هذه تربة العبد الغريب الوحيد، علي بن أبي بكر الهروي. عاش غريبًا ومات وحيدًا، لا صديق يرثيه، ولا خليل يبكيه، ولا أهل يزورونه، ولا إخوان يقصدونه، ولا ولد يطلبه، ولا زوجة تندبه. آنس الله وحدته، ورحم غربته.
مما كُتب على قبر أبي الحسن الهروي السائح بعد وفاته

يعد أبو الحسن علي بن أبي بكر الهروي واحدًا من مشاهير الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين خلال القرنين السادس والسابع الهجريين؛ لما انفرد به من وصفات جغرافية ضمَّنها كتابه «الإشارات إلى معرفة الزيارات»، وما اشتهر به من كتاباته الجغرافية النادرة، فإنه «لم يرد مدينة إلا وكتب في المواضع المشهورة بها بخطه، فقلّما يخلو موضع مشهور من مدينة إلا وفيه خطه، والناس في هذا الباب بعده عيال عليه».


مولده ورحلاته

الشيخ الإمام السائح الزاهد تقي الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر بن علي الهروي، الموصلي، الحلبي، الرحالة، المؤرخ. أصله من هراة، إحدى مدن خراسان، ومولده بالموصل في شمال العراق سنة 542هـ / 1147م. والحق أنه لا تتوفر معلومات حول حياته الأولى ونشأته، غير أنه كان مولعًا بالرحلة، فطاف البلاد، وأكثر من الزيارات، فإنه لم يترك برًا ولا بحرًا ولا سهلًا ولا جبلًا من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، وقد حمله التطواف إلى صقلية، واجتمع فيها إلى أحد زعماء المسلمين هناك يعرف بابن الحجر أرسل معه رسائل إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي يحثه فيها على أخذ صقلية من النورمان، ولكن المركب غرق، وركب الهروي في مركب آخر إلى قبرص، وكاد أن يؤسر.

سمع في رحلته إلى الإسكندريةمن الشيخ المحدّث أبي طاهر السِّلَفي، وسمع في مكة من الشيخ أبي المعالي عبد المنعم بن أبي البركات الفُراوي، سمع منه الأربعين السباعية. وروى عنه الصدر البكري وغيره، وكان لا يصل إلى موضع إلا كتب خطَّه في حائطه، فقلما يخلو موضع مشهور من مدينة أو غيرها إلا وخطّه فيها، حتى اشتُهر بذلك، وضُرب المثل به. قال جعفر بن شمس الخلافة يصف رجلاً يستكدي بأوراقه شعر:

أوراقُ كُدْيته في بيتِ كلِّ فتًى *** عَلَى اتِّفاق معانٍ واختلاف روي قد طبَّقَ الْأرض من سهلٍ إلى جبلٍ *** كَأَنَّهُ خطُّ ذاك السائح الهَرَويّ

قال الزركلي: «ذكر بعض رؤساء الغزاة البحرية أنهم دخلوا في البحر الملح إلى موضع وجدوا في بره حائطًا وعليه خطه». وقال ابن المستوفي الإربلي: «وردَ مدينة إربل، وامتدح بها قاضيها ..، فيه فضل وعنده أدب وذكاء، وكان خرَّاطًا، ولم يرد مدينة إلا وكتب في المواضع المشهورة بها بخطّه، فقلّما يخلو موضع مشهور من مدينة إلا وفيه خطه، والناس في هذا الباب بعده عيال عليه».

وقد عرف بالسائح الهروي؛ لأنه قضى حياته مرتحلاً في أنحاء المشرق والمغرب الإسلامى، وفي الهند ومصر وغيرهما، وفي ذلك يقول ابن خلكان: «الشيخ علي الهروي ..، السائح المشهور نزيل حلب؛ طاف البلاد وأكثر من الزيارات، وكاد يطبق الأرض بالدوران، فإنه لم يترك برًا ولا بحرًا ولا سهلاً ولا جبلاً من الأماكن التي يمكن قصدها ورؤيتها إلا رآه، ولم يصل إلى موضع إلا كتب خطه في حائطه، ولقد شاهدت ذلك في البلاد التي رأيتها مع كثرتها، ولما سار ذكره بذلك واشتهر به ضرب به المثل فيه».

وحين كان في بغداد، صنف خطبًا يُخطب بها في الجمع والأعياد، وقدمها إلى الخليفة الناصر لدين الله، وسمى مصنفه «الخطب الهروية للمواقف المعظمة الناصرية»، فتقدم الخليفة بتوقيع له بالحسبة في سائر بلاد الإسلام، وإحياء ما شاء من المَوات، والخطابة بجامع حلب، وكتب توقيعه بيده ليتشرف به، غير أن الهروي لم يباشر شيئًا من ذلك.


