(1)

أهَّلت الجسارة، والفراسة، والحنكة السياسية اللافتة، صلاح خلف لتصدُّر الحركة الوطنية الفلسطينية، وليس «فتح» وحدها، على مدى نحو ربع قرن؛ فحمل صفات: الرجل الثاني في «فتح»، وكبير مفاوضي «فتح»، وجابر عثرات اليسار. وفوق هذا وذاك، غدا مؤهلاً للتأريخ للحركة الوطنية الفلسطينية عمومًا، و«فتح»، و«منظمة التحرير الفلسطينية» على نحو خاص، منذ أواسط ستينيات القرن العشرين، وحتى مطلع التسعينيات.

لتحقيق هذا الإنجاز، اختار خلف واحدًا من أبرز صحفيي النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الصحفي الفرنسي التقدمي، إريك رولو، وإن بقيت مشكلة عويصة، تمثَّلت في ضرورة الاختفاء عن عيون عرفات، حتى لا يُفسد الطبخة. وبصعوبة، نجح أبو إياد في تحقيق هذه المهمة، في عاصمة البهجة، بيروت.

لا أدري ما إذا كانت طبعة فرنسية قد ظهرت للكتاب، الذي حرّره رولو، ومتى، أم لا، لكن طبعته العربية الأولى صدرت عن دار كاظمة في الكويت، التي كان يملكها كادر فتحاوي، هو عبد العزيز السيد، وعلى الرغم من أن تاريخ الطبعة لم يُدوَّن عليها، فإنني أذكر بأنه كان في آخر العام 1978.

لأن أبا إياد كان القائد الحقيقي لـ «منظمة أيلول الأسود»، التي خرجت بعملياتها الخاصة ضد الأمريكان، والصهاينة، وأنظمة عربية، على مدى الربع الأول من سبعينيات القرن العشرين، وذلك انتقامًا من تلك الأطراف الثلاثة، وللارتفاع بمعنويات الشعب الفلسطيني وفصائله الفدائية، فإن موقع خلف داخل حركة المقاومة الفلسطينية قد تقدم، على نحو لافت، فغدا هدفًا للعدو الصهيوني، وإن استعصى على هذا العدو، حتى يناير/كانون الثاني 1991 حين تمكن ذاك العدو من اغتياله في تونس على النحو المعروف.


(2)

لقد وعى أبو إياد، مبكرًا، بأن المقاومة الفلسطينية تُشكِّل خطرًا على النظام السياسي العربي، أكبر بكثير من خطرها على إسرائيل!.

في الفصل الأول «بذور الحقد»، تحدّث أبو إياد عن طفولته، وتبعه الفصل الثاني «سنوات الحمل»، وتضمّن سنوات صدر شباب خلف في قيادة «رابطة الطلبة»، والتحضير لـ «فتح».

توجس أبو إياد من نفخ الصحافة العربية في حركة المقاومة الفلسطينية، حتى غدت الأخيرة عاجزة عن الصمود طويلاً أمام النظام الأردني.

لقد كان أبو إياد وراء إعلان «فتح»، في أكتوبر/تشرين الأول 1968، برنامج «فلسطين الديمقراطية»، وانتقل، بعد نحو خمسة أعوام ونصف العام، إلى شعار «فلسطين عربية مصغَّرة» إلى جانب إسرائيل. لذا، لم يكن غريبًا أن يراهن أبو إياد على المشاركة الفلسطينية في مؤتمر جنيف للسلام، شرط تعديل قرار مجلس الأمن الدولي 242.

أعاد خلف تأسيس «فتح»، في الكويت، في أكتوبر/تشرين الأول 1959، حيث تمت كتابة الوثائق الرئيسية للحركة، التي حرصت على فك ارتباط القضية الفلسطينية بالأنظمة العربية الخاضعة، آنذاك، إلى الإمبريالية البريطانية (ص64)؛ دون التنكُّر لتحالفات تكتيكية مع تلك الأنظمة (ص66).

