أبو نصر الفتح بن خاقان (480 – 528هـ / 1087 – 1134م)، أديب مؤرخي الأندلس، أو فخر أدباء الأندلس كما يحلو لمؤرخي وأدباء الجزيرة، وواحد من الأدباء الأجواد الذين تفخر بهم الأندلس على مر العصور، كتب لملوك الطوائف ثم لبعض أمراء دولة المرابطين، تعد كتبه واحدة من أمهات المصادر في الأدب والتاريخ الأندلسيَيْن، أشهر كتبه: «قلائد العقيان في محاسن الأعيان» و «مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس».


نسبه ونشأته

هو أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان بن عبد الله القيسي الإشبيلي، أديب وكاتب وشاعر. ولد بقرية تعرف بصخرة الواد شرقي قلعة يَحْصِب من أحواز غرناطة، في حدود سنة 480هـ، ونشأ وترعرع في إشبيلية، وأخذ العلم عن طائفة من أدباء عصره، ومنهم: أبو بكر بن سليمان بن القصيرة، وابن عيسى ابن اللبّانة، وأبو جعفر بن سعدون الكاتب، وأبو الحسن بن سراج، وأبو خالد بن مستقور، وأبو الطيّب بن زرقون، وأبو عبد الله بن خلصة الكاتب، وأبو عبد الرحمن بن طاهر، وأبو عامر بن سرور، وأبو محمد بن عبدون، وأبو الوليد بن حجاج، وابن دريد الكاتب.

وبجانب هذه المشيخة، فقد كانت له أستاذية في زمنه، إذ كان يجلس للإقراء ويأخذ عنه تلاميذه، ويروون عنه الأخبار، حتى أصبح من أشهر كتّاب الأندلس، فروى عنه أبو عبد الله ابن زرقون جميع تواليفه وسمع كثيرًا من نوادره وأخباره، وروى عنه أيضًا أبو بكر يحيى بن محمد الأركشي، وللأستاذ أبي الحسن نجبة ابن يحيى إجازة منه باستدعاء أبيه لجميع تواليفه وأخباره.

وكان الفتح بن خاقان خليعًا مدمنًا، منحرف السلوك، قال ابن سعيد في المُغرب: «وذكر أنه عرف بابن خاقان لاتهامه في الخلوة، وأن ذلك وما اشتهر به من الوقوع في الأعراض صده عن أن يكون علَمًا من أعلام كتاب الدولة المرابطية». ومن أجل لك قال ابن الأبار في معجمه: «ولم يكن مَرْضِيًّا، وحذفه أولى من إثباته».


الأديب الكاتب

والفتح بن خاقان من كتاب ملوك الطوائف الأعلام، وقد اشتهر بأسلوبه الأدبي البليغ المسجع، وهو الذي اتبعه في كتابيه «قلائد العقيان» و «مطمح الأنفس». طاف في أول أمره بقصور الطوائف، واتصل بمعظم أمرائها، ثم خدم الأمير أبا إبراهيم إسحاق بن يوسف بن تاشفين، أخا أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وكتب له كتابيه «القلائد» مشتملًا على تراجم أمراء الطوائف، وأعيان العصر وفقهائه وكتابه. وانتقل في أواخر حياته إلى مراكش وعاش بها. ويبدو أن خلاعته حالت دون رضى أمراء المرابطين عنه، قال المقري: «ولولا ما اتسم به ممّا عرف من أجله بابن خاقان، لكان أحد كتّاب الحضرة المرابطية بل مجليها المستولي على الرهان، وإنّما أخلّ به ما ذكرناه، مع كونه اشتهر بذم أولي الأحساب، والتمرين بالطعن على الأدباء والكتّاب».


