رحلت الخلافة الراشدة مع طعنات السيف المسموم الذي أصاب جبهة علي بن أبي طالب، لتبدأ مرحلة المُلك العضود. لم يعد الخليفة يأتي بالشورى والبيعة العامة من المسلمين، وإنما توارث الحكم أبناء بني أمية ومن بعدهم بنو العباس، فكان هذا انحرافًا عن مبادئ الإسلام.

إزاء هذا الانحراف، لم تقعد الأمة وتكتفي بالحسبنة، وإنما قاومت ما استطاعت إلى المقاومة سبيلًا، بعضها قاوم باليد والسيف، وبعضها قاوم بالكلمة والقلم.

تقدم الموكب الحسين بن عليّ، رافضًا توريث يزيد بن معاوية، فاستشهد وصحابته في كربلاء، فكان شهيدًا ابن شهيد، سيدًا للشهداء، وواصل الخوارج ثوراتهم على بني أمية، حتى بلغت في إحصاء نحو 18 ثورة. [1]

وفي المقاومة بالكلمة والقلم، يرفض علماء أجلاء الاعتراف بشرعية الحكم الأموي، منهم الحسن البصري (21-110 هجريًا)، واصل بن عطاء الغزال (80 – 131 هجريًا)، غيلان الدمشقي، ومنهم الإمام أبو حنيفة النعمان (80-150 هجريًا).

في صباه، يعمل أبو حنيفة في التجارة، ثم يداوم عليها شابًا وشيخًا، مُحققًا بها «الاستقلال المادي» و«الاستقلال الفكري» بعيدًا عن دنانير السلطان.

الإمام مع الثورة

يري الإمام أن الخلافة الراشدة انتهت بمقتل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب [2]، فيما دولة بني أمية مغتصبة لحق أبناء الإمام عليّ، فلا يؤيدها ولو بشطر كلمة، ويبقي ناقمًا على تنكيلها بالعلويين، بل ومساعدًا بالمال ثورات أبناء عليَ.

لمّا ثار زيد بن عليّ زين العابدين بالكوفة على هشام بن عبد الملك سنة 121 هجريًا، قال أبو حنيفة «ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر».

ولأن الإمام لم يكن من أهل الحرب والسيف، فإنه يجاهد بالكلمة والمال. تقول رواية إن الإمام أبا حنيفة قال في الاعتذار عن عدم الخروج مع زيد بن عليّ «لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه، لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم، وقال للرسول ابسط عذري له». [3]

كان الإمام يرى الثورة على بني أمية، بل ويضفي عليها شرعية، ويود لو حمل السيف وجاهد مع المجاهدين، لكنه لم يكن يوقن بنتائج الثورة، فالناس ربما خذلوها، ولكي لا يكون مثبطًا، فإنه يمد الثوار بالمال، وتأييد الثورة بالمال لا يقل خطورة عن تأييدها بحمل السلاح.

لم يكن أبو حنيفة في ميله للعلويين من المتعصبين، إذ كان يرى أن الخليفة هو من يتولى الحكم بناء على اختيار عام من المسلمين، وهو أمر يجب أن يكون سابقًا على توليه سلطته.

تخفق ثورة زيد بن عليّ، ويرتقي شهيدًا في ساحة القتال عام 122 هجريًا، فيحزن عليه الإمام، ويزيده حزنًا تمثيل الأمويين بالجثمان الطاهر، إذ أمر الملك الأموي بإخراج الجثمان من القبر، وصلبه عريانًا، وأبقاه هكذا مصلوبًا على جذع شجرة أربع سنوات، ثم أمر بإحراقها.

التمثيل بالجثمان الطاهر لا يرهب النفوس المؤمنة، فيخرج الإمام يحيى بن زيد بخراسان عام 125 هجريًا، ثم من بعده ابنه عبد الله بن يحيى باليمن، فاستشهد كما استشهد أسلافه عام 130 هجريًا.

كانت كل قطرة دم زكي تسقط من أجساد الشهداء نارًا تأكل من عرش بني أمية تعجل بسقوطهم. وكلما ارتقى شهيد تزايدت نقمة الإمام على الأمويين، ذاكرًا إياهم بالسوء في مجلسه، موقنًا أن كلمات العلماء ربما تكون أمضى من ضربات السيوف في ساحات الوغى والقتال.

