أردنا العشق لغير الله؛ فأبى العشق إلا أن يكون لله.
عبد الرحمن أبو ذكري

يرى علي عزت بيغوفيتش، مُحقًا؛ أن العشق لا يسكُن إلا القلوب التي تتجرَّد من ذواتها، ولا يطمئن أبدًا لمساكنة أصحاب القلوب الأنانية المتمركزين حول ذواتهم. وقد كان مكسيم غوركي يَنقِلُ عن تولستوي قوله إن العشق تجسيدٌ للإيمان، وأن غير المؤمنين لا يُمكنهم تجاوز ذواتهم إلى حب من سواهم؛ فهُم أرواحٌ أنانية شاردة عقيم. أرواح شاردة عقيم لأن كل عشقٍ مُساكنة مُثمِرةٌ، ولا تكون المساكنة إلا بعد سكنٍ إلى من عشقت واطمئنان إليه.

إن كل إيمان هو في جوهره تجاوزٌ للذات، أيًا كان موضوع هذا الإيمان وطبيعته. ومن ثم كان كل إيمانٍ في أصله عشق، وكل عشقٍ طريق قد يحملُك للإيمان. الإيمان بشيء متجاوِزٍ لك. ويبدو هذا الإدراك واضحًا في حديثه صلى الله عليه وسلم عن النيات في الأعمال، وهو حديثٌ يجدُر تأمله لارتباطه بالهجرة.[1] ليست الهجرة المكانية فحسب، وإنما الهجرة النفسية وتزكية النفس.

ذروة التحقُّق الإنساني أن يكون أخص خصائص الجبلة البشرية، وأكثرها استعصاءً على الرياضة والتزكية، تابعًا ومُسخرًا لما أنزل على محمد

وتأمَّل كيف فصَلَ صلى الله عليه وسلم، في أحد شطري الحديث؛ بين الدنيا التي يطمع المرء أن يُصيبها، وبين المرأة يُريدُ نكاحها؛ فكأنما المرأة التي يُرتحلُ إليها هي دُنيا أخرى كاملة، عالم لا يقوم بالدنيا التي يطمع المؤمن في إصابتها، بل قد يقوم بمعزلٍ عنها؛ فيُغني عنها كل الغنى! ذلك أنه إيمان حقيقي بأن امرأة ما قد تكون هي فردوسك الأرضي، وربما الأخروي، وربما هُما معًا.

ثم تجد سيد السالكين، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؛ يضع هذه الدُنا البهيجة كلها في كِفة، والهجرة لله ورسوله في كفة أخرى. وهذا ليس للموازنة بينهما بحال، فما من وجهٍ للمقارنة ابتداءً؛ ذلك أن معايير الإيمان تجعل الهجرة لله ورسوله أرقى مراتب السلوك. مرتبة لا تُدرَك بشيء ويُسخَّر لها كل شيء: الدنيا التي تطمع أن تُصيبها، والمرأة التي تُريد نكاحها والتنعُّم في فردوسها. وحتى حين يبدو لأصحاب النظرة العجول أن القرآن يُفاضِل بين الكفتين؛[2] فإنه في حقيقة الأمر تقريعٌ لمن وقفوا على طلب هذه الأهواء المجبولة، فلم ترتق بهم إلى المرتبة الأعلى: حب الله ورسوله، والذي يحدوهم للجهاد في سبيله.

لم ترتق بهم إلى المرحلة التي وصفها صلى الله عليه وسلم بقوله: «…حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به». أي أن يكون أخص خصائص جبلته البشرية، وأكثرها استعصاءً على الرياضة والتزكية؛ تابعًا ومُسخرًا لما أنزل على محمد، يدور معه حيث دار. وهذه هي ذروة التحقُّق الإنساني، والتي تحفظ نقاء التوحيد بغير نطاعة محاكمة أعمال القلوب للسفسطات الكلامية النظرية. ذلك أن القلوب المُخلِصة وحدها هي التي ترتقي درج الهوى إلى رحاب الطاعة، وترقى مدارج الدنيا إلى جِنان اﻵخرة. ولا ينفع القلب آلاف الكُتب العقدية ما غفل عن شهود الآخرة في الدنيا، وقعد عن طلب الدنيا للآخرة.


تبدو هذه المشاعِر المجهضة والمبتورة، والعجز عن الترقي في مدارج السلوك؛ شديدة الجلاء في رواية مصطفى مستور: «وجه الله». وذلك كما تتجلى فيها عدَّة محاولات ناجحة لتجاوز الذات والأهواء المفطورة إلى حب الله، أو إلى وجه الله تعالى. فتبدو المعاناة واضحة في حب بطل الرواية لزوجه، وهي معاناة مُرتبطة بحيرته وبحثه عن الله؛ إذ تستشعِرُ أن حبه لها هو اﻵخر مختنقٌ منقوصٌ مشلول، فهو لا يستطيع أن يترك نفسه على سجيتها لتنساب بهذا العشق،كما تفعل زوجه؛ التي تتحرَّر بالعشق للدرجة التي تُقرر معها التخلي عن معشوقها إن هو تخلى عن إيمانه. ليبدو إدراكها واضحًا أن تجاوزه لنفسه لن يتحقق بصورة كاملة إذا لم يصل إلى الله.