أشار هذا القائد الفتحاوي المتميِّز إلى أن حركته استرشدت بالتجربة الجزائرية، والفكر اليساري، الصيني والسوفييتي. مؤكدًا بأنه «لم تكن لدينا وسيلة أخرى [سوى الكفاح المسلح]، لفرض القضية الفلسطينية على انتباه الرأي العام العالمي، وبخاصة لتجميع جماهير شعبنا داخل الحركة الشعبية التي نسعى لإنشائها» (ص68-69)؛ إذ «كان الكفاح المسلح، وحده، قادرًا على التسامي على التباينات الأيديولوجية، وأن يصبح بالتالي، حافزًا، أو وسيطًا للوحدة [الوطنية]» (ص69).

بسرية تامة، أنشات قيادة «فتح»، فيما بين عامي 1959 و1964، مئات الخلايا على أطراف الأراضي المحتلة. وفي العام 1961، كانت أول انطلاقة لفتح؛ حيث وحّدت نحو أربعين فصيلاً فدائيًا. كما أن انفصال سوريا عن مصر، خريف 1961، أمدَّ «فتح» بمبرر قوي آخر لوجودها؛ حيث قلب ذاك الانفصال الشعار السائد: «الوحدة طريق التحرير»، إلى «التحرير طريق الوحدة».


(3)

لماذا كانت الكويت -البعيدة عن «دول الطوق»- حاضنة حنونة لفصائل المقاومة الفلسطينية الوليدة؟

أولاً: لأن تلك الدولة كانت خارج عضوية «نادي المنتفعين بالقضية الفلسطينية». وثانيًا: فإن الكويت كانت تتمتع بهامش ديموقراطي، يفوق ما عداها من الدول العربية. وثالثًا: فإن الفلسسطينيين فيها شكّلوا نحو ربع مليون شخص، وتولوا مواقع اقتصادية، وسياسية، وإدارية، وفنية مؤثِّرة؛ ما أسهم في تعافي الاقتصاد الفلسطيني، وخلق من الفئات الوسطى الفلسطينية هناك قوة اقتصادية ذات شأن، ما دفعها للتفتيش عن قوة ذاتية سياسية موازية، بينما كانت سُدَّة الحركة الوطنية الفلسطينية شاغرة تنتظر من يشغلها.

كان خطاب عبد الناصر في أعضاء المجلس التشريعي (22 يونيو/حزيران 1962) قد عجّل بولادة نحو أربعين فصيلاً فدائيًا فلسطينيًا، بمجرد أن أعلن الزعيم المصري بأنه لا يملك -هو أو أي من حكام العرب- خطة لتحرير فلسطين. في وقت كانت الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني لا تُعوِّل إلا على عبد الناصر في أمر تحرير فلسطين. ومع ذلك، فإن الزعيم المصري ارتاب في أمر تلك الفصائل الوليدة، وخاصة «فتح»، التي انحدر معظم قياداتها من «الإخوان» التي تناصب عبد الناصر العداء.

وقد أعلنت «فتح» أنها ترمي من عملها الفدائي تحقيق: «التمويل، والتوريط، والتحرير». هنا بادر عبد الناصر لدعوة حكام العرب إلى قمة (23 ديسمبر/كانون الأول 1963)، عُقدت فعلاً في القاهرة، بعد 21 يومًا من تاريخ الدعوة، وكلفت الجامعة مندوب فلسطين الجديد بها، أحمد الشقيري، باستمزاج رأي شتى التجمعات الفلسطينية في شكل الكيان الفلسطيني المراد إحياؤه.

لكن الشقيري تجاوز التكليف وفاجأ القمة العربية الثانية (الإسكندرية، سبتمبر/أيلول 1964) بالأمر المقضي؛ وهو قيام «منظمة التحرير الفلسطينية» بأجهزتها ووثائقها الرئيسية. ولم تملك تلك القمة إلا التسليم بقيام المنظمة، التي جاء تأسيسها في محاولة من حكام العرب لاحتواء توْق الشعب الفلسطيني لكيانه السياسي، وليقطع أولئك الحكام الطريق على محاولة توريط الأنظمة العربية في حرب لا تريدها مع إسرائيل!.

