في علوم السياسة والاجتماع تسود الأيديولوجيا، المنهجية التي تحكم برامج الأحزاب، وتحدد السلوك السياسي لهذه الطبقة أو تلك، وتفسر كل الأحداث على كافة الأصعدة. لكن لم يسبق لكرة القدم أن دخلت عالم الأيديولوجيا، خاصة في ظل موجة عالمية تدعي انتهاء عصر الأيديولوجيات، وتمجد كل ما هو براجماتي ونفعي. ما بدأ جنينًا مع أياكس أمستردام وهولندا رينوس ميتشيلز في السبعينيات، وبرازيل 1982، تحول إلى أيديولوجيا مدججة بالأسلحة الثقيلة في 2008.

لا أعدكم بالبطولات، لكن أعدكم ببناء فريق تفتخرون به
بيب جوارديولا عام 2008.

كان جوارديولا شابًا نحيفًا، من مواليد « سان بيدور » الواقعة شمال مدينة برشلونة، وبمقاييس عصره، لم يكن «بيب» يصلح لممارسة اللعبة من أساسه. ففي ذاك العصر كانت الإمكانيات البدنية لها الأولوية علي المهارة والإمكانيات الفنية. لكن رجلًا شرب من كأس «رينوس ميتشيلز» كان قد تولى تدريب الفريق الأول لبرشلونة وضم بيب إلى ما سيصبح فيما بعد «الدريم تيم» الذي حقق أول كأس أوروبية للكتلان. تلك قصة معروفة للكل، يحفظها عن ظهر قلب كل كتالوني فتعلق قلبهم بذلك الرجل.. نعم إنه «يوهان كرويف».

يُعد كرويف المرجعية الأولي لـ«بيب»، منه أخذ الهيكل الأساسي لأفكاره. الضغط العالي، الاستحواذ علي الكرة، والمزيد من هذا الـ«جوارديولا» النحيف الذي لا يصلح إلا جامع كرات في الكامب نو نظرًا لصغر حجمه. رسّخ كرويف الأساس الأيديولوجي الذي تربى عليه «بيب»، الأساس الذي ضمن للبرسا النجاح حتي هذا اليوم. فالأيديولوجيا هي التي ردت النادي من الضياع الذي حل في آخر موسمين لـ«ريكارد»، كل ما احتاجه الكتلان هو جلب جوارديولا، الذي بعث التقاليد التي رسخت منذ حقبة الهولندي الطائر.


مورينيو: لا، بيب: نعم

قصة التعاقد مع جوارديولا أيضًا لم تعد خافية على أحد، فهي جزء من تاريخ النادي، نظرًا لأن البارسا كان على وشك ارتكاب فظاعة لم تكن كرة القدم لتغفرها للنادي لو كان التعاقد مع «المُترجم» قد تم. الفضل في هذا يعود أيضًا لتقاليد النادي، الذي احتاج لشخصية قوية تسيطر علي الانفلات الذي أحدثه رونالدينهو في غرفة الملابس.

لكن لابورتا لم يستطع اتخاذ قرار تعيين مورينيو دون أن يعاني من وخز الضمير. فالبرتغالي يشتهر منذ القدم بفنونه السوداء خارج وداخل الملعب. مورينيو هو النقيض لكل ما جلب المجد للبارسا. هنا اتخذ لابورتا وتكسيكي بيرجستان ومن خلفهما كرويف قرارًا بتنصيب جوارديولا.

كرويف هو الأب الروحي لجوارديولا، بمعنى أنه صاحب التأثير الحاسم علي شخصيته، لكن جوارديولا أخذ الفكرة إلى أقصاها، ولأنه كتالوني متعصب، بدأ جوارديولا وهو ينهض بالكتلان من عثرتهم، إنه يقاوم الطغيان العاصمي.