صحبته للظاهر غازي الأيوبي بحلب

استقرت بالهروي الحال بمدينة حلب عند سلطانها الملك الظاهر أبي المظفر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، وكان الهروي يُعرف سحر السيمياء، فتقدم به عند الملك الظاهر غازي صاحب حلب، وصار أثيرًا عنده، فطاب له المقام بها، وكان له من الظاهر غازي الحرمة الظاهرة، والمنزلة الوافرة. وكان الملك الظاهر يزوره كل عام، وقد أثرى من نعمته. وبلغت منزلة الهروي أنه كان سفيرًا للملك الظاهر في بعض وقائعه، ومن ذاك أن الظاهر غازي أرسل الهروي إلى الملك المنصور صاحب حماة يطلب منه أن يسير معه، ويساعده على محاربة الملك العادل الأيوبي، وذلك سنة 597هـ / 1201م. وفي سنة 609هـ / 1212م أرسله الظاهر للصلح بين عز الدين كيكاوس سلطان سلاجقة الروم وأخيه علاء الدين كيقباذ، فلم يتم الصلح بينهما.

وبنى الظاهر للهروي مدرسة في خارج حلب تُعرف بالمدرسة الهروية، ودرَّس بها. وقد كتب الهروي على حائط الموضع الذي كان يلقى فيه الدروس من المدرسة المذكورة هذين البيتين:

رحم الله من دعا لأناس *** نزلوا هاهنا يريـدون مصـرا نزلوا والخدود بيض فلما *** أزف البين عدن بالدمع حمرا

وفي حلب بنى أبو الحسن علي الهروي رباطًا ووقف عليه وقفًا، جاء في نص الوقفية على حائطه: «بسم الله الرحمن الرحيم. وقف هذا الرباط العبد الفقير إلى رحمة الله، علي بن أبي بكر الهروي، على الفقراء الصالحين المتدينين -تقبل الله منه ورحمه- وذلك في سنة 602هـ (1205م)».


كُتبه

ومن أشهر كتبه «الإشارات إلى معرفة الزيارات» ذكر فيه المزارات والمشاهد التي رآها في رحلته. وكتاب «التذكرة الهروية في الحيل الحربية» وهو من كتب السياسة والحرب، ضمّنه مايحتاج إليه الملوك في سياسة الرعية، وما يعتمدون عليه في الحرب، وما يدّخرونه لدفع المشكلات، مما يؤول إلى بقاء دولتهم وحفظ بلادهم. وكتاب «الخطب الهروية للمواقف المعظمة الناصرية»، وهو الذي جمع فيه الخطب المنبرية للخليفة الناصر لدين الله ببغداد. وعكف على تدوين رحلته في كتاب سماه «منازل الأرض ذات الطول والعرض» استوعب فيه ما وصل إليه في سياحته، وتمت كتابته سنة 602هـ / 1205م.

الإشارات إلى معرفة الزيارات

سجّل الهروي في كتابه «الإشارات إلى معرفة الزيارات» بعضًا من الشئون المتصلة به، فتراه في فلسطين سنة 569هـ، يزور القدس والخليل وغيرهما، ويصل إلى ثغر عسقلان في العام التالي. وفي العام نفسه كان في الإسكندرية يسمع الحديث عن السِّلَفي، ويتجوّلُ في الديار المصرية حتى أسوان، ويحل عام 572هـ وهو لا يزال في مصر. وقد حمَله التطواف إلى شمال أفريقية وصقلية، وفي هذه الجزيرة شاهد بُركان اتنا، واجتمع إلى أحد زعماء المسلمين هنالك وهو أبو القاسم ابن حمّود المعروف بابن حجر الذي أرسل معه رسائل إلى السلطان صلاح الدين يحثّه فيها على أخذ صقلية من يد النورمان، لكن المركب غرق وركب الهروي في مركب آخر إلى قبرص؛ وفي عام 588هـ أخذَ الفِرنج كُتبه، ثم إن ملك الانجليز أرسل الهروي رسولًا يطلب الاجتماع به ووعده برد كتبه ولكنه لم يمض إليه.

وكان من الطبيعي لدى الهروي -وهو الذي ارتحل من أجل رؤية الآثار والمزارات- أن يتجه اهتمامه إلى رؤية آثار مصر ومزاراتها، فهذه مصر ماثلة أمامه بآثارها القديمة، تحكي أمجاد هذا البلد العريق، وتكشف عن دوره الخالد في خدمة الحضارة الإنسانية، وإذا كان الرحّالة المسلمون على عهد الهروي ومن بعده، قد باعدَ الزمانُ بينهم وبين هذه العصور السحيقة، فكانوا لا يعرفون حقّ المعرفة ما تمثّله هذه الآثار وما عليها من كتابات ونقوش.

ومن ثمّ كان عملُ الهروي شاقًّا وعسيرًا في كتاباته عن هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر: وذلك بسبب افتقار الباحثين في التاريخ القديم من حيث الخبرة بالكشوف واللغة الهيروغليفية، وهي أمور لم يصل العلم إلى كشف أسرارها إلا في مطلع العصر الحديث، ولذا لم يكن عجبًا أن يلتمس هذا الرحالة سبيله إلى هذه الحقبة الخالدة من تاريخ مصر عن طريق القصص التي رددتها شفاه المعاصرين له، والتي امتلأت بها مجالسهم الخاصة والعامة، ولا ينقص من قيمة هذه المحاولة أن القصص التي سردها الهروي حفلت بالخيال الواسع، أو لأنها ابتعدت عن منهج البحث الذي نعرفه في وقتنا الحاضر، إذ يكفي هذا الرحالة فخرًا أنه نجح في إشارة غريزة حب الاستطلاع عند المصريين في تاريخ وطنهم القديم، وتلمس الروابط القيمة بين حاضرهم إذ ذاك وماضيهم التليد.