هنا، عمدت قيادة «فتح» إلى محاولة تفويت الفرصة على تلك الأنظمة، فعرضت على رئيس المنظمة أن تتحول «فتح» إلى ذراع سري للمنظمة، الأمر الذي رفضه الشقيري!.


(4)

أكد خلف بأن ثمة نظام عربي وحيد دعم «فتح»، منذ العام 1964، وهو نظام أحمد بن بيلا الجزائري، فيما ناصب النظام السوري الحركة العداء، و«إن تواطأ» معها كل من اللواء حافظ الأسد، قائد الطيران، وأحمد سويداني، رئيس الاستخبارات العسكرية، قبل أن يُرقى إلى منصب رئيس الأركان (ص79). بينما أغفل أبو إياد دعم المملكة العربية السعودية المالي والسياسي المبكريْن؛ إذ تطلع حكام السعودية لأن يُفضي «التوريط» إما إلى تكسيح عبد الناصر، أو فضح تقاعسه عن نجدة من يعملون لتحرير فلسطين، فتنحسر شعبيته في الوطن العربي!.

أما مصر، فلم يهمل قادة «فتح» أمر الاتصال بالحاكم فيها، ومحاولة تليين موقفه من الحركة، بينما الصحف اللبنانية الموالية لعبد الناصر استمرأت اتهام «فتح» بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية، والحلف المركزي (بغداد سابقًا)!.

وقعت هزيمة يونيو/حزيران 1967 وقوع الصاعقة على العرب، من المحيط إلى الخليج، وإن أدت إلى «المد» في العمل الفدائي، حسب عنوان الفصل الرابع، خاصة بعد الانتصار الفلسطيني في «معركة الكرامة»، التي قلبت موقف عبد الناصر من «فتح»، رأسًا على عقب، بعد أن وقع «التوريط»، ففقد الشقيري مبررات استمراره، وكان ضمن كباش الفداء لعبد الناصر، إضافة إلى المشير عبد الحكيم عامر، والإذاعي الشهير، أحمد سعيد! ونقل عبد الناصر زمام أمور «المنظمة» إلى «فتح».

ما إن تحقق انتصار «الكرامة»، وتسلَّمت «فتح» زمام الأمور في منظمة التحرير، حتى حثَّت قيادة «فتح» الخطى للتسوية مع الكيان الصهيوني، وإن ظلت أناشيد ومقالات، وكراسات «فتح» تُندِّد بالتسوية، والحل السلمي، وتتمسك بالكفاح المسلح،وحده، أسلوبًا لتحرير فلسطين!.

في آخر الفصل يقرر أبو إياد، في أسى بالغ، بأن الملك حسين حاول، في سبتمبر/أيلول 1970، «أن يمحو فلسطين من الخارطة، ويزيلها من اللغة» (ص123).

بعد مجازر سبتمبر/أيلول 1970، ومجازر جرش وعجلون (يوليو/تموز 1971)، استبد «الجزْر» بالعمل الفدائي الفلسطيني، وخرج من تبقى من الفدائيين من الأردن إلى سوريا، فلبنان.

دلفت «فتح» إلى «حرب الأشباح”»، الذي اتخده الفصل السادس عنوانًا له، وقد ضمَّنه أبو إياد مختلف العمليات الخاصة لمنظمة «أيلول الأسود»، بدءًا باغتيال رئيس وزراء الأردن، وصفي التل (28 نوفمبر/تشرين الثاني 1971)؛ وكيف أن إسرائيل ردت على عمليات «أيلول الأسود»، باغتيال مجموعة من كوادر وقيادات «فتح»، على رأسهم كمال عدوان، ومحمد يوسف النجار. ولم تتوقف «أيلول الأسود»، إلا بعد اندلاع حرب أكتوبر 1973.


