كان أبو الحسن بني صدر أول رئيس منتخب في تاريخ إيران، ورئيس مجلس الثورة والقائد العام للقوات المسلحة، وتعد قصته مثالًا صارخًا على صدمة جيل الثورة في إيران الذي خاض معركة حياته لإنهاء استبداد الملكية والحكم الفردي ليجد نفسه في النهاية قد وقع فيما هو أشد منه سُلطوية وهو حكم المرشد الأعلى الذي يحكم باسم الإله.

فقد حملت الأقدار بني صدر من حياة اللجوء في المهجر إلى سدة الحكم في أقل من عام، وما هي إلا أشهر حتى حملته طائرة إلى نفس المهجر السابق لكنه في تلك المرة وجد حياته مهددة في كل وقت، تترصده أعين رفقاء الأمس لاغتياله.

الثائر المثقف

ولد أبو الحسن بني صدر عام 1933 في همدان بإيران لأسرة متدينة ودرس بكلية الحقوق والاقتصاد في جامعة طهران وعمل كباحث في معهد الدراسات الاجتماعية بالجامعة، وكان معارضًا لحكم الشاه محمد رضا بهلوي، وتأثر بالميول الاستقلالية لرئيس الوزراء ذائع الصيت، محمد مصدق، وانضم إلى الحركة الوطنية المتأثرة بمصدق.

تعرض للسجن في الستينيات بسبب موقفه السياسي، ثم سافر في منحة علمية إلى فرنسا ودرس هناك المالية والاقتصاد، وصار أبرز قادة الحركة الطلابية الإيرانية المناهضة لحكم الشاه في الخارج، وتعاون بصفته مثقفًا معارضًا مع المرجع الديني روح الله الخميني، وكان يعطيه المشورة السياسية في بعض الأحيان وصار أحد عناصر فريق اللجنة الإعلامية التي تكتب الأجوبة على الأسئلة الصحفية المرسلة للرجل، وأصبح مقربًا منه بشكل أكبر عندما سافر الأخير إلى فرنسا بعد طرده من العراق عام 1978.

خلال الأشهر القليلة التي قضاها الخميني في فرنسا أسهم بني صدر في إعداد التصورات عن الحراك المعارض ومطالبه والدور المتوقع لرجال الدين في الجمهورية المنشودة، وكان هناك تناغم بين الرجلين، فحينما سُئل الخميني عن شكل الجمهورية التي يريدها، قال «إنها تشبه الجمهورية الفرنسية»، ولم يذكر أي شيء عن محتوى كتاب «الحكومة الإسلامية» الذي كتبه قبل سنوات في العراق، وبفضل الأجوبة المعدة من قِبل فريقه الإعلامي نشرت إحدى الصحف الفرنسية صورته على غلافها تحت عنوان «آية الله التحرري».

وحين لاحت بوادر انتصار الثورة وغادر الشاه البلاد، عاد بني صدر إلى طهران على نفس الطائرة التي أقلت الخميني.

في السلطة

يحكي بني صدر أن الخميني ظل يتعامل مع المفكرين خلال هذه الرحلة التاريخية إلى أن وصل إلى باب الطائرة للنزول في مطار طهران، ولحظتها جاء رجلا دين ليصطحباه في ما بدا أنه بداية لمرحلة جديدة بخطاب جديد إذ إنه أخذ يتنصل من الصورة التي رسمها في فرنسا أمام العالم.

تولى بني صدر وزارة الاقتصاد والمالية، ثم مسئولًا عن وزارة الشئون الخارجية، في ذروة أزمة الرهائن الأمريكيين، إذ اقتحمت مجموعة تابعة للخميني سفارة الولايات المتحدة في طهران واختطفت العاملين بها، وحينها ثارت خلافات عميقة داخل النخبة الإيرانية الحاكمة، وبدا موقف الخميني مراوغًا بشكل كبير وغير رأيه المعلن مرارًا من هذه العملية، مما أثار خلافات مع بني صدر بصفته مسئولًا عن العلاقات الخارجية.