ولم تكن الآثار وعجائب المبانى بمصر هي التي شدت انتباه الهروي فحسب، بل إن نيلها وجوها ونباتها وزهورها كان له في نفس الهروي الشيء الكثير، وفي ذلك يقول: «فإن ديار مصر ونيلها من عجائب الدنيا، ورأيت بها في آن واحد مجتمع وردًا ثلاثة ألوان، وياسمينًا، ونيلوفرًا لونين، وآسًا، ونسرينًا وريحانًا ونبقًا وأترنجًا وليمونًا مركبًا وموزًا وجميزًا وحصرمًا وعنبًا وتينًا أخضر ولوزًا وفقوسًا وبطيخًا وباذنجان وباقلا أخضر وخسًا والبقول والرمان وهيلونًا وقصب السكر». كما يعجب بمباني مصر ومقابرها الأثرية بالصعيد. هذا وقد اعتمد ياقوت الحموي في كتاباته إلى حد كبير على المواد التي تناولها الهروي في كتاباته، ونقل الكثير منها نقلاً حرفيًّا.


وفاته

ظلَّ أبو الحسن الهروي مُقيمًا في حلب يحظى فيها برعاية الملك الظاهر غازي حتى وافته المنية، في العشر الأوسط من رمضان سنة 611هـ / 1215م، عن تسع وستين سنة. ودفن بقبة جانب مدرسته الهروية، بظاهر مدينة حلب على الجادة الآخذة إلى دمشقعلى جانبها الغربي، وهو مكتوب على الصخر، ما هذه صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم. سبحان مشتت العباد في البلاد، وقاسم الأرزاق في الآفاق. سير قومًا إلى الآجال وقومًا إلى الآمال. هذه تربة العبد الغريب الوحيد، علي بن أبي بكر الهروي. عاش غريبًا ومات وحيدًا، لا صديق يرثيه، ولا خليل يبكيه، ولا أهل يزورونه، ولا إخوان يقصدونه، ولا ولد يطلبه، ولا زوجة تندبه. آنس الله وحدته، ورحم غربته. وهو القائل: سلكت القفار، وطفت الديار، وركبت البحار، ورأيتُ الآثار، وسافرت البلاد، وعاشرت العباد، فلم أجد صديقًا صادقًا، ولا رفيقًا موافقًا. فمن قرأ هذا الخط فلا يغتر بأحد قط:

طفتُ البلاد مشارقًا ومغاربًا *** ولكـم صحبت لسائح وجليس ورأيت كل غريبة وعجيبة *** ولقيت هولاً فــي رخاي وبوسي أصبحت من تحت الثرى في وحدة *** أرجو إلهي أن يكون أنيسي

قال ابن خلكان في ترجمته: «رأيت في قبته معلقًا عند رأسه غُصنًا وهو حلقة خلقية ليس فيه صنعة، وهو أعجوبة، وقيل إنه رآه في بعض سياحاته فاستصحبه، وأوصى أن يكون عند رأسه؛ ليعجب منه من يراه».

ومن المواعظ التي على تربته؛ من كلامه:

قل لمن يغتر بالدنيا وقد طال عناه *** هذه تربة من شيد هذا وبناه طالما أتعبه وقد هدّ قواه *** طلب الراحة في الدنيا فما نال مناه!
المراجع
  1. – الهروي: الإشارات إلى معرفة الزيارات، تجقيق: علي عمر، الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1423هـ.
  2. – ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس (دار الثقافة، بيروت، د.ت).
  3. – ابن المستوفي الإربلي: تاريخ إربل، تحقيق: سامي بن سيد خماس الصقار، الناشر: وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد للنشر، العراق، 1980م.
  4. – الصفدي: الوافي بالوفيات، تحقيق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، الناشر: دار إحياء التراث – بيروت، 1420هـ / 2000م.
  5. – ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق جمال الدين الشيال، الناشر: دار الكتب والوثائق القومية – المطبعة الأميرية، القاهرة، 1377هـ / 1957م.
  6. – محمد راغب الطباخ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، صححه محمد كمال (دار القلم العربي، حلب 1989م).
  7. – الذهبي، سير أعلام النبلاء (مؤسسة الرسالة، بيروت، د.ت).
  8. – أبو ذر سبط ابن العجمي: كنوز الذهب في تاريخ حلب، الناشر: دار القلم، حلب، الطبعة: الأولى، 1417هـ.
  9. – الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر، مايو، 2002م.
  10. – إبراهيم الزيبق: الهروي (علي بن أبي بكر)، الموسوعة العربية العالمية، المجلد الحادي والعشرين، ص455.