(5)

في الفصل السابع: «شرارة أكتوبر»، استعرض خلف ملابسات تلك الحرب، حيث أشار الرئيس المصري، أنور السادات، إلى حرب وشيكة، لأول مرة، أمام قادة «فتح»، في مارس/آذار 1973.

وفي أغسطس/آب، طلب خلف وفاروق القدومي مقابلة السادات، فوافق الأخير على مقابلة واحد منهما فحسب! فالتقاه أبو إياد على انفراد، وهنا فاتحه السادات بأنه سيشن حربًا على إسرائيل قبل نهاية العام بالاشتراك مع سوريا، بهدف إخراج «المشكلة العربية–الإسرائيلية من المأزق. وبعد هذا، نذهب إلى مؤتمر السلام». أردف السادات، طالبًا أكبر عدد ممكن من الفدائيين الفلسطينيين، ليشاركوا في القتال، على الجبهة المصرية. وفي 9 سبتمبر/أيلول، التقى السادات كلاً من خلف، وعرفات، والقدومي، ليضعهم فيما يجب عمله، بعد الحرب (ص195-196).

في 4 أكتوبر/تشرين الأول، أخبر وزير الحربية المصري، المشير أحمد إسماعيل، أبا إياد بساعة الصفر. وما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى هرول السادات إلى تسوية بأي ثمن، وقد ورّط قيادة «فتح» قبل أن يتركها في الطريق.

ختم أبو إياد هذا الفصل بالقول إن حرب أكتوبر «بدلاً من أن تشق طريق تحرير الأراضي المحتلة، فإنها عزَّزت النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، ويسَّرت مؤامرات تصفية المقاومة الفلسطينية، وأثارت في صفوفنا وعيًا صحيًا» (ص211).


(6)

«عن تحدي السلام» كان الفصل الثامن وفيه تحدث خلف عن صدمة الرأي العام الفلسطيني وانقسامه في مواجهة دعوة السادات لمؤتمر سلام يضم الإسرائيليين. ثم ما كان من تبني دورة المجلس الوطني الفلسطيني الثانية عشرة (القاهرة، صيف 1974) نهج التسوية، ومن ثَمَّ كانت بلورة «جبهة رفض الحلول الاستسلامية»، التي ضمت أربعة فصائل فلسطينية. ورأى خلف في هذه الجبهة «طريقة الهروب من المشاكل، والتزيي بزي النقاء العقائدي المنحول» (ص217).

في الكواليس، اقترح جورج حبش (رأس «الرفض») أن يُعهد إلى شخصيات في الأراضي المحتلة المشاركة في التسوية، مع توجيههم ودعمهم سرًا من قِبل الفصائل والمنظمة.

خصَّص خلف الفصل التاسع من كتابه لاستعراض «الشرك اللبناني»؛ أي الحرب الأهلية اللبنانية. أما الفصل العاشر فختم خلف به كتابه وفيه عرض لمبادرة السادات وتداعياتها.

وبعد، فنحن أمام قائد متمكن من نظرية الثورة، يجيد ممارسة التكتيك لحساب الإستراتيجية، وليس على حسابها، يمتلك قدرة فائقة على التحليل الصائب. ما جعل كتابه هذا يتعدى المذكرات إلى التأريخ لفترة حاسمة من تطور القضية الفلسطينية، امتدت لنحو عقد ونصف العقد (1963-1977).

لذا، يُنصح بهذا الكتاب للمناضلين في سبيل قضايا وطنهم وشعبهم، ولصنَّاع القرار السياسي، وللمؤرخ، والباحث في االقضية الفلسسطينية. وقد احتل هذا الكتاب موقعه كأفضل مذكرات القادة الفلسطينيين على قلتها. وفي هذا ما يكفي هذا القائد الوطني الديمقراطي البارز.