فخر أدباء الأندلس

قال المقري في نفح الطيب: «فخر أدباء إشبيلية بل الأندلس، أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيد الله القيسي الإشبيلي، صاحب القلائد والمطمح، ذكره الحجاري في المسهب، الدهر من رواة قلائده، وحملة فرائده، طلع من الأفق الإشبيلي شمسًا طبّق الآفاق ضياؤها، وعمّ الشرق والغرب سناها وسناؤها، وكان في الأدب أرفع الأعلام، وحسنة الأيام، وله كتاب قلائد العقيان ومن وقف عليه لا يحتاج في التنبيه على قدره إلى زيادة بيان، وهو وأبو الحسن ابن بسام الشنتمري مؤلف الذخيرة فارسًا هذا الأوان، وكلاهما قسٌّ وسحبان، والتفضيل بينهما عسير، إلا أن ابن بسام أكثر تقييدًا، وعلمًا مفيدًا، وإطنابًا في الأخبار، وإمتاعًا للأسماع والأبصار، والفتح أقدر على البلاغة من غير تكلف، وكلامه أكثر تعلّقًا وتعشقًا بالأنفس».

وكانت براعة الفتح بن خاقان في النثر أكثر من الشعر، قال ابن دحية في كتابه المطرب من أشعار أهل المغرب: «إني لقيت جماعة من أصحابه وحدثوني عنه بتصانيفه وعجائبه، وكان مخلوع العذار في دنياه، لكن كلامه في تواليفه كالسحر الحلال والماء الزلال».


أسفاره ورحلاته

كان الفتح بن خاقان كثير الأسفار والرحلات، تنقل بين ربوع الأندلس والمغرب ومدنهما، وفي ذلك يقول الوزير أبو محمد بن ملك مخاطبًا إياه: «فإنك من أبناء هذا الزمن، خليفة الخِضر، لا تستقر على وطن، كأنك والله يختار لك ما تأتيه وتدعه، موكل بفضاء الأرض تذرعه، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعتدك من العواري السريعة الاسترجاع، فلا يأسف على قلة الثرى، وينشد، وفارقت حتى ما أبالي من النوى».

ويـبدو أن أحد أسباب أسفاره ورحلاته الكثيرة، هو هجاؤه للأعيان والشعراء والوزراء، فقد كان ثابت الجنان شجاعًا في نقدهم وهجائهم ووصفهم بما يسيء إليهم، سواء أكان ذلك الوصف صادقًا أم غير صادق، وقيل إن أحكامه ووصفه وترجماته كانت بحسب رضاه أو سخطه على الموصوف أو المترجم له.

وعن هذا يقول لسان الدين بن الخطيب: «كان آية من آيات البلاغة، لا يشقّ غباره، ولا يدرك شأوه، عذب الألفاظ ناصعها، أصيل المعاني وثيقها، لعوبًا بأطراف الكلام، معجزًا في باب الحلى والصفات، إلّا أنه كان مجازفًا، مقدورًا عليه، لا يملّ من المعاقرة والقصف، حتى هان قدره، وابتذلت نفسه، وساء ذكره، ولم يدع بلدًا من بلاد الأندلس إلّا دخله، مسترفدًا أميره، وواغلًا على عليته ..، وكان معاصرًا للكاتب أبي عبد الله بن أبي الخصال، إلا أنّ بطالته أخلدت به عن مرتبته».


بين الفتح بن خاقان وابن باجة الفيلسوف

يروي ياقوت الحموي أن الفتح بن خاقان لما عزم على تصنيف كتابه «قلائد العقيان» جعل يرسل إلى كل واحد من ملوك أهل الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة، يعرفه عزمه، ويسأله إنفاذ شيء من شعره ونثره ليذكر في كتابه. وكانوا يعرفون شرّه، فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك مع صرر الدنانير، فكل من أرضته صِلته، أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكل من تغافل عن برِّه هجاه.

وكان ممن أرسل إليهم أبو بكر ابن باجة المعروف بابن الصائغ وهو آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس، وكان وزير ابن تيفَلْويِتَ صاحب المريّة، وكان ابن الصائغ هذا أحد الأعيان، وأركان العلم والبيان، شديد العناية بعلم الأوائل، وكانوا يشبّهونه في المغرب بابن سينا في المشرق، وله كتب في المنطق وغيره.

فلما وصلته رسالة ابن خاقان، لم يلتفت إليها ولم يعرها اهتمامه، ولم يرسل إليه ما طلب، ويبدو أن هذا أغضب ابن خاقان، فجعله في خاتمة كتابه، ووصفه وصفًا سيئًا بل ذمّه ذمًّا قبيحًا، وعرَّض باشتغاله بالفلسفة، فمن جملة ما قاله: «أبو بكر ابن الصائغ: هو رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين ..، ورفض كتاب الله العليّ العظيم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون إلى الله الفيئة»، ويبدو أنه لم يستطع إنكار فضله كل الإنكار فقال في ختام ترجمته: «وله نظم أجاد فيه بعض الإجادة، وشارف الإحسان أو كاده».

بينما ذكر ابن الخطيب أن سبب حقده على ابن باجة، ما كان من إزرائه به وتكذيبه إيّاه في مجلس إقرائه، إذ جعل يكثر ذكر ما وصله به أمراء الأندلس، ووصف حليًّا، وكانت تبدو من أنفه فضلة خضراء اللون، فقال له ابن باجة: «فمن تلك الجواهر إذن الزمردة التي على شاربك»، فثلبه في كتابه.

ولما بلغ ذلك ابن الصائغ، رأى أن يسترضيه، فأرسل إليه مالًا، وطلب منه أن يكف عن هجائه وأن يصالحه. وقد أرضى هذا ابن خاقان فيما يبدو، فلما كتب كتابه «مطمح الأنفس ومسرح التأنس» افتتحه بذكر ابن الصائغ، وأثنى عليه ثناءً جميلًا ومدحه قائلًا: «الوزير أبو بكر بن الصائغ هو بَدْرُ فهمٍ ساطعٌ، وبرهان علم لكل حجّةٍ قاطعٌ، تفوّحت بعطره الأعصار، وتطيّبت بذكره الأمصار ..، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها».


رسالته إلى أبي بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين

كتب الفتح بن خاقان رسائل كثيرة، جمعت في كتابه «مجموع رسائل»، ومنها رسالته البليغة التي أرسلها إلى أبي بكر بن علي بن يوسف بن تاشفين حين ولِّي إشبيلية، وقد جاء فيها: «أطال الله بقاء الأمير الأجل أبي بكر، للأرض يتملكها، ويستدير بسعده فلكها، استبشر الملك وحقّ له الاستبشار، وأومأ إليه السعد في ذلك وأشار، بما اتفق من توليتك، وخفق عليه من ألويتك، فلقد حُبِيَ منك بملكٍ أمضى من السهم المسدد، طويل نجاد السيف رحب المقلد (سعة الصدر)، يقدم حيث يتأخر الذابل (الرمح أو حامله) ويكرم إذا بخل الوابل، ويحمي الحمى كربيعة بن مُكَدَّم، ويسقي الظبا نجيعًا كلون العندم (زهر أحمر)، فهنيئًا للأندلس لقد استردت عهد خلفائها، واستمدت تلك الإمامة بعد عفائها ..، والله تعالى أسأله انتصار أيامك، وبه أرجو انتشار أعلامك، حتى يكون عصرك أعجب من عصرهم، ونصرك أعزّ من نصرهم، والسلام».


شعر الفتح بن خاقان

وللفتح بن خاقان شعر كثير، ومن أحسن ما نظم قوله يخاطب صديقه أبا يحيى ابن الحاج، وقد كان وقع بينه وبينه في بعض الأيام تنازع أدى إلى الانفصال، وتعطيل تلك البكر والآصال. قال الفتح: فانقشعت تلك المخيلة، وتحركت لوعة مودته الدخيلة، وأكدت تجديد ذلك العهد الرائق، وكف أيدي تلك العوائق، فكتبتُ إليه:

أكعبةَ عليَاءٍ وهَضْبة سُؤدَدٍ :: ورَوْضةَ مَجْدٍ بالمفَاخر تُمْطِرُ

هَنيئًا لمُلْكٍ زانَ نُورُك أفْقَه :: وفي صَفْحَتيه من مَضائك أسْطَر

وإني لخفَّاق الجنَاحَين كلمّا :: سَرَى لك ذكرٌ أو نَسيم مُعَطَّر

وقد كان واشٍ هاجَنا لتنافُرٍ :: فَبِتُّ وأحشائي جَوًى تَتفطّر

فهل لك في وُدّ ذَوَي لك ظاهرًا :: وباطِنُه يَنْدَى صَفَاءً ويَقْطُر

ولستُ بِعِلْقٍ بِيعَ بَخْسًا وإنّني :: لأرْفَعُ أعْلاقِ الزمان وأنْضَر

فأمر الأمير ذو الوزارتين أبو عبد الله ابن أبي الخصال أبا يحيى ابن الحاج بمراجعته، فكتب عنه بقطعة منها ما ثبت أيضًا في قلائده ممّا أوّله:

ثَنيتَ أبا نَصْر عِنَاني وربَّما :: ثنَتْ عَزْمةَ السَّهم المُصمم أسُطُر


مؤلفات الفتح بن خاقان

ومصنفات الفتح بن خاقان شهيرة، ولعل أشهرها ثلاثة، وهي:

1- «قلائد العقيان في محاسن الأعيان»، وهو في أخبار شعراء المغرب، وقد ذكرنا أنه من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه ونعته، وكل من تغافل عن بره هجاه وثلبه. قال ابن خلكان: «وقد جمع فيه من شعراء المغرب طائفة كثيرة، وتكلم على ترجمة كل واحد منهم بأحسن عبارة وألطف إشارة». وقد ألفه ابن خاقان للأمير أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين، وذكره في خطبة الكتاب. وقد قسمه ابن خاقان في أربعة أقسام: القسم الأول (في محاسن الرؤساء وأبناءهم، ودرج أنموذجات من مستعذب أنبائهم)، القسم الثاني (في غرر حلية الوزراء، وفقر الكتاب والبلغاء)، القسم الثالث (في لمع أعيان القضاة، ولمح أعلام العلياء السراة)، القسم الرابع (في بدائع نبهاء الأدباء، وروائع فحول الشعراء).

2- «مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس»، قال ابن خلكان: «وهو ثلاث نسخ كبرى وصغرى ووسطى، وهو كتاب كثير الفائدة ..، وكلامه في هذه الكتب يدل على فضله وغزارة مادته». وقد قسمه ثلاثة أقسام: القسم الأول (يشتمل على سرد غرر الوزراء، وتناسق دُرر الكُتّاب والبلغاء)، القسم الثاني (يشتمل على محاسن أعلام العلماء، وأعيان القُضاة والفُهماء)، القسم الثالث (يشتمل على سرد محاسن الأدباء، النوابغ النُجباء).

3- ورسالة في «ترجمة ابن السِّيد البَطَلْيَوْسي»، وهو شيخ القاضي عياض، وأوردها المقري في «أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض».

وللفتح بن خاقان كتب أخرى في عداد المخطوط أو المفقود، منها: «راية المَحاسن وغاية المُحاسن»، و «مجموع في رسائله» و «كنز الفوائد» و «حديقة المآثر».


مقتل الفتح بن خاقان

انتقل الفتح بن خاقان في أواخر حياته إلى مراكش عاصمة دولة المرابطين، وعاش بها، ويبدو أن ما اشتهر به من الخلاعة والمجون وشرب الخمر وانحراف السلوك ألَّب عليه فقهاء الدولة، فانتهى بأن توفي قتيلًا في الفندق الذي يسكنه بمراكش، حيث ذبحه عبد أسود خلا معه بما اشتهر عنه، وتركه مقتولًا، وعُبث به، وما شُعر به إلا بعد ثلاث ليال من قتله. ويقال إن الذي أشار بقتله أمير المسلمين أبو الحسن علي بن يوسف بن تاشفين.

وهكا كانت وفاة الفتح بن حاقان وهو في نحو الخمسين من عمره، بمراكش، وهو بعيد عن وطنه، ليلة الأحد الثاني والعشرين من المحرم، ودفن بباب الدباغين. وقد اختُلف في سنة وفاته، بين عام 528، 529