23 أكتوبر 2000

مر اليوم الدراسي في رتابة كالمعتاد برغم من توسطه الاختبار الأول للغة العربية للشهر الأول، كما جرت العادة في المدارس من إجراء اختبارات شهرية لقياس مستوى التلاميذ، وفي طريق عودته من المدرسة يمر أمام ديوان العائلة، كان قد تجمع أمامه عدد من الأقارب والجيران، نظراتهم له كانت سريعة زائغة، أكمل الطريق ليجد ابن أحد الجيران اقترب منه بحذر وقال «أنت متعرفش فيه ايه؟» فأشار برأسه نافيًا، فقال مسرعًا: «أبوك مات» وكرر جملته ليتأكد أنه قد سمعها وفر مبتعدًا، لم يستطع التعقيب، فقط أسرع الخطى وقلبه يخفق بشدة، ربما تكون مزحة سخيفة من عيل سخيف غدًا سوف يلقنه درسًا قاسيًا.

استجاب الطريق لرغبته فطوى تحت قدميه ليجد بيتهم وقد التحف بالسواد فجأة، تنبعث منه أصوات الأنين والبكاء. العديد من السيدات يملأن المنزل ويفضن منه ليفترشن أمامه، نظرات الإشفاق في أعينهم تجعله لا يتحاشاها، فمخزون العزة لديه لا يقبل مثل هذه النظرات، صحيح أن أباه منذ ثلاثة أيام في العناية المركزة، وقد منعوه من الزيارة ولم يعلم هل لصغر سنه أم لسوء الحالة الطبية، ولكن هل هذا يعني الموت؟!

مر أمام عينه شريط طويل من الذكريات التي تجمعه مع والده، كل مكان رافقه إليه فدائمًا كان يعلم خط سيره، وجدوله اليومي، في الفترة الأخيرة بدأ يتردد على الأطباء والمستشفيات، قالوا له حينها إن الكلية لم تعد قادرة على القيام بمهمتها الطبيعية وعملية الغسيل هذه تقوم بهذا الدور، كان يرافقه أينما ذهب إلا أثناء الذهاب إلى المستشفى فيكتفي بأن يوصله إلى الطريق فقط، مرة وحيدة التي دخل وحدة غسيل الكلوي بأحد بالمستشفيات هذا المكان اللعين، ولم يستطع الذهاب إليه مرة أخرى.

كان أصغر أبنائه السبعة، كان ينتظر أن يرجع من المستشفى بفارغ الصبر فلديه العديد من القضايا التي أثيرت مؤخرًا بينه وبين أقرانه في المدرسة ويريد أن يسأله عنها، فكان يحب كثيرًا مناقشته وكلامه، لم يتذكر يومًا أنه أجلسه أمامه ليلقي عليه خطبة عصماء رغم ملكته لفن الكلام وحسن البيان، كان يتعلم بالمثل والمحاكاة، فتعلم منه الكثير من المعاملات وحسن التصرف والتدبير، ولكنه لم يتذكر إن كان أخبره عن الموت، وما عليه أن يفعل أو كيف يتصرف.

أخرجه من شروده وذكرياته عويل إحدى السيدات لدى دخولها المنزل، كان قد وصل غرفته، فأبدل ملابسه سريعًا، وذهب للمسجد لانتظار أبيه، فقد علم أنه في الطريق الآن، التقى به على باب المسجد صندوقًا خشبيًا محمولاً على الأعناق، مغطى ببردة خضراء، بداخلها لفة بيضاء بها ٣ أربطة، وضعوه في آخر المسجد منتظرًا الصلاة، جلس بجواره يسأله في ذهول عن هذه التفاصيل، فلم يجب!

أقيمت صلاة العصر ثم صلاة الجنازة نادى الإمام في المصلين وأعلن خبر الوفاة، بالرغم من معرفة الجميع الخبر، فأغلبهم قد حضر مبكرًا منتظرًا، فتذكر صلوات حضرها معه تشبه هذه الصلاة لا ركوع فيها ولا سجود، يكثر فيها البكاء والخشوع ويعم عليها الحزن والألم، ثم خرجوا لتشييع الجسمان إلى مثواه الأخير، أمام المدفن كان المشهد مهيبًا، حشد كبير من الناس يقفون في صمت وخشوع، أسلموا والده لجوف القبر، لم يكن متاكدًا أن هذا الجسد هو والده أراد أن ينزل القبر ليتأكد، ولكنهم منعوه، أراد أن يودعه كان يعتقد أنه بإمكانه أن يسمع آخر كلامات أبيه ولكنهم رفضوا حتى أن يراه في القبر.

وما أن أتموا مهمتهم حتى بدأ الناس يأتون ويذهبون من أمامه معزين ومتمتمين بكلمات لم تكن مفهومة له جيد، تقابل مع إخوته فى العودة محمري العيون مغبري الوجوه، تبادلوا النظرات لم يعلم معناها، ولكنها ملطخة بحسرة الحزن وصدمة الفقد، وتقابلوا ثانية في سرادق العزاء وأخيرًا في المنزل بعد انتهاء العزاء، لم يتذكر غير مجموعة من كلمات معزيه كالتي كانت أمام القبر، فى البيت كان الأمر مختلفًا، أمه قد زاد عمرها عشرين عامًا على الأقل، وإخوته يكسوهم حزن، اجتمعوا جميعًا على مائدة الطعام، من شرب جرعة ماء ومن لم يشرب، وقالت الأم: «اذهبوا إلى فراشكم فكلنا مرهقون نحتاج إلى الراحة».

وكانت محاولات فاشلة مع النوم، ما زال لا يستوعب ما يجري من حوله غير مصدق بأن هذا الرجل قد ذهب، ولن يعود، مازال مكان مجلسه المفضل شاغرًا لم يجرؤ أحد على أن يجلس مكانه، كان لديه شعور أنه سيظهر مرة أخرى ببساطة ويطمئن الجميع، ويعود لحياته الطبيعية لبيته وأهله وأرضه، وكلما نظر إلى كم هذه الملابس السوداء التي ترتديها إخوته وأمه يتسرب إلى قلبه الحزن والشعور بالحرمان، وكان يتساءل كيف يقطعون هذا الرجل من أرضه ليضعوه في أقمشة بيضاء ويتركوه في هذا المكان الموحش؟ كيف يأخذونه من أولاده وأحبته؟

ومرت الأيام وما زال يتألم ومع كل حالة وفاة جديدة في العائلة كان يجاهد لنزول القبر لعله يوصله بمن فقد لعله ينقل أنفاسه إلى العالم الآخر ليجدها والده، الأمر الذي جعل أحد الأصدقاء يعلق على انتشار الشعر الأبيض برأسه قالاً «من كثرة نزولك القبور ورؤية الأكفان» بالفعل مرت سنوات عديدة وما زال يشعر بألم الفقد يعتصر قلبه، دائمًا لديه إحساس بالضيق والعجز.

مررت السنوات وقد شاب الصبي تنقل في دروب الحياة وأصبح أحد المسئولين عن أسرته، ولم يعد مجرد معيل فيها مثل ما كان صغيرًا أثناء وفاة والده، وتنقل من عمل لآخر وأصبح مديرًا للمشروعات بإحدى المؤسسات التي تهتم بالقضايا المجتمعية من الجانب النفسي، وأثناء عمله بأحد المشروعات والتي تستهدف تمكين المشاركين من مهارة الوعي الذاتي (النضج النفسي وتنمية مهارات التفريغ النفسي والتلامس مع مشاعر الآخرين) وتحسين الصحة النفسية للأفراد من خلال استخدام وسائل وتقنيات العلاج الجمعي لصناعة تغير حقيقي بخلق حالة من الوعي وفهم ذواتهم وتنمية قدراتهم بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالفائدة.

وكان المشروع يتضمن بعض جلسات الدعم النفسي وتقنيات العلاج الجمعي للأصحاء الجروب ثربي والسيكودراما Group therapy ،Psychodrama، هو: نوع من العلاج يتم فيه اختيار مجموعة من الأشخاص يعانون من مشكلة أو ضغط نفسي واحد أو يشتركون في اهتمامهم بموضوع معين أو لإكساب معرفة حول مواضيع محددة، يقوم بقيادتها معالج متمرن بهدف إحداث تغيير نوعي في شخصياتهم، وفيها يستخدم الميسر التفاعل الذي يتم بين أعضاء المجموعة لإحداث الوعي بالذات وفهم خريطة التفاعلات النفسية.

كان يحضر هذه الجلسات بصفته مديرًا للمشروع ومراقبًا لقياس مدى التغير والتأثير، وفي إحدى الجلسات كان أحد المشاركين يتحدث عن علاقته بابيه فتأثر بكلامه كثيرًا، حينها تذكر أباه حينما كان يجلسه تحت شجرة التوت، كأنه نبت من هذه الأرض فاقبل عليه فتبسم، وقال له بعد أن أوصاه على دراسته والاهتمام بدروسه، ألا ينسي أن يقرأ له الفاتحة على قبره، أخبرني حينها بتفاصيل الموت والدفن وغيرها، لكنه لم يتذكرها يوم موته، لعلها مصيبة الموت أنسته، وفجأة اتجه له المعالج وقال «هل تحب أن تشاركنا بخبرتك عن الفقد؟»، وأردف «محتاجين نسمع خبرتك مع والدك أعلم أنه كان عزيزًا جدًا على قلبك وأنت فقدته» .. نظر مطولاً إلى الأرض في صمت، وأقسم على هذه الدمعة ألا تنزل ولكنها حنست بقسمه، وأمعن النظر في الأرض لعله يتصل بالمكان الذي ابتلع والده، وبدأ يقص عليهم علاقته بأبيه، وختم بقوله «رحمة الله عليه كما رباني صغيرًا لولاه ما كنت ما عليه، ولكني أشتاق إليه، وأنتظر اليوم الذي ألحق به»، ورفع عينيه من الأرض فوجد المشاركين وفي عيونهم مشاركة صادقة لمشاعر الحزن والفقد التي فاضت على المكان.

تحدث بعضهم مشاركين أحزانه وآلامه ومعبرين عن مواساتهم له، وأخيرًا قام ميسر الجلسة ووضع أمامه كرسيًا فارغًا وبعد أن تبادل معه بعضًا من مشاعر المواجدة و المواساة، قال له «أنت لم تودع أباك، قبل الوفاة لم تسلم عليه، هنا.. والآن.. أبوك موجود أخبره بما تريد، واحك له ما شئت وقم بوداعه»، لم يستطع في البداية، ولكن بعد بعض المحاولات الفاشلة ترحم عليه، وبدا بالحديث عن الاشتياق والألم الفقد وحزنه الشديد عليه وأخبره بشيء من أسرار لن يفهمها غيره، وودعه بكلمات فيها من التسليم لقضاء الله وأنه على الطريق كما علمه ورباه.

وبعد انتهاء اليوم أحس براحة نفسية كبيرة، وأدرك أنه يمكنه استدعاء والده في أي وقت والتحدث معه، وأن هذا الاتصال حقيقي فإن الأرواح تشعر بنا وقد تأتينا في المنام أو في طيف ذكرى جميلة، ومن يومها قرر أن يودعه في قلبه بدلاً من القبر، هذه الخبرة علمته كيف يستحضر والده ويتحدث معه وقتما يحتاج إليه، ويودعه في كل مرة على أمل لقاء آخر بعد عبور الخط الفاصل بين الحياة والموت، قد لا يستطيع أن يراه أو يسمع صوته، ولكنه يستطيع أن يستشعر روحه من حوله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.