أبو إياد، صلاح خلف، اسم عرفه ليس كل فلسطيني فحسب، بل كل عربي، كواحد من بين القادة الثلاثة الذين تزعموا حركة فتح والثورة الفلسطينية من اليوم الأول لمولدها عام 1965 إلى اغتياله في تونس مطلع عام 1991. لا تروي حياة أبي إياد سيرة شخص بقدر ما تروي تفاصيل مسيرة النضال الفلسطيني التي ارتبطت بأحداثها مصائر أصحاب القضية، واختلط الشأن العام بشئونهم الخاصة، وذابوا في مسيرة كفاحهم حتى أصبحت قصتهم هي قصة القضية نفسها، بحلوها ومرها وإخفاقاتها ونجاحاتها.

ولد صلاح خلف، أبو إياد، لعائلة غزاوية تقيم في مدينة يافا الساحلية عام 1933، وعاش هناك طفولته في مجتمع منفتح يشكل المهاجرون اليهود جزءًا منه، ولكن مع تزايد أعدادهم وإنشائهم ميليشيات مسلحة، قاد مدير مدرسته ميليشيا عربية اسمها «النجادة» للتصدي لخطرهم، وانضم الطالب الصغير إلى أشبال تلك المجموعة وبدأوا في تلقي التدريبات اللازمة، وفي تلك الفترة وقع حادث طبع أثره على شخصيته، وهو اعتقاله بعد مداهمة شرطة الانتداب منزله بتهمة الاعتداء على تلميذ يهودي، وهي تهمة لم يكن له علاقة بها، وشهد عليه زورًا اثنان من «أصدقائه» اليهود، ولما أُفرج عنه أصبح قائد أشبال النجادة، وأصبح يُنظر إليه كبطل صغير في محيطه.

ويحكي في مذكراته «فلسطيني بلا هوية» أنه بحلول عام 1948 ومع ظهور التفاوت الرهيب في التسليح بين العرب واليهود، اضطرت أسرته إلى الهرب في ظروف مأسوية قبل إعلان قيام دولة الاحتلال بيوم واحد عبر ميناء يافا، بسبب استهداف المدينة وخوف أهلها من تكرار مجزرة دير ياسين، ووصلت سفينتهم إلى غزة، واستقر فيها مع أسرته في ضيافة عائلة والده، وأكمل دراسته الثانوية، وشهد أحد أسوأ فترات حياته هناك بسبب التشرد المفاجئ الذي ظنوه مؤقتًا في البداية.

وفي عام 1951 سافر إلى مصر والتحق بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وفي نفس العام تعرض للاعتقال لمدة 49 يومًا بسبب ضلوعه في مهاجمة مقر جامعة الدول العربية احتجاجًا على قرار وقف المخصصات المالية للطلبة الفلسطينيين، وهناك التقى بمحمد عبد الرحمن الحسيني (ياسر عرفات)، الطالب في كلية الهندسة آنذاك، وتوطدت العلاقة بينهما من خلال العمل في اتحاد الطلاب الفلسطينيين، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 1952، شارك في اقتحام مبنى الجامعة العربية مجددًا بسبب إعادة وقف مخصصات الطلبة الفلسطينيين، وتعرض للاعتقال والإذلال لمدة 35 يومًا جراء ذلك.

وظل لمدة أربع سنوات مساعدًا لعرفات الذي فاز برئاسة الاتحاد، وخَلَفه في موقعه بعد تخرجه عام 1956، وفي العام التالي تخرج في كلية دار العلوم، وعاد إلى قطاع غزة للتدريس، وهناك انخرط بشكل سري في تكوين مجموعات لتكون نواة للمقاومة، ثم حصل على دبلوم التربية وعلم النفس من جامعة عين شمس، مما أهله ليسافر إلى الكويت عام 1959م للعمل كمدرس، وانضم إلى رفاقه هناك مثل عرفات، وأبو جهاد (خليل الوزير)، وفاروق القدومي، وآخرين يقيمون في قطر مثل أبي يوسف النجار، وكمال عدوان، ومحمود عباس، ونسقوا فيما بينهم لإنشاء حركة «فتح» بهدف إعادة الفلسطينيين إلى أرضهم، وتمركزت الحركة في منطقة الجابرية بمحافظة حولي في دولة الكويت، حيث أتيحت لهم حرية الحركة بلا تضييق أمني وتوفر الدخل المادي الذي يحصل عليه عناصر الحركة من أعمالهم.