حقق بني صدر شعبية جارفة وانتُخب رئيسًا للجمهورية في يناير/ كانون الثاني 1980 وتولى المنصب في الشهر التالي، وعانى من الازدواجية في السلطة فالحكومة تحكم في الظاهر وتتحمل المسئولية لكن اللجان الثورية من المتشددين التابعين للخميني ظلوا أصحاب النفوذ الأكبر عمليًا، فأدرك بني صدر أن الخميني يريد أن يستبدل بديكتاتورية الشاه ديكتاتورية الولي الفقيه، وأنه يريد بناء نظام حكم مطلق على غرار دول أوروبا الشرقية وليس فرنسا كما قال.

فبعد أن تعهد في فرنسا بعدم وصول رجال الدين لمنصب وزير أو ما فوق ذلك، إذا به يمتلك سلطات تفوق رئيس الجمهورية الذي وجد يديه مغلولة بنفوذ الولي الفقيه، وخلال عهده اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في سبتمبر/ أيلول 1980، وبعد صد الهجوم العراقي حاول بني صدر مع الرئيس العراقي صدام حسين إنهاء الحرب لكن جناح الخميني أراد استمرارها لتعزيز قبضته على الدولة واحتواء الجيل الشاب واستنزاف الثوار في الحرب، وعقَد صفقات أسلحة سرية مع الأمريكيين، وأفشل جهود السلام التي بذلها بني صدر بحسب روايته، وبينما كانت هذه الجهود على وشك النجاح وقع الانقلاب على الرئيس في العاشر من يونيو/ حزيران 1981.

وعن سبب عزله من رئاسة الجمهورية يقول «حذّروا الخميني من أنه مع انتهاء الحرب الإيرانية العراقية سيتوجه بني صدر على دبابة إلى طهران ولن تصمد أمامه، لذلك يجب القضاء عليه سريعاً، وأقنعوه في نهاية المطاف بإنهاء حكمي».

اتخذ مجلس الشورى قرار العزل بدعوى عدم كفاءة الرئيس، وأرسل القرار إلى خامنئي ليقره، وقبل الانقلاب شكا بني صدر من تعرضه لثلاث محاولات اغتيال وأعلن للشعب عن وجود روح انقلابية في الدولة، ووجه له البرلمان اتهامات تتعلق بالتآمر على رجال الدين فوجه رسالة إلى الخميني يحذره من أن الإطاحة به تعني الانقلاب على الثورة والشعب والإسلام، ثم توارى عن الأنظار عند بعض أصدقائه لفترة بعد أن اتضح له أن الملالي يريدون اغتياله وليس اعتقاله، قبل أن تتصل به منظمة مجاهدي خلق المعارضة، ورتبوا لهروبه فغادر طهران في يوليو/ تموز 1981 وحلق شاربيه، وصعد إلى طائرة متنكرًا بالزي الرسمي للقوات الجوية الإيرانية طبقًا لروايته، لكن الخميني وأتباعه سعوا إلى تشويه صورته عبر الزعم بأنه تخفى في ملابس نسائية ليهرب إلى الخارج، وحلقت الطائرة فى مسار قريب من الحدود قبل أن تدخل بحركة مباغتة المجال الجوي التركي، واتصل برئيس الوزراء الفرنسي لاستضافته.

في المهجر

فر بني صدر برفقة زوج ابنته مسعود رجوي، زعيم منظمة مجاهدي خلق المعارضة، وشاركا معًا في «المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية» قبل أن يعتزل بني صدر ويقطع علاقته برجوي في أبريل/نيسان 1984.

وبحسب شهادة فيروزه ابنته فقد انفصلت عن مسعود لاحقًا بسبب خلافات سياسية قائلة إن مهرها كان «استقلال» و«حرية» إيران ، ولكن عندما تعاون مسعود رجوي مع العراق الذي غزا الأراضي الإيرانية، كان الأمر بمثابة استرداد للمهر لأنه انتهك استقلال وحرية إيران، وقالت «تحدثنا أنا وأبي وتناقشنا مع رجوي لساعات وحذرناه من عواقب الذهاب إلى العراق والتعاون مع المغتصب، بل إنه علم أن هذا سيكون السبب الرئيسي لطلاقنا، لكن لم نصل إلى نتيجة»، فتزوجَت رجلًا آخر، وعملت كطبيبة للأمراض الباطنية في إحدى الجامعات الفرنسية، وناشطة مهتمة بحقوق المرأة.