تعرض مصطفى مستور للعجز عن الترقي في مدارج العشق، من خلال عجز البطل عن ترك ذاته تنساب مع الحب، وعجزه عن إدراك ماهية الحب بعد أن أدرك وجوده.

ومن ثم فهي تعتبر نفسها تُجازِف بحبها الأرضي وهنائها الدنيوي إذا قررت الاستمرار مع شخص عاجز عن التجاوز ابتداء؛ إذ قد ينتكس في مرحلةٍ تالية ليعجز عن تجاوز نفسه إليها، ويفتُر حبه لها بعد أن عجز عن رؤية الله، وضل بعد هُدى. تقول له: «لا يُمكن أبدًا تغييب الله عن حياتنا. قد ننساه لفترة، ولكن لا يمكننا تجاهل وجوده للأبد. بالنسبة لي أنا على الأقل؛ فإن هذا يعني تجاهُل الحياة نفسها، وعندما نتجاهل الحياة، فهذا يعني أننا حتمًا مُقبلون على الموت». وهي كذلك تَعرِف أن هذا العجز ليس أصيلًا، بل هو مُتوهَّمٌ؛ كما تجلى ذلك في عبارات صديقهم المتدين علي رضا، حين وصف الشك بأنه «حالة نظريّة: وهم. فالله موجود، ووجوده لا علاقة له بشكنا أو معرفتنا. إن الشك ليس شيئًا قائمًا بذاته حتى نسقط فيه؛ إنه مُجرَّد توهُّم لوجود حُفرة»، أو في إجابته على سؤال وجود الله؛ بأنه «ليس مرتبط بإيماننا؛ لكن إدراكنا لهذا الوجود مُرتبط كليًا بحجم إيماننا».

كذا تتبدّى هذه الثنائية في علاقة أستاذ الجامعة، الذي يتحرى بطل الرواية أسباب انتحاره؛ بتلميذته. فهو أستاذ الفيزياء المرموق، الذي اعتاد صياغة كل شئ في معادلاتٍ قاطعةٍ حاسمةٍ. لكن حين يفتح حبه لتلميذته باب عالمٍ لم يكن يُدرِكُ وجوده من قبل؛ فإنه يضطرب اضطرابًا مُريعًا، حتى تودي به حيرته واضطرابه. وهو يُعبِّر عن ذلك الاضطراب في نصٍ شعري رقراق: «ليتني كنت صخرة، قطعة خشب، حفنة تراب، ليتني كنت زبالًا، خبازًا، خياطًا، بائعًا متجولًا، طبيبًا، وزيرًا، ماسح أحذية. ليتني كنت شخصًا آخر لا يعرفُك. ليت قلبي كان حجرًا. ليتني لم أملك قلبًا قط. ليتني لم أوجد قط. ليتك لم تكوني موجودة. ليت بإمكاننا محو كل شيء بماسحة السبورة. آه يا مهتاب! ليتني كنت لبنة في جدار بيتك، أو حفنة تراب في حديقتك. ليتني كنت قبضة مزلاج باب غرفتك؛ حتى تلمسيني كل يوم ألف مرة. ليتني كنت عباءتك. كلا؛ ليتني كنت يديك. ليتني كنت عينيك. كلا؛ ليتني كنت رئتيك، لتدخلي في أنفاسك وتخرجيها مني. ليتني كنت أنت. ليتك كنت أنا. ليتنا كنا واحدًا؛ شخصًا مُثنّى».

لقد أدرك وجود الحب، وإن كان قد عجز عن إدراك ماهيته؛ فازداد شقاؤه بروحه التي حُبِسَت في سجن عقله الرياضي الذي لا يطمئن لما لا يُمكن صياغته في معادلات واضحة. هذا العجز عن الإدراك الرياضي هو نفسه ذروة الإدراك العرفاني الذي يرفض أستاذ الفيزياء الإقرار به، ما لم تنعقِد عليه إحدى معادلاته الرياضية السخيفة. إدراك وجود عالمٍ من الغيوب المحجوبة، الذي وشى به الحب المعبِّر عن عالمٍ آخرٍ مُفارِق لهذا العالم المادي. وهو يَصِفُ ما ذاق بعباراتٍ عذبة، وإن كان ذلك الذوق ناضحٌ بشقاء العقل وإنهاك الروح المُخيَّبة بخضوعها للعقل: «كلما شربتك ازداد عطشي أكثر، يا ريًّا هو سبب عطشي! يا أمرَّ حلاوة، وأخف الأثقال! أنت أكثر أفراح حياتي حزنًا، وأكثر سبب يفرح له حزن وجودي. يا حادثة بسيطة معقَّدة! لم لا تحرقينني يا أبرد شعلة في الوجود؟! يا ريشة ثقيلة مُحرَّرة من أكثر الطيور المهاجرة المجهولة في هذا الكون! أين مدينة الطيور؟».