بدأ اسم أبو إياد يبرز كعضو في اللجنة المركزية لـ «فتح»، وترأس عام 1967 دائرة مكافحة الجاسوسية بها، وأصبح أحد أهم المسئولين عن الدوائر الأمنية في الحركة، وفي عام 1970 تولى رئاسة مخابرات منظمة التحرير الفلسطينية، ومن وقتها تعرض لأكثر من عملية اغتيال، وكان الرجل من أوائل المؤيدين لحرب العصابات وفكرة الكفاح المسلح، الذي بدأ عام 1964 بشكل ضعيف، ثم تطور بعد حرب 1967 وأصبح الأردن قاعدة انطلاقه حتى عام 1970 عندما طردهم الملك الأردني إلى لبنان، وهناك ذاقوا الأمرين خلال سنوات الحرب اللبنانية، إلى أن تم طرد قادة الحركة خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إلى تونس.

وكان أبو إياد الرجل الثاني في فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكان يضطلع بمهمتين متعاكستين، فهو يقود الأجهزة الاستخباراتية والأمنية في مواجهة أحد أعتى أجهزة الاستخبارات في العالم، وهو الموساد الإسرائيلي، وما يتطلبه ذلك من سرية وكتمان وحذر شديد، كما أنه الخطيب المؤثر في المؤتمرات والندوات، الذي اشتهر بصراحته وجرأته، وأحد أهم منظري الفكر الثوري لحركة فتح، وكان يتبنى الفكر العلماني ويدعو إلى قيام دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها المسلمون والمسيحيون مع المهاجرين اليهود من رعايا الاحتلال كمواطنين متساوين، ومع ذلك أسمته إسرائيل زعيم الإرهابيين، كما أُطلق عليه في وسائل الإعلام الغربية اسم «زعيم الصقور» في حركة فتح، وكان يُتهم بأنه رئيس منظمة أيلول الأسود السرية التي شنت عمليات انتقامية ضد إسرائيل والأنظمة العربية، لكنه ظل ينفي هذه التهمة بشدة، رغم تعاطفه المعلن مع تلك العمليات.

الاغتيال الغامض

في الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1991 شهدت مدينة قرطاج بتونس اغتيال أبي إياد، ومساعده فخري العمري أبو محمد، وهايل عبد الحميد أبو الهول، عضو اللجنة المركزية لفتح، في منزل الأخير.

وشكلت عملية الاغتيال هذه أحد أكثر الوقائع غموضًا والتباسًا رغم معرفة اسم القاتل واعترافه بتنفيذ الجريمة، والقبض عليه من قِبل منظمة التحرير الفلسطينية وإدلائه باعترافات تفصيلية، لكن كل ذلك لم يكن كافيًا لفك أسرار الأمر.

فقد نفذ عملية الاغتيال شخص فلسطيني ينتسب إلى جماعة «حركة فتح المجلس الثوري» المنشقة عن فتح، اتهمت بمحاولة اغتيال أبي إياد مرارًا قبل ذلك، يقودها صبري البنا (أبو نضال) الذي أسس المنظمة بعد انشقاقه، وكانت تصرفاته تتسم بالجنون فقد اتُّهم بقتل المئات من أعضاء منظمته بطرق وحشية، ونُقل عنه أنه كان يصف نفسه بـ «روح الشر».

وبحسب محاضر التحقيق، فقد انشق القاتل حمزة أبو زيد عن فتح ثم عاد، وطلب من أبي الهول مسامحته وإعادته إليها من جديد، مبينًا أنه على استعداد لتلقي أية عقوبة والمحاسبة على أي قصور سابق ارتكبه، فتم العفو عنه وإلحاقه بفريق حراسة أبي الهول في تونس، وانتظر لأشهر حتى لاحت له فرصة اغتيال أبي إياد، فنفذ الجريمة وقتل الرجلين الآخرين لما حاولا التصدي له.

ولما سمع الحراس أصوات إطلاق النار اعتقدوا أن هناك هجومًا خارج المنزل، فهرعوا للتصدي له، إلا أنهم وجدوا أبا الهول عند باب الفيلا وهو يزحف وتنزف دماؤه، ويصرخ قائلًا: «قَتَلَنا الجاسوس»، وفارق الحياة بعد قليل في طريقه إلى المستشفى، واحتجز القاتل ثلاث نساء كرهائن، لكن تم القبض عليه من جانب الأمن التونسي بعد أن تم تخديره خلال التفاوض معه، وبعد تحقيق أغلق سريعًا تم تسليمه إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فاستجوبته، ثم صدر الحكم حضوريًّا بإعدامه، والإعدام غيابيًّا لصبري البنا، واثنين من مساعديه في ليبيا.

تعرضت الحكومة التونسية لضغوط أمريكية كي لا يتم إعدام القاتل فوق أراضيها، فتم نقل القاتل إلى اليمن، وتعرضت صنعاء لنفس الضغوط، فأعدمه الفلسطينيون في المياه الإقليمية اليمنية قرب محافظة الحديدة جنوب البحر الأحمر.

وُجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس الليبي، معمر القذافي، نظرًا لاستضافته منظمة صبري البنا في هذا التوقيت، وأيضًا بسبب علاقته المتوترة مع أبي إياد الذي كان يرد عليه بقوة في المؤتمرات، وتبادل الرجلان الاتهامات أكثر من مرة، ولذلك كان القذافي متهمًا في نظر البعض بالوقوف وراء الاغتيال.

ووجهت كذلك أصابع الاتهام إلى بغداد؛ لأن أبي إياد كان معارضًا للغزو العراقي للكويت، وقال علنًا: «لن نكون يومًا رهن إشارة من الرئيس العراقي صدام حسين»، وكانت قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن على وشك التدخل عسكريًّا ضد الجيش العراقي، وكانت المهلة الدولية لبغداد تنتهي في منتصف يناير/ كانون الثاني، بعد يوم واحد من اغتيال أبي إياد ورفاقه، ومما عزز اتهام بغداد أيضًا بهذه الجريمة وجود صلات ومصالح بين صبري البنا والنظام العراقي.

ولكن رغم اعتراف القاتل تفصيليًّا بعلاقاته مع صبري البنا وظروف تنفيذ الجريمة ودوافعها فإنه اتضح أن القاتل كان مدربًا بشكل فائق لإخفاء تحركاته التي لم يجرِ التدقيق بشأنها خلال إجراء التحقيقات في ظل اعترافاته الواضحة والكاملة.

لكن اللواء محمود الناطور، القيادي بحركة فتح، كشف أنه تم إجراء تحريات وتحقيقات أفضت إلى اكتشاف عدم انتساب القاتل حمزة أبو زيد إلى منظمة صبري البنا، وأن أحد قادة هذه الجماعة، وهو منصور حمدان، أكد هذه المعلومة، كما بيَّن عاطف أبو بكر، المنشق عن هذه المجموعة، أن حمزة أبو زيد تواصل مع الموساد خلال تنقله في أوروبا الشرقية، وتم وضعه عمدًا في طريق مجموعة صبري البنا في بولندا، وسافر معهم إلى يوغسلافيا ومنها للفلبين، وهناك لاحظ مسئول هذه المجموعة وجود صلات له بسفارة إسرائيل في مانيلا، فأعاده إلى يوغسلافيا ومنها إلى طرابلس حيث التقى صبري البنا.

وفي ليبيا اقترح على الجماعة اغتيال أبي إياد، لوجود عداوة بين الطرفين، وعرض عليهم خطته لتنفيذ  المهمة عن طريق الانضمام إلى حراسات أبي الهول، لأنها الحلقة الأضعف التي يمكن استهداف أبي إياد من خلالها، لكنه كان في الحقيقة يتحرك بناءً على أوامر من الموساد، الذي استغل عداوة صبري البنا لحركة فتح، فاخترق منظمته وجند عددًا من منتسبيها، واستخدمهم كأدوات في تنفيذ مخططاته، لتكون غطاءً لهم حين إلقاء القبض عليهم، ولذلك فإن القاتل حمزة أبو زيد سعى جاهدًا للانتماء إلى الجماعة المنشقة لهذا الغرض.

ويؤكد اللواء المتقاعد من حركة فتح، غازي الحسيني، أن القاتل تلقى تدريبات في إسرائيل، معربًا عن اعتقاده أن الاغتيال جاء بهدف تصفية فتح من المعارضين لعملية السلام مع إسرائيل التي تمت لاحقًا في أوسلو عام 1993، وقدمت فيها السلطة الفلسطينية تنازلات هائلة كانت محل خلاف بين العديد من قادة وعناصر فتح، ومحل رفض كبير نسبيًّا من الشعب الفلسطيني.