وأقام والدها في فرساي بباريس تحت حماية مشددة من الأمن الفرنسي استمرت لعدة سنوات، إذ حاول الملالي اغتياله مرارًا، لكن فشلوا في كل المحاولات، وفي نفس الوقت كانت الإمبراطورة فرح أرملة الشاه تعيش في المنفى ذاته أيضًا.

ومن منفاه الاختياري أكد بني صدر أنه سخَّر جهوده لفضح العلاقة بين الخمينية والأمريكان، وأن إيران عادت للديكتاتورية مرة أخرى تحت حكم المرشد، مبينا أن الخميني غيّر رأيه بشأن ولاية الفقيه خمس مرات، حيث كان رافضًا لهذه الفكرة عندما كان في إيران، ولما ذهب إلى النجف بالعراق أوضح أن ولاية الفقيه تعني تطبيق أحكام الإسلام، وعندما سافر إلى فرنسا دعا إلى ولاية الشعب، وبعد العودة إلى إيران تبنى فكرة إشراف الوليّ الفقيه على الدولة بناءً على القانون الذي أقره مجلس الخبراء في البداية، إلى أن أعلن الولاية المطلقة للفقيه.

وكشف عن مخطط الخميني لتشكيل حزام يمتد من إيران إلى لبنان ويشمل العراق وسوريا، وقال «خيلوا له أنه بالسيطرة على هذه البلدان، وبسبب ذخائر الغاز والنفط، سيصبح سيّدًا في العالم الإسلامي».

ويوجز بني صدر الخلافات في إيران بعد الثورة فيقول، إن النزاع وقع بين أنصار الحقوق المدنية وأنصار الحكم المطلق، وبعد تصفية الاتجاه الأول تكالب الفريق الثاني لتصفية بعضهم البعض واستمرت تلك التصفيات لعقود من الزمن تبعًا لطبيعة هذا الفريق الاستبدادية.

وفضح التفاهمات السرية بين أتباع كل من الخميني ورونالد ريجان، الرئيس الأمريكي الأسبق، فبحسبه اتفق الطرفان على عدم الإفراج عن الرهائن الأمريكيين إلا بعد الانتخابات الرئاسية بالولايات المتحدة من أجل إضعاف موقف الرئيس جيمي كارتر، ومنعه من الفوز بولاية ثانية بسبب فشله في حل أزمة الرهائن، وبالفعل تم تنفيذ الخطة ونجح ريجان وحكم البيت الأبيض لولايتين متتاليتين استمرتا لثماني سنوات من 1981 حتى 1989، وأدلى بني صدر بشهادته حول هذا الأمر للجنة تحقيق في الكونجرس الأمريكي.

ويحكي بني صدر أنه رفض التجاوب مع عرض ريجان بينما تجاوب معه الخميني وشاركت السفارة الأمريكية في مدريد في هذه المباحثات السرية، ولاحقًا تم الكشف عن تفاصيل هذه الصفقات في الولايات المتحدة.

كما تحدث في مقابلاته الصحفية عن مسألة إصرار الخميني على شراء السلاح من الكيان الصهيوني وكيف أن بني صدر لم يقبل أن تشتري إيران السلاح الإسرائيلي لتقاتل به العرب، ويصف صدمته من تحول الخميني، الذي كان يراه كأب له لأن والده رجل دين أيضًا، من فقيه زاهد إلى ديكتاتور دموي قائلًا «كنت مثل الطفل الذي يشاهد بعينيه والده وهو يتحول إلى مدمن خمر».

وعلى مدى أربعة عقود واصل بني صدر نشاطه المعارض لحكم الملالي وتابع إصدار صحيفة «جمهوريت» على فترات متقطعة، حتى وفاته في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2021 وهو في الثامنة والثمانين من العمر.