الحديث عن بيب من ناحية الألقاب غير منطقي، فرغم أنه فاز بـ21 لقب في 7 سنوات كمدرب، وهو سجل مذهل، إلا أنه يعطي صورة مشوهة وناقصة للغاية عن جوارديولا. أسطورة جوارديولا نشأت من كونه في 7 سنوات كمدرب، تحول إلى أيديولوجي متطرف. بيب أحدث انقلابًا في اللعبة وكسر كل الثوابت التي استقرت عبر عشرات السنين من تاريخ كرة القدم.


كرة القدم للجماهير

مبدأ كرويف الذي جعله جوارديولا حقيقة محرجة لكل من حولوا الكرة الي سباق خيول. كرة القدم لعبة، 11 في مواجهة 11، من يدخل الكرة في المرمي هو الفائز. من يخرج ليمارس كرة القدم غرضه امتاع نفسه، من يراوغ بشكل جيد يمتع نفسه، من يضع هدفًا جميلًا في المرمي يمتع نفسه، لكنه في نفس الوقت يمتع هؤلاء الذين يشاهدونه، فما جدوى أن تخرج لتشاهد مباراة بها فريقين لا يجيدان من الكرة شيئًا وهم يتعاركون بدنيًا فقط لأجل التسجيل، ما هذا من كرة القدم؟

الكرة تُلعب بالجماهير وللجماهير، والنصر الحقيقي هو الذي يأتي بممارسة أكبر قدر من فنون الكرة، هذا هو المبدأ الذي توارثته الأجيال منذ المستر ميتشلز، وحولّه بيب إلي حقيقة مقدسة لا يمكن المساس بها. سوف نستحوذ علي الكرة لأن من لديه الكرة لديه الفرصة الأكبر للتسجيل، و إن خسرنا الكرة سوف نستردها بالضغط عاليًا فور فقدانها لحرمان الخصم منها. نريد الكرة دومًا لنريكم ماذا نستطيع أن نفعل بها.


الذي قال «لا»

منذ تولي جوارديولا تدريب الفريق الأول لبرشلونة، انقسم عالم الكرة الي قسمين، أحدهما يقوده بيب ويؤمن بأن الفوز والمتعة وجهان لعملة واحدة. والقسم الآخر على رأسه «المترجم»، ويقول إن الفوز هو الغاية التي تبرر أي وسيلة، إرهاب الخصم عن طريق العنف الجسدي، التأثير على الحكم، الآلاعيب النفسية في المؤتمرات الصحفية وعلى الخط، كل شيء متاح.

منذ تولي جوارديولا تدريب برشلونة، اختلفت نظرة العالم للإمكانيات الفردية للاعبين، تشافي لا يجيد المراوغة، لكن لا يوجد عاشق للعبة قادر علي إنكار أنه كان قائد كل العمليات في برشلونة والمنتخب الإسباني. بوسكيتس تجاوز مفهوم الارتكاز التقليدي الذي لا دور له سوى قطع الكرات، ليقدم نموذجًا فريدًا للارتكاز صانع اللعب القادر علي التمرير الكاسر للخطوط وغيرهما من النماذج.

منذ دخول «بيب» الكرملين الكتالوني، أصبح الاهتمام بدور المدرب مُضاعفًا، أصبح الجمهور مهتمًا بمصطلحات كاللعب الموضعي، التمركز، الحركة دون كرة، خلق المساحات واستغلالها، المهاجم الوهمي والظهير الوهمي.

عبر 7 سنوات، مع ثلاثة أندية مختلفة، حافظ جوارديولا علي هويته، وازداد تطرفًا. أصبحت ترى فيه رينوس ميتشلز ويوهان كرويف ومارسيلو بيليسا وخوانما ليو، لكنه الصيغة الأعنف. هو الذي يهاجم دومًا، يحاصر خصومه في مناطقهم دومًا، يبتكر دومًا، يطور ويتطور دومًا لكن دون أن «يتكيف» – كما يطالبه بعضهم- مع الدوري الإنجليزي. لأن التكيف لا يمكن أن يكون التفريط في الأسلوب والشخصية.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.