ترصدت عيون الأمويين الإمام، تحصي عليه فتاويه وكلماته الثائرة، خصوصًا وقد رأوا الأرض تميد من تحتهم، والعرش تهتز قوائمه، والثورة الكبرى شارفت على الانطلاق.

الإمام وسوط بني أمية

لمّا رأى والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة انصراف الناس عن بني أمية، وتعلقهم بدعوة أبناء الإمام عليَ، دعا إلى بابه جماعة من أئمة العلماء في العراق وعهد إليهم في المناصب الكبيرة، راجيًا أن يقول الناس: «إذا كان هؤلاء هم سادتنا وكبراؤنا من عمال الأمويين، فلا بد أن تكون دولتهم على حق».

وافق علماء على عرض ابن هبيرة، خوفًا من سوط السلطان أو طمعًا في دنانير السلطان، لكن أبا حنيفة يرفض ويأبى، ويشتد في الإباء، لتبدأ رحلة المحنة.

طلب ابن هبيرة من الإمام أن يكون في يده «الخاتم» يمضي به الأمور، فلا ينُفذ كتاب إلا من يده، ولا يخرج درهم أو دينار من بيت المال إلا بإذنه.

هذه فرصة للإمام لكي يقوّم ما اعوّج من أمر السلطان، فرصة «للإصلاح من داخل النظام»، لكن أبا حنيفة يدرك أن الأمر لا يعدو أن يكون وسيلة لإضفاء شرعية زائفة على نظام ظالم يتهاوى، فامتنع عن إجابة ابن هبيرة، فأقسم الوالي الغشوم أن لم يقبل أن يضربه كل جمعة سبعة أسواط.

يخشى عليه رفقاؤه العلماء من سوط السلطان، فيأتون إليه قائلين «إننا ننشدك بالله أن تهلك نفسك، فإنّا إخوانك، وكلنا كاره لهذا الأمر، ولم نجد بدًا من ذلك»، فيرفض الإمام رجاءهم وعذرهم، ويقول: «لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد (واسط) –مدينة بالعراق– لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يكتب دم رجل يضرب عنقه، وأختم أنا على ذلك الكتاب! فو الله لا أدخل في ذلك أبدًا». [4]

يصيب رفض الإمام ملك بني أمية بلطمة شديدة، فيعاقبونه ويعذبونه، يحبسه صاحب الشرطة جمعتين، ثم يضربه أربعة عشر سوطًا [5]، ينبئه أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن الدولة التي تغرى بالمال والمناصب قادرة على الترهيب وتليّن العقول بالسياط.

ينال الإمام من العذاب نصيبًا ويُضرب بالسياط على رأسه، فما يصرفه ذلك عن رأيه، حتى يضطر ابن هبيرة إلى الاستسلام، ويخلي سبيله، فيركب الإمام دوابه ويأوي إلى بيت الله الحرام، وكان ذلك عام 130 هجريًا.

الإمام وسوط بني العباس

لا يمر من الزمان إلا قليلًا ويتهاوى مُلك بني أمية تحت وقع ضربات جيش أبو مسلم الخراساني، فينقضي عزهم، وينثل سلطانهم، وتقبل أيام دولة بني العباس، وهي الدولة التي رفعت راية استعادة حق آل البيت والعلويين.

استقبل الإمام عهد العباسيين بارتياح، وبايع أبا العباس، راجيًا أن يحكم بالعدل والقسطاس المستقيم [6]، لكن بني العباس يتبدلون ويتغيرون، فيستأثرون بالحكم، يقصون وينكلون بالعلويين، فاندلعت ثورات الطالبين، ويغضب الإمام أبو حنيفة لغضب وثورة الطالبيين، وينقم على آل العباس كما نقموا، فنالوه بالعذاب كما نالوا الطالبيين.

ثار على حكم أبي جعفر المنصور اثنان من آل عليَ وهما: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب الشهير بمحمد النفس الزكية، وأخيه إبراهيم، وكان أبوهما عبد الله شيخًا لأبي حنيفة.

