كنت كلما دخلت ميدان التحرير بزيي الأزهري أثناء الثورة المصرية في يناير من عام 2011م أجد أحدهم وقد اقترب مني معنفًا صارخًا وقد أخذ كتفي بكلتا يديه وأخذ يهزه بشدة وهو يقول:

انتوا فين؟ فأتساءل متحيرًا: احنا مين؟ فيقول: انتوا الأزهريين! لماذا لا تأتون إلى الميدان؟ فأقول له: طيب ما أنا هنا أهو! فيقول: إنت جاي متأخر ليه؟ لسة فاكر تيجي دلوقتي؟ وبعدين أصلا مش كفاية وجودك لوحدك، امشي روح هات اصحابك وزملاءك من مشايخ الأزهر وطلابه فلا يليق بكم أن تغيبوا عن هذا الحدث الجلل في تاريخ الأمة. فأعده أن أفعل وأشكره ثم أنصرف فأجد بعد خطوات رجلا آخر يمسك كتفي بكلتا يديه وقد أخذ يهزه بشدة وهو يعيد السؤال مرة أخرى: انتوا فين؟ ثم يتكرر حوار كالذي سبق!

أنصرف من هذا المشهد المتكرر في كل مرة بعدد من الأسئلة المتعجبة، من هؤلاء؟ ولماذا يسألون بهذا القدر من العنف؟ ولماذا يسألون عنا؟ ولماذا يعتبرونني متحدثا باسم الأزهر والأزهريين لمجرد أنهم رأوني ولا يعرفون اسمي ولا شيئا عني إلا أني رجل يرتدي زيا أزهريا؟ ثم هل من المفيد أن أخبر سائلي هذا أني كنت في الثورة من يومها الأول، أعني يومها الأول حرفيًا (الثلاثاء 25 يناير 2011) وأني قد غبت عن جمعة الغضب اضطرارًا لوجودي في سجون مبارك من الخميس 27 يناير إلى السبت 29 يناير 2011، هل من المفيد أن أقول له إن كل أصدقائي ومشايخي الشرفاء من الأزهريين كانوا في الميدان بينما هو يتساءل بشدة عن وجودهم؟ وهل من المفيد أن أخبره كذلك أنه لو لم أكن موجودًا الآن لما استطاع أن يتوجه إليّ بهذا السؤال؟ ولو أنني في بيتي الآن لما رآني ولما عنفني ولما تكبد من هذا العناء شيئا؟ هل من المفيد أن أخبره بكل ذلك أو بشيء منه؟

أفكر قليلا ثم أقول لنفسي: لا؛ هذا لا يفيد في شيء! الرجل غاضب متسائل عن الأزهريين ويستحث المزيد من المشاركة الفعالة منهم وسيبدو كلامي بالنسبة له تبريرًا غير ذي معنى، أنه غاضب الآن ولا يحتاج إلى ردود منطقية عقلية بقدر حاجته إلى التفهم النفسي والمشاركة الشعورية ومحاولة أن أكون وإخواني عند توقعاته منا بقدر ما نستطيع وبقدر ما نتلمس رضى الله تعالى أولا وآخرا فإن رضا الناس غاية لا تدرك، أو على وجه الدقة هي ليست غاية أصلا.

هذا الموقف تذكرته أمس وقد قرأت رسالة غاضبة من إحدى الأخوات في فيسبوك تقول لي فيها: أين أنتم من منصات التواصل الاجتماعي؟ لماذا لا تشاركون؟ لماذا لا نراكم؟ أين أهل العلم بالقرآن والسنة وعلوم الشرع الشريف؟ لماذا لا تعلقون على ما يحدث في حلب؟ لماذا تبتعدون عنا ولا تحاوروننا ولا تجيبون على أسئلتنا؟ لماذا تنتظرون أن يأتي الشباب إليكم ولا تذهبون أنتم إليهم؟ لماذا تتركون الساحة خالية للجهلاء يضلون الناس ويفسدون عليهم دينهم وفطرتهم؟ لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ أسئلة كثيرة صادقة غاضبة وجهتها لي ولغيري أختنا السائلة عبر فيسبوك تقول فيها : لماذا لا تشاركوننا في منصات التواصل الاجتماعي أي السوشيال ميديا حسب تعبيرها!

لو أنها سألتني هذا السؤال عبر الفاكس أو رسالة ورقية مرسلة بالبريد مع خطاب بعلم الوصول أو أرسلت تليغرافا بمرادها فربما كان الأمر مفهوما بالنسبة لي إذ أنها ترى أني أستخدم وسائل للتواصل عفا عليها الزمن وهذا مما لا ينبغي كما تظن هي – جزاها الله خيرا وبارك فيها – أما أن تتحدث عبر فيسبوك وتشير لي ولعدد من أساتذتي وتقول: لماذا لا تشاركوننا في السوشيال ميديا ثم يعلق كثير من المعلقين والمعلقات بالموافقة على كلامها والتأييد الكامل له فأمر مثير للتعجب بالنسبة لي غير أنه مفهوم في إطار حرصهم وغيرتهم بارك الله فيهم.

لكن لماذا أكتب هذا الآن؟

أكتبه لأجيب عن هذا السؤال المهم: أين أنتم؟ وهو سؤال يوجهه كل الناس لكل الناس، ولكن توجيهه إلى أهل العلم وطلابه يجعل له أهمية زائدة ذلك أن المتوقع من هؤلاء أن يكون لهم دور بارز في مثل هذا الأمور إذ هم المعنيون بتوجيه الأمة والإجابة عن أسئلة السائلين وإرشاد الناس إلى ما يصلحهم في أمر آخرتهم بل وأمر دنياهم أحيانا، لذلك أقول: إن الإنسان يحتاج ولا بد إلى من يأخذ بيده ويساعده في سلوك طريق الحق، لذلك أمر الله تعالى نبيه أن يصبر نفسه مع المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، وهذه الصحبة المؤمنة هي التي تعين الإنسان على أن يجد إجابات عن الأسئلة المهمة التي تعنيه في حياته.

وقد سألت هذه الأخت وسأل معها غيرها كثير مخلصون صادقون: ماذا ينبغي أن نفعل الآن؟

فلها ولكل من سأل هذا السؤال المهم المتكرر في كل مصيبة تحل بالأمة أقول: الجواب هو كما قال شيخنا حفظه الله:

العمل الواجب هو مداومة عمل الواجب!

إن الساعة حين تقوم وأنت تزرع الفسيلة فإن الله تعالى لم يكلفك أن تفعل شيئا مختلفًا إلا الاستمرار في زرعها، وإن قامت وأنت تلاعب طفلك أو طفلتك فلا تتوقف عن هذا الملاعبة الجميلة لأن الساعة تقوم، وإن قامت وأنت تقرأ درسًا من العلم فلا تتحول إلى غيره ، وإن قامت وأنت تشتري أغراضًا لأمك من السوق فواصل ما أنت فيه من قضاء الحاجات!

ليس في ديننا ولولة ولا بكائيات توقف العمل، بل التأسي والاعتبار بما كان، والاستعداد لما سيكون بقدر الطاقة وبلا تحميل للنفس فوق طاقتها مما يورث اليأس والإحباط، ولا تراخ عن العمل مما يورث الفتور والتكاسل والرفاهية، بل موازنة وعمل مستمر في إطار القدرة، فإن الواجبات كثيرة جدا، والواجب على كل شخص هو الممكن المتاح بالنسبة له، فإن تعددت الممكنات تخير أفضل ما يحسنه منها، وواجب زماننا هذا هو: المداومة في بناء الذات المقاومة، وهذا يحتاج إلى تفصيل حديث ربما نجعله في لقاء آخر إن شاء الله تعالى.

والله أعلم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.