وتحاول تلميذته العاشقة، التي تحرَّرت بدرجة كبيرة من سجن العقل؛ مُساعدته ليجد طريقه في دربٍ لم يطرُقه من قبل. دربٍ يخشاه لأنه لا يعرف له معالمًا ولا ملامحًا. فتقول له: «أنا لا أعرف السحر؛ لقد اتسعت روحي الكبيرة الثقيلة فقط. أنا لا أعرف السحر. قلت أنك قد صرت شتاءً، فاحترق قلبي عليك، ونشرت روحي عليك؛ كبيرة ثقيلة كما تُنشر العباءة. وقرأت وِرْدَ الحب حتى احترقت. أنا لا أعرف السحر. صارت أنفاسك معدودة، وكانت روحي تنبض مع تنفُّسك. فقلت لي: أحبّك، ولم تعد تتنفَّس؛ فتوقَّف قلبي عن الخفقان. فساءلت نفسي: أأكون قد قتلتك؟ عسى ألا تكون قد مت. ورفعت روحي عنك، لكنك لم تكُن موجودًا. كنت قد صرت مخفيًا. قلت لك أنا لا أعرف السحر».

والسحر هُنا نقيض للعقل في الوجدان المنكر للغيب. فكل غيب لا تنعقِد عليه اليد هو سحر. لكنها تُنكِر السحر، وتُثبت الغيب. تُنكر الوهم، وتُثبت العشق. تُنكر سجن الحواس، وتُثبت طلاقة الروح.


في كم هائل من التفاصيل يُشير العالم إلى الله. وفي كم من التفاصيل اليومية شديدة البساطة يُشير مصطفى مستور هو اﻵخر إلى الله. إذ لا يكمُن الشيطان في تفاصيل هذا العالم كما يهرف البعض، لكن التفاصيل تطوي الإشارات الدالة على وجود البارئ والآثار المؤدية إليه سبحانه.

العشق هو الخلاص الوحيد الممكن داخل التاريخ. ليس لأنه تخفُّف من الأسباب وانسلاخٌ من المعقولات، بل لأنه تخفُّف من النفس وأثقالها في حضرة المعشوق.

إن صُنع الله يُشير إليه، وأقداره تشي بوجوده؛ كما أدرك الأعرابي ذلك قبل قرون. لكن أدوات الاستدلال العقلي هي في الجملة أدوات الضعيف الغافل عن استشعار معيته سبحانه في عالم الشهود. أدوات من حُبِسَ في الدلائل والبراهين؛ فطلب الأعلى بالأدنى، وتعرَّف إلى المسبِّب بالسبب، وإلى الخالق بالمخلوق. وهو لعمري ديدن بني آدم إلا من رحم ربي.

إن هذا النوع من المعرفة المادية قد يصل بصاحبه إلى إيمان عقلي، لكنه إيمان منقوصٌ مبتورٌ أعرج. ذلك أنه يفتقد أهم وأقدس ما في العشق، وهو التسليم: التخلي طواعية عن الإرادة الذاتية. الانسلاخ من الأنا، وذوبانها في الـ«هو». فالتسليم ليس أخص خصائص العشق فحسب، بل وهو نفسه الفردوس القلبي، أو الخلاص الحقيقي في هذا العالم.

إننا نعشق لأن في ذلك إقرارٌ بعجزنا. نعشق لأننا لا نستطيع التألُّه. نعشق لنُثبت إنسانيتنا ونقصنا وحاجتنا لمن نلتئم به. نعشق طلبًا للرحمة. إن الهوى قرين العجز واستلاب الإرادة، لهذا كانت ذروة الإيمان أن يصير هذا الاستلاب نفسه «تبعًا لما جئت به»؛ كما علّمنا صلى الله عليه وسلم. أن يكون هذا العشق لله وبالله، فترتقي به النفس في مدارج السلوك إليه سبحانه. حينئذ، فإن الهوى الذي جسَّد تمام التسليم والتخلي عن الإرادة الذاتية؛ يصير تحقُّقًا بالإرادة الإلهية. هذا التحقُّق هو القوة الحقيقية من بعد «ضعفٍ» متوهَّم. حين يصير تمام الافتقار إلى الله، هو عينه تمام الغنى به سبحانه.

إن العشق بين المخلوقات باب لشهود الخالق. إنه الخلاص الوحيد الممكن داخل التاريخ. ليس لأنه تخفُّف من الأسباب وانسلاخٌ من المعقولات فحسب، بل لأنه تخفُّف من النفس وأثقالها في حضرة المعشوق. خلاص من الرغبة وفناء للإرادة. درجة ترقاها للخلاص من السوى، وشر السوى نفسك التي بين جنبيك. مثل هذا العشق فقط قد يرقى بك في مدارِج السالكين، لتتفيأ ظلال “إياك نعبد، وإياك نستعين”.


[1] – رواه البخاري، في كتاب المناقب؛ من حديث عمر رضي الله عنه. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنية، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه. ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله».[2] – «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله؛ فتربصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين». (سورة التوبة؛ اﻵية 24)

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.