في المدينة المنورة، يشيع بين الناس أن الإمام مالك بن أنس يساند الثورة، وحينما يقال له «إن في أعناقنا بيعة للمنصور»، يقول «إنما كنتم مكرهين، وليس لمكره بيعة»، فلا بيعة لسلطان أخذها على حد السيف. [7]

وفي العراق، يجاهر أبو حنيفة بوجوب نصرة إبراهيم أخي محمد النفس الزكية، بل أنه ثبط بعض قواد المنصور عن الخروج لقتال الثورة، ومنهم الحسن بن قحطبة، إذ دخل على الإمام وقال «عملي لا يخفى عليك، فهل لي من توبة؟ قال نعم، إذا علم الله تعالى أنك نادم على ما فعلت، ولو خيرت بين قتل مسلم وقتلك (أنت) لاخترت قتلك على قتله، وتجعل مع الله عهدًا على ألا تعود، فإن وفيت فهي توبتك». [8]

لن أكون قاضيًا لظالم

أراد المنصور أن يدعم سلطانه بكسب ود العلماء والأئمة، ليلقوا في روع الناس أن العباسيين أصحاب حق، وأنهم أولى بالأمر من العلويين.

ورغم بخله، يسخو المنصور في كسب القلوب، فأخذت جلة العلماء تردد ما يطلبه منهم، ربما طمعًا في مال أو خوفًا من سوط! وأصبح الناس فإذا كل قاضٍ وكل إمام يحدثهم عن العباس ودوره في خدمة الإسلام، وأحقية أبنائه وأحفاده في الخلافة. [9]

لكن ما زالت طائفة متمسكة بالحق، تلتف حول إمامهم أبي حنيفة، فقيه العراق وأعلم أهل الأرض، فاستقدم المنصور الإمام، عارضًا عليه أن يلي «قاضي بغداد»، وبذلك يكون القاضي الأول للدولة.

أراد المنصور بهذا العرض أن ينال من أبي حنيفة بعدما ضاق صدره بمواقفه وميله للعلويين، ولأنه لا يجد حيلة للقضاء عليه، لأنه لم يتجاوز حلقة درسه، ولم يكن متهمًا في دينه، عرض عليه أن يكون قاضي بغداد، فإن قبل كان قبوله دليلًا على إخلاصه لبني العباس، وإن رفض كان رفضه ذريعة للنيل منه أمام العامة، لأن الإمام إذا كان فاضلًا في نظرهم فامتناعه امتناع عن واجب في عنقه، فليحمل هذا الواجب ببعض الأذى ينزل به، فإكراهه إنما هو لمصلحة الناس، لا للكيد به. [10]

رفض الإمام أن يكون «قاضي بغداد»، ورُوّع المنصور أن يتسامع الناس برفض أبي حنيفة، فطلب أن يرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم من مسائل وقضايا ليفتيهم، فامتنع الإمام، وقال مؤكدًا على أهمية استقلال القضاة عن السلطة التنفيذية «لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس، يحكم بها عليك وعلى ولدك وقوادك، وليست تلك النفس لي». [11]

القاضي لكي يكون قاضيًا، لابد أن ينطوي تحت سلطان أحكامه كل أهل الدولة من السلطان وذريته وقواده، لا أن تكون أحكامه تتماشى مع أهواء الجالس على العرش.

مال المسلمين ليس كلأ مباحًا

يقدم المنصور عرضه الثاني للإمام، فيقول له «لمَ لا تقبل صلتي؟»، إنه المال الذي رفضه الإمام طيلة حياته، واتبع طريقة أهل السلف بالعمل والكد لكسب عيشهم، ولتأمين الاستقلال المالي عن دنانير السلطان.

وكيف يقبل الإمام دنانير السلطان ولو كانت بمسمى عطية أو هدية، أليست من بيت مال المسلمين؟ ألم ينحرف ملوك بني أمية والعباس بوظيفة بيت المال، فلم يبقِ بيت مالًا للمسلمين وإنما بيت مال السلطان، يأخذ منه بلا حسيب ولا رقيب، يعطي منه من يستحق ومن لا يستحق؟

«لمَ لا تقبل صلتي؟!» قالها المنصور، ورد الإمام «ما وصلني أمير المؤمنين بشيء من ماله فرددته، إنما وصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين، ولا حق لي في بيت مالهم، إني لست ممن يقاتل من ورائهم فآخذ ما يأخذ المقاتل… ولست من الفقراء حتى آخذ ما يأخذ الفقراء». [12]

إن المال العام ليس كلأ مباحًا، ولا بد من وجود حد فارق بين مال السلطان ومال المسلمين، ومال المسلمين له مصارفه الشرعية، يُنفق منه على المجاهدين والفقراء والمحتاجين.

يعود أبو جعفر المنصور إلى عرضه الأول، منصب القضاء، ويتكرر الرفض، حتى حلف المنصور عليه ليقبلن، فحلف أبو حنيفة ألا يفعل، ثم يقول «لو هددتني أن تغرقني في الفرات أو أن ألي الحكم لاخترت أن أغرق». [13]

أمام صلابة الإمام الجليل في مواجهة السلطان الغاضب، يأمر به فيرسله إلى السجن، ويأمر بتعذيبه كل يوم بعشرة أسواط، حتى ضرب عشرة ومائة سوط، لعل الآلام تهدئ من ثورة الحق في تلك النفس الأبية، لكن هيهات… هيهات.

كانوا يعذبونه ويقولون له أقبل القضاء، فيقول لا أصلح، فلما تتابع عليه الضرب قال الإمام مناجيًا ربه «اللهم أبعد عني شرهم بقدرتك».

تقول رواية إن الإمام لمّا ظل في رفضه لتولي منصب القضاء دسوا عليه السم فقتلوه.

وتقول رواية أخرى إن أبا جعفر خشي أن يموت أبو حنيفة في السجن، فأمر بإخراجه، على أن يمنع من الفتوى والجلوس للناس، والخروج من المنزل، فكانت تلك حالته إلى أن توفي. [14]

أيًا كانت صحة الروايات، الثابت أن الشيخ الجليل احتمل الضرب والأذى وهو الذي يعانق سن السبعين، وقد صعدت روحه إلى بارئها، وقد انتصر وحده على دولتين في أشد قوتهما. انتصر علم وإيمان العالم الجليل على سوط ودنانير السلطان.

مات أبو حنيفة كما يموت الصديقون والشهداء، مات منتصرًا على كل مخالفيه، من السفهاء والأمراء، مقدمًا المثال الحي لقول النبي الكريم «من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، أولئك هم العلماء حقًا.

المراجع
  1. انظر إحصاء لثورات الخوارج في محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، الطبعة الأولي، (بيروت – مصر الجديدة: دار المستقبل العربي، 1983) ص 23: 26.
  2. مصطفي الشكعة، إسلام بلا مذاهب، (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2005)، ص 422.
  3. محمد أبو زهرة، أبو حنيفة: حياته وعصره – آراؤه وفقهه، الطبعة الثانية، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1947) ص 31.
  4. مناقب أبو حنيفية للمكي، ج 2، الطبعة الأولي، (الهند – حيدر آباد: مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، 1321 هجريا) ص 23-24.
  5. مرجع سابق، ص 24.
  6. مرجع سابق، ص 24.
  7. هذا الخبر يرويه الطبري في تاريخه، فيما يري محمد أبو زهرة أن الإمام مالك لم يكن من المؤيدين للثورة عموما، وإنما قال بحديث “ليس على مستكره طلاق” من باب إفشاء العلم وعدم كتمانه، فوجد الناس في حديث مالك ما يدل على جواز التحلل من بيعة المنصور لأنها كانت بالغلب والإكراه. (محمد أبو زهرة، مالك: حياته وعصره – آراؤه وفقهه، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي، ص 72: 76).
  8. مناقب أبو حنيفة للمكي، ج 2، ص 22.
  9. حسين مؤنس، صور من البطولات العربية والأجنبية (القاهرة: مكتبة الأسرة، 2000) ص 129.
  10. محمد أبو زهرة، أبو حنيفة، ص 46-47.
  11. مناقب أبو حنيفة، ج 1، ص 232.
  12. مناقب أبو حنيفة، ج 1، ص 232.
  13. مناقب أبو حنيفة للمكي، ج 2، ص 24.
  14. انظر عرضا لهذه الروايات في: محمد أبو زهرة، أبو حنيفة، ص 50-51. وانظر: مناقب أبو حنيفة للمكي، ج 2، ص 19-20.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.