وراء كل رجل عظيم امرأة.

لطالما سمعنا جملة «وراء كل رجل عظيم امرأة»، امرأة تُوفِّر له سبل الراحة، تحمل عنه صغائر الهموم، تهيئ له غرفة المكتب للعمل وتزيح عنه الدخان ليركز، زوجته كانت أو أمه، دائماً هناك امرأة تجمع المشتتات المبعثرة في طريقة كما تجمع الأم لعب أطفالها الصغار بعد اللعب حتى يركز، وكان يُنظر لكل هذا أنه نجاح للمرأة ذاتها، فإن كانت الزوجة فنجاح زوجها يعني نجاحها، وإن كانت الأم فنجاح الابن يعني تعويضاً لها عن صبرها، وراء العظماء نساء، لكن ماذا عن النساء العظيمات منْ وراءهن؟

كلما رأيت فتاة أو امرأة لامعة، ناجحة، تُلوّح لنا من القمة، لمحت وراءها شخصاً يمثل دائرة دعم، على أن يكون شخصاً ذا قوة في المنظومة الأبوية، وأعني بذلك رجلاُ ما، الأب أو الزوج أو الأخ أو حتى الأم في غياب العنصر الرجالي عن المنزل باعتبارها ممثل المنظومة الأبوية، في مجتمعاتنا العربية.

سلم النجاح للرجال فقط، وعلى النساء التوجه إلى الحبال للتسلق إن لم يكن معها رجل يدعمها حتى النهاية -التي لن تبلغها إلا بشق الأنفس في أفضل الظروف- يمسك بيدها ويسير معها على السلم رغم أنف الجميع، يخبرهم طوال الرحلة أنه يدعمها ويشجعها، أو حتى يسمح لها بمواجهة الجميع بمفردها، دون تدخل سلبي أو عرقلة. أقصى أنواع الدعم أحياناً يتمثل في الصمت، إن لم يكن ينوي أن يفعل خيراً، فليصمت ويتنحى جانباً.

طيور بلا ريش

في حياتنا -نحن النساء- داخل هذه المجتمعات، الموهبة وحدها لا تكفي، من الصعب أن تنجح امرأة في شيء ما لأنها موهوبة، ذكية، كل هذه الأسباب تحتاج بصورة أو بأخرى لوجود ذكوري في ظل المجتمعات الأبوية. ماذا يعني أن تكوني طالبة نجيبة في قرية في أعماق الريف المصري حيث من الشائع تسريب الفتيات للزواج؟ أو تكونين الأقدر والأكفأ على القيام بمهام وظيفية معينة وأنت من أسرة ترفض عمل الفتيات جملة وتفصيلاً؟ أو طالبة جامعية تستحق منحة دراسية في بلد آخر وأنت من بيت يرفض سفرك لمحافظة أخرى داخل حدود بلدك حتى؟ يعني ببساطة أنك طائر بلا ريش، تملكين مقومات الطيران لكنك بلا ريش، ترفرين داخل قفص ضيق للغاية.

لقد تعلمنا الدرس منذ الصغر، أبواب الدنيا لا تُفتح للفتيات بذكائهن وطموحهن وحده، إمّا أن يملك رجل مفتاحاً ما، كزوج يحمل عنها ثقل الحياة قليلاً، أو أهل لا يمانعون دق الأبواب عنها، أو حتى عائلة فقط تبقى صامتة لا تُشكِّل عائقاً إضافياً لها، فكم من عائلة نتفت أجنحة بناتها بحجة «تزوّجي أولاً ثم افعلي»، أو بحجة عدم حاجة الفتيات للعمل وبالتالي إلى لمس النجوم بطموحاتهن، وإمّا أن تكسر الواحدة منا الباب بنفسها، وهو ما أشبه بمعجزة.

شهدت عديد من الأحلام التي تم وأدها طور التكون، كثير من الفتيات الناجحات أغلقت أبواب المنازل المحافظة دونهن، فلا سبيل للتفوق في العمل دون أن يسمح الأهل بالعمل في المقام الأول، أو الدراسة لتوفير عمل مناسب.

منْ يُقرِّر المستقبل؟

إن تفكرت في رفض كثير من الأسر لكثير من الفرص لفتياتهم، فلن تحصل على إجابة سوى «رأي الناس»، ما زال السؤال الاستنكاري يجد لنفسه مكاناً داخل نقاشات الفتيات بأسرهن «الناس هتقول علينا إيه»، في الغالب يكون رأي الناس هو السبب، حتى وإن طرحوا أسباباً أخرى في بعض المواقف، لأنها أسباب تمنح الناس فرصة للانتقاد لا لإيمانهم بها، فلو وجدت أسرة بها شيئاً من الموافقة والتشجيع، لرأيتها تخاف من الناس، من نظرتهم وتقييمهم لها وسط المجتمع بناء على مدى موافقتهم لبناتهم.

لا يتوقف الأمر على وجود دوائر دعم لكل امرأة -وإن كانت العامل الأقوى- إذ إنك ترى في مجموعات الفيسبوك منشورات لفتيات يسألن عن تفاصيل السفر للعمل أو الدراسة، ثم يلحقن حديثهن بموافقة الأهل ويشددن ويأكدن على قبول الأهل بهذه الخطوة، لكن هل يمنع هذا المجتمع من إبداء التذمر؟ لا.

حتى وإن كان صاحب المنشور هو دائرة الدعم بنفسها، فأذكر أن طبيباً كان يستشير باقي زملائه على تلك المنصة في أيهما أفضل لابنته خريجة الطب، تسافر بعد التخرج مباشرة أم تبقى قليلاً. ترك الناس سؤاله كاملاً بكل تفاصيل استفساره، وتساءلوا كيف يمكن أن تسافر؟ كيف يوافق؟ والأفضل أن يسعى لتزويجها.

دوائر دعم النساء تتم محاربتها كثيراً، كيف تسمح لابنتك بكذا وكذا، منْ يقبل أن تفعل زوجته كذا فهو ليس برجل منّا، لا تقبل بامرأة أنجح منك، وهكذا، تبقى المرأة وأهلها يحاربون على جبهات مختلفة، فهي تخوض صعاب العمل والتحديات، ويخوضون هم فوضى إقناع أشخاص لا يعرفونهم بأنهم موافقون، نعم موافقون ويقبلون بهذا.

الحقيقة أن هذا الأمر أكثر ما يثير الدهشة، فالمرء منهم لا يتوقف عند تقييد حرية منْ يشاركنه الدماء سواء أخته أو زوجته أو ابنته، لكنه أيضاً يسعى وراء حريات الأخريات، منْ هن بعيدات عنه مكاناً ومكانة، وكأنما يخشى كونه المستمع والمستجيب الوحيد لتلك الأعراف، فيريد أن يرى كل من حوله مثله، حتى لا يُجبر على مساءلة نفسه ليلاً إن كان اتخذ الطريقة الأنسب، ففي النهاية أن تكون وسط جماعة تتبنى نفس الرأي ونفس الاستجابة لهو آمن من أن تضطر للتفكير بمفردك، فحين يسوء الأمر ستلقي باللوم عليهم، «هذا ما تربينا عليه» ويتبعها قائمة من الممنوعات على الفتيات حصراً ولن تتحمل المسئولية بمفردك حتى بعد اتخاذك أنت القرار، إن لم يلمك أحد فأنت المحافظ على قيم المجتمع، وإن تعرضت للملامة فإنه خطأ المجتمع ككل.

نساء ضد نساء

الأكثر بؤساً أن هذه الهجمات لا تأتي من الرجال وحدهم، وإنما تقودها نساء أخريات، أغلب الظن أنهن ممّن حُرمن الطيران بحجة الأعراف والعادات والتقاليد، فتراهم يهاجمن بشراسة أي شيء من حقه أن يدفعهن لتحسس ريشهن المنتوف، فما حدث لهن هو الأصح، هو الأفضل وهو ما يجب أن يحدث لجميع النساء.

كنت قرأت عند أحد المغردين عبارة «‏النّساء اللواتي مُنعن من الرّكض، سَيلدن نساءً بأجنحة». والحقيقة ربما، أن النساء اللواتي مُنعن من الركض ينتفن أجنحة بناتهن، إلا تلك المحظوظات.

أمّا وعن البقية، فينقسمن بين منْ تُخبِر الأخريات أنهن يستطعن، بلا خطة ولا كيفية ولا خطوات واضحة، فقط يستطعن واقفزي واسبحي عكس التيار، دون تقديم يد المساعدة عند الغرق، وأخريات ينظرن للمنوعات من الحلم، يخبرهن أن هذا خير لهن، «ده أنا نفسي مشتغلش»، وتُعدِّد مساوئ عملها، لكنها لا تتوقف أبداً عن العمل والتقدم.

إن نجاحنا نحن الإناث يتحقق في الواقع فقط في حالة وجود أشخاص يقبلونها، لا يجهضون أحلامنا، من نجحن بمفردهن، إنهم خارقات للعادة، خارقات لطبيعة المجتمعات العربية، أحلام النساء رهن الأسر، فقبل أن نوجه حديثاً حاراً للنساء حول الأحلام والطيران، الأهم أن نغير أفكار المجتمع، الذي يشكل ويسهم في تشكيل العقبات، أن نضمن وجود الريش.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.