لم يكن أحد يتخيل أن الصبي الذي انضم وعمره 14 ربيعًا إلى الجبهة الديمقراطية لشعب أورومو، لمواجهة نظام منجستو هيل ماريام الديكتاتوري العسكري، سيصبح بعد أقل من ثلاثة عقود من الزمن رئيس وزراء إثيوبيا، وواحدًا من أقوى وأحنك السياسيين في أفريقيا.

مسيرة طويلة وشاقة قطعها آبي أحمد علي، حتى وصل إلى سدة الحكم في واحدة من أهم دول أفريقيا، لكنها ولا شك أثقلته وجعلت منه سياسيًا فذًا يمكن بسهولة التنبؤ بأنه سيصبح أحد أهم القادة في تاريخ منطقة القرن الأفريقي، وربما في القارة السمراء بأكملها، إذ كتب لتجربته النجاح.

العسكري السياسي الدكتور

ولد آبي أحمد علي عام 1976 من أب مسلم وأم مسيحية، في مدينة أغارو بمنطقة جما الواقعة في إقليم قومية الأورمو، التي تعد أكبر مجموعة عرقية بإثيوبيا. درس آبي أحمد المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدينتي أغارو وجما، والتحق عام 1990 بالجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو للنضال المسلح ضد نظام منجستو هيل ماريام العسكري (1974 – 1991)، وسقط حكم الأخير بعد ذلك بعام واحد.

انضم ابن قومية الأورمو رسميًا إلى الجيش الإثيوبي عام 1991، وبدأ عمله في وحدة المخابرات والاتصالات العسكرية، لكن هذا لم يثنه عن مواصلة رحلته التعليمية، فأكمل دراسته حتى حصل على بكالوريوس الهندسة من قسم الحاسب الآلي بجامعة أديس أبابا عام 1993. وبالتوازي مع هذا، مارس السياسة من خلال الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو، التي أصبحت الحزب الحاكم في منطقة أوروميا بعد التخلص من نظام منجستو.

استمرت مسيرة آبي أحمد العسكرية، وفي عام 1995 أرسل ضمن قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في رواندا عقب الإبادة الجماعية التي شهدتها تلك البلاد، وإبان الحرب الإثيوبية الإريترية (1998- 2000) قاد الضابط الشاب فريقًا استخباراتيًا لاكتشاف مواقع الجيش الإريتري في جبهات القتال. ومن أجل تعزيز مكانته الاستخباراتية، حصل عام 2005 على دبلوم الدراسات العليا المتقدمة للحاسوب في قسم تطبيقات التشفير من جامعة بريتوريا بجنوب أفريقيا، وهو ما أهله للحصول على رتبة عقيد عام 2007، وتولي منصب نائب مدير وكالة أمن المعلومات الإثيوبية «إنسا».

أخذ نجم آبي أحمد السياسي في الصعود، خاصة بعدما أصبح عضوًا في اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو عام 2009، فقرر الاستقالة من المؤسسة العسكرية عام 2010 من أجل التفرغ للعمل السياسي.

انتخب السياسي الشاب سريعًا عضوًا بالبرلمان الإثيوبي عن دائرته في 2010، وأصبح في العام 2012 عضوًا باللجنة التنفيذية لائتلاف «الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية» الحاكم. اختبرت قدرات آبي أحمد السياسية شعبيًا خلال تلك الفترة، عندما لعب دورًا محوريًا فى إخماد الفتنة التي اندلعت بين المسلمين والمسيحيين في مدينة جيما وتحقيق مصالحة تاريخية في المنطقة.

وكما لم يُلهِ العمل العسكري آبي أحمد عن استكمال مسيرته الأكاديمية، لم يُلهه أيضًا العمل السياسي، لكن اهتمامات البرلماني الأكاديمية تختلف بالطبع عن اهتمامات الرجل العسكري، ما جعل آبي أحمد يحصل على ماجستير في إدارة التغيير والتحول من جامعة غرينتش بلندن عام 2011، ثم ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة أديس أبابا عام 2013.

أعيد انتخاب آبي أحمد مرة أخرى في مجلس نواب الشعب الإثيوبي عام 2015،وفي نفس العام اُختير وزيرًا للعلوم والتكنولوجيا في حكومة هايلي مريام ديسالين، لكنه سرعان ما ترك المنصب وعاد إلى مسقط رأسه أوروميا لتولي مسؤولية مكتب التنمية والتخطيط العمراني بالإقليم، ثم منصب نائب رئيس إقليم أوروميا أواخر العام 2016.

واصل الأكاديمي آبي أحمد دراساته فحصل أواخر العام 2017 على درجة الدكتوراه من معهد دراسات السلام والأمن «إيبس»، التابع لجامعة أديس أبابا، عن رسالة بعنوان «رأس المال الاجتماعي ودوره في حل النزاعات التقليدية في إثيوبيا».

كانت إثيوبيا منذ العام 2015 تمر بموجة احتجاجات غير مسبوقة، بدأت بنزاع بين مواطنين غالبيتهم من عرقية أورومو – التي ينتمي إليها آبي أحمد – وحكومة ديسالين حول ملكية بعض الأراضي، ثم سرعان ما اتسعت رقعة المظاهرات لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدت لمقتل المئات واعتقال الآلاف.

وعلى وقع هذه الاحتجاجات التي استمرت لما يربو على عامين، اتفقت قوى ائتلاف «الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية» الحاكم على الإطاحة بـديسالين من رئاسة الائتلاف وبالتالي من رئاسة الوزراء، وتعيين آبي أحمد بدلًا منه. تمهيدًا لهذه الخطوة انتخب حزب المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو، الدكتور آبي أحمد رئيسًا له، في فبراير/ شباط الماضي. وبعدها بشهر تقريبًا، اُختير الدكتور رئيسًا للائتلاف والحكومة.

مزيج عسكري سياسي أكاديمي مثير للإعجاب قلما يجتمع في شخص واحد، لكن الشخص الذي يحوزها يمكن أن يفعل الكثير. الأربعة أشهر التي قضاها آبي أحمد في الحكم لا تسمح بالطبع بإصدار أحكام قاطعة، لكن هناك مؤشرات أولية على أن إثيوبيا ومنطقة القرن الأفريقي، وربما أفريقيا كلها، على موعد مع ميلاد سياسي استثنائي.

إعادة هندسة الداخل الإثيوبي

بشكل مختصر، يتكون ائتلاف «الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا» الذي يحكم إثيوبيا منذ العام 1991، من عددٍ من الحركات والجبهات الممثلة للجماعات الإثنية الرئيسية في إثيوبيا، وأبرزها «جبهة تحرير شعب تيجراي»، و«حركة الأمهرا الديمقراطية الوطنية»، و«المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو»، و«الجبهة الديمقراطية للشعب الجنوبي الإثيوبي».

تعد «جبهة تحرير شعب تيجراي» التي تمثل نحو 6.1% من السكان، القوة القائدة داخل الائتلاف الحاكم منذ تأسيسه مطلع التسعينيات، إذ تسيطر على أغلب المناصب القيادية في الجيش ومؤسسات الدولة الرسمية، وتدير الاقتصاد عبر شبكة واسعة من المصالح التي يصعب تفكيكها. فيما تقع على الهامش «المنظمة الديمقراطية لشعب أورومو» والتي تمثل نحو 40% من سكان إثيوبيا، و«حركة الأمهرا الديمقراطية الوطنية» التي تمثل نحو 25% من السكان.

أدت هذه التقسيمة المختلة إلى وجود العديد من المظالم الناتجة عن سعي قومية التيجراي إلى تعزيز قوتها داخل الائتلاف الحاكم وإقصاء القوميات الأخرى، بل والتمعن في إذلالها وتفتيت قوتها وتقليص فرصها وحظوظها في الخطط الإنمائية. ويعد أبرز مظاهر هذا الإقصاء، والذي تسبب في اندلاع الاحتجاجات الغاضبة السابق الإشارة إليها، هو مشروع حكومة ديسالين لسلب الأورمو 120 كيلو مترًا مربعًا من أراضيهم التي تحيط بالعاصمة أديس أبابا، لأسباب تقول عنها الحكومة إنها استثمارية تتعلق بالخطة العامة لتطوير العاصمة الإِثيوبية، ويراها الأورمو محاولة لتقليص أدواتهم الاقتصادية، عبر تقليص الأراضي الزراعية التي هي مصدر ثروتهم.

اقرأ أيضًا:احتجاجات «الأورومو»: اضطهاد الأغلبية في إثيوبيا

من رحم هذه الأوضاع اختير آبي أحمد علي، ابن قومية الأورمو ذات الأغلبية المسلمة وكذلك ابن الدولة والنظام المختل، ليعيد هندسة توازنات القوى دخل الائتلاف الحاكم والدولة، بشكل يضمن الحفاظ على ائتلاف الحكم والدولة من التفكك وتخفيف مظالم القوميات المهمشة دون الإضرار كثيرًا بقومية التيجراي المسيطرة.

بدأ الدكتور آبي أحمد عهده بارتداء حلة السياسي، فقام في شهر واحد بجولات مكوكية في كل الأقاليم الإثيوبية مبلورًا خطابًا يوصف بالاعتدال، وذلك في محاولة لامتصاص الاحتقان الإثني ولمعرفة الأوضاع عن كثب. وحققت هذه الجولات مكاسب جماهيرية كبيرة مكنته من ارتداء حلة رجل المخابرات العسكري وإطلاق حزمته الثانية من خطته الإصلاحية والتي تمثلت في الإطاحة برئيس أركان الجيش ومدير المخابرات العامة، المنتميين إلى قومية التيجراي واللذين قضيا ما يقرب من عقدين في منصبهما، وقام بإسناد منصب مدير المخابرات إلى أرومي مسلم، هو الجنرال آدم محمد.

وفي خطوته التالية، قام آبي أحمد بإلغاء حالة الطوارئ،وإطلاق سراح المعارضين المسجونين، والسماح لمعارضة الخارج بالعودة إلى البلاد، الأمر الذي دفع رئيس «جبهة أورومو الديمقراطية» الإثيوبية المعارضة لينشو ليتا و4 من قيادات الجبهة إلى العودة لأديس أبابا، بعد سنوات عديدة بقوا فيها في المنفى. كما قام الدكتور برفع الحظر المفروض على العديد من المواقع الصحفية.

أعدت حكومة آبي أحمد قانونًا وافق البرلمان عليه سريعًا، يقضي برفع أسماء حركات معارضة مسلحة؛ وهي «قنوب سبات»، و«جبهة تحرير أرومو الديمقراطية»، و«جبهة تحرير أوغادين»، و«الجبهة الوطنية الإثيوبية»، من قائمة المجموعات الإرهابية، التي كانت قد أدرجت عليها في يونيو/ حزيران 2011.

وبإيعاز من رئيس الوزراء،أقال النائب العام الإثيوبي 5 من أبرز مسؤولي السجون، بينهم مدير الإدارة الاتحادية للسجون، تزامنًا مع صدور تقرير لمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، تناول تفاصيل تعذيب وانتهاكات في سجن «أوغادين»، وحض الحكومة على محاسبة المسؤولين عنها.

أدت سياسات آبي أحمد إلى محاولة اغتياله في 23 يونيو/ حزيران الماضي، وهي محاولة يُعتقد أن أطرافًا سياسية داخلية تقف خلفها، وتعد دليلاً على نجاح تحركات الدكتور في خلخلة التوازنات داخل الطغمة الحاكمة، وإثارة مخاوف من يجب أن يخافوا على تموضعاتهم في النظام الجديد.

اقرأ أيضًا:بعد محاولة الاغتيال: هل تقف إثيوبيا على شفير حربٍ أهلية؟

سياسة تصفير الصراعات الخارجية

كانت السياسات الخارجية للحكومات التي سبقت حكومة آبي أحمد قائمة على افتعال الصراعات مع دول الجوار وتأجيج ما هو قائم منها من أجل تعزيز اللحمة الداخلية، وهي سياسات نتج عنها تآكل ثمار النمو الاقتصادي وتعزيز سيطرة نخبة التيجراي، لكن آبي أحمد أتى بأجندة سياسية خارجية مختلفة مفادها أن التطور الاقتصادي والسياسي لن يتم سوى بتصفير المشاكل مع دول الجوار وتحقيق تكامل اقتصادي معها.

سريعًا أخذ الدكتور خطوات عملية في تطبيق سياسته الجديدة، فزار 6 من دول الجوار الإثيوبي (جيبوتي – السودان – أوغندا – مصر – الصومال – إريتريا)، خلال الـ100 يوم الأولى من حكمه. وقام بإجراء مصالحة تاريخية مع الجارة إريتريا، الذي كان قد شارك سابقًا في حربها عندما كان ضابطًا بالجيش. وقام بإنهاء الخلاف الحدودي بين البلدين، ووافق على التطبيق الكامل لاتفاق الوساطة الموقع في الجزائر العام 2000، والذي كان يرفض أسلافه تطبيقه، وسافر بنفسه إلى إريتريا قبل نحو شهر لمد يد السلام.

اقرأ أيضًا:سيدة أفريقيا: إثيوبيا تعيد تشكيل القرن الأفريقي

أما الخلاف مع مصر بسبب سد النهضة، فرغم وصف آبي أحمد للسد بأنه «الموحد للشعوب الإثيوبية»، إلا أن لغته مع مصر كانت أقل حدة من لغة أسلافه، ومثلت زيارته لمصر في شهر يونيو/ حزيران الماضي، وتعهده بعدم الإضرار بمصالح مصر في مياه النيل، دافعًا للتفاؤل، خاصة إذا ما وضع في الاعتبار أن عماد سياسة آبي أحمد هو تصفير المشاكل مع دول الجوار، وإذا ما وضع في الاعتبار أيضًا وجود مساعٍ سعودية – إماراتية لدعم مصر في الملف.

اقرأ أيضًا: سيناريوهات التدخل العسكري لحل أزمة سد النهضةزار رئيس الوزراء الإثيوبي الصومال لتنشيط العلاقات الفاترة مع الحكومة الفيدرالية من أجل «طي صفحة الماضي»، التي كانت تقوم فيها الحكومات الإثيوبية بتقوية موقف الحكومات الإقليمية وتأليبها ضد الحكومة الفيدرالية، لتأمين استفادتها من موانئ هذه الأقاليم وحصولها على تعاونها الأمني مقابل توفير بعض المكاسب الشخصية والإقليمية لرؤساء الحكومات. وحال وفاء آبي أحمد بتعهداته التي قطعها خلال الزيارة فسيساهم هذا بقوة في استقرار الأوضاع في مقديشو.