرة.

خطوة للوراء بعد قبوله في الكلية الحربية نجد أنه أقام في شقة مفروشة في مصر الجديدة. في تلك الشقة كان معه حسن سعودي ووجيه أباظة وحسن عزت. ومنها أيضًا وُلدت الرغبة الأولى لعمل تنظيم سري بين ضباط الجيش لمقاومة الاحتلال. يقول إن حسن عزت كان صديقًا لمحمد السادات فاقترح ضمه للتنظيم. لهذا عُرف عبداللطيف بأنه قائد أو تنظيم سري في سلاح الطيران لاحقًا.

8 استقالات في 10 أعوام

إذا عدنا إلى كشف أسماء الضباط الأحرار، ورتبّناهم بمبدأ الأقدمية الذي اعتنقته الثورة وتدين به الجيوش عامةً، فسوف نجد أن عبداللطيف البغداي كان الرجل التالي مباشرة بعد جمال سالم. وأصبح الرجل الثاني بعد عبدالناصر إثر خروج جمال سالم من السلطة لاحقًا بأخيه صلاح سالم.

لكن ما جعل البغدادي يتأخر في ترتيبات الأولوية عند قيادات الثورة الحاكمة هو أن الرجل لم يستطع التناغم مع الرئيس جمال عبدالناصر. كان عبداللطيف عامةً سريع الغضب والانفعال. معظم الشهادات التي أرخت لتلك الفترة تقول إنه كان محقًا في غضبه، لا يطيق الصمت إذا وصلت الأمور لحدٍ لا يحبه. لكن بعيدًا عن مبررات الغضب، فالنتائج هو أن الرجل عُرف أنه نافذ الصبر، ولا يعرف كيف يتكيف مع غالبية البشر، على حد وصفٍ مازح في أحد حواراته الصحفية.

إذا بحثنا عما يوثق هذا الغضب ونفاد الصبر سوف نجد أن الرجل قدّم استقالته مبكرًا جدًا، عام 1954. لكن بالطبع عاد للعمل السياسي واستمر فيه قرابة عشر سنوات. في تلك السنوات تقدّم الرجل بثماني استقالات رسمية موّثقة. دون إحصاء التهديدات بالاستقالة، أو الاستقالات الشفهية التي تتدخل عديد من الأطراف قبل أن تصبح رسمية.

غياب التناغم بدا أيضًا في شروع البغدادي في كتابة مذكراته في أواخر عام 1953، مع بداية الصراع بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر. وفي مناطق متفرقة من كلام البغدادي نلمح سخطًا على ما آلت إليه الأوضاع. فقد وصف تنحي عبدالناصر بأنه كان مهزلة كبرى، على حد وصفه. كما قال إنه بدلًا من محاسبة المتسببين عن تدمير الجيش المصري، وقف السادات، رئيس مجلس الأمة آنذاك، بصوتٍ باكٍ يقرأ رسالة التنحي.

التدرج في المناصب، نحو الأسفل

لكن على الجهة الأخرى نجد رجلًا تقلد العديد من المناصب. بدأها بمراقب عام لهيئة التحرير عقب ثورة يوليو/ تموز مباشرة. ثم في 18 يونيو/ حزيران عام 1953 عُين وزيرًا للحربية في عهد محمد نجيب. ثم في 16 سبتمبر/ أيلول من نفس العام عُين رئيسًا لأول محكمة ثورة. في تلك النقطة أُشيع حدوث خلاف بينه والرئيس عبدالناصر وقت محاكمة محمد فؤاد سراج الدين، أحد قادة حزب الوفد آنذاك ووزير داخلية في حكومة الوفد.

يقول سراج الدين في مذكراته إن البغدادي كان يؤمن ببراءته، وأعطاه الفرصة للدفاع عن نفسه في 5 جلسات. لكنه، سراج الدين، يقول إن عبدالناصر أجبره على النطق بالحكم بحبسه 15 عامًا. كما يقول سراج الدين أن البُغدادي غاب عن جلسة مجلس قيادة الثورة التي جرى فيها التصديق على الحكم.

في أبريل/ نيسان عام 1954، عُين وزيرًا للشئون البلدية والقروية في عهد عبدالناصر. وفي 29 يونيو/ حزيران عام 1956 أُسندت إليه مهمة إعادة إعمار بورسعيد بعد العدوان الثلاثي. بعد ذلك بشهور انتخب رئيسًا لأول مجلس نيابي بعد الثورة. لكنه ترك المنصب حين حُل المجلس بعد الوحدة مع سوريا، وتمت ترقيته نائبًا لرئيس الجمهورية. وفي أغسطس/ آب 1958 عُين نائبًا لرئيس الجمهورية لشئون الإنتاج.

بعد ذلك بعامين عُين رئيسًا للجنة الوزارية العليا للشئون الاقتصادية. وفي عام 1961 عُين نائبًا للرئيس مرة أخرى، ووزيرًا للخزانة والتخطيط. بعد عام آخر أسندت إليه مهمة إعادة تنظيم الجهاز الحكومي. وفي 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1962 أصبح عضوًا في اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي.

أتى مارس/ آذار عام 1964 بنبأ استقالة عبداللطيف البغدادي من مناصبه، واعتزاله الحياة السياسية بالكامل.

رفض العودة للظل

 تدور الأخبار أن استقالته ثم اعتزاله، أتت من شعوره أنه لم يعد مُرحبًا به في مجلس قيادة الثورة. وأن المناصب العديدة التي تولاها شعر أنها لم تكن سوى إبعاد له عن قمة الهرم. برر الرجل ذلك في مذكراته بأن جمال عبدالناصر شعر أن البغدادي لا يُرحب بما حدث مع محمد نجيب، ولا بتركز السلطة في يد عبدالناصر وحده.

أرسل عبدالناصر لاحقًا، عام 1965 بعد ظهور نتيجة الاستفتاء على رئاسة عبدالناصر، حسين كامل إلى البغدادي يطلب منه العودة للحياة السياسية. يروي البغدادي أنه اعتذر عن ذلك، ويروي أيضًا أن ذلك الاعتذار أغضب عبدالناصر بشدّة. لهذا اتفق البغدادي مع كمال الدين حسين، الذي رفض هو الآخر وساطة عبدالحكيم عامر للعودة للسياسة، أن باب العودة قد أغلق أمامهم طالما يحكم رجال الثورة.

قضى عبداللطيف البغدادي ما بقى من حياته بعيدًا عن مراكز القرار، لكنه حرص دائمًا على تدوين سيرته وكشف خبايا عديد من الأفعال التي قامت بها الثورة، وتوضيح ما كان يدور في كواليس مجلس قيادتها. وشُيع الرجل عام 1999 في جنازة مهيبة تقدمها محمد حسني مبارك، الرئيس المصري آنذاك. وقد ذكر البغدادي اسم حسني مبارك في مذكراته مرة أو مرتين.

يقول البغدادي إن محمد صدقي، قائد الطيران، طلب عبد الحكيم عامر وأخبره أن هناك طائرات أمريكية شاركت في ضرب مطار الأقصر. وإن من رآها ضابط له خبرته في مجال الطيران واسمه حسني مبارك. أخبر عبدالحكيم الرئيس عبدالناصر أن الطائرات المغيرة أكبر من عدد طائرات إسرائيل، وهناك من يقول إن بعضها أمريكي. لم يوافقه عبد الناصر وطلب منه إسقاط واحدة للتأكد.

يقول البغدادي إن عبدالحكيم اتصل بمطار الأقصر، وتحدث مع مبارك ليتأكد منه، فأخبره مبارك أنها إسرائيلية، وقد خالفه الصواب في المرة الأولى.

إذا أردنا وضع ملخص شديد الاختزل للرجل، فيمكن القول إن طموحه جعله من أبرز الضباط الأحرار، وقدراته جعلته يتقلد 5 وزارات مختلفة، وتخطيطه قاده للنجاح في ما أُسند إليه. كما أن اعتداده بنفسه جعله يترك كل ذلك، رافضًا أن يكون ظلًا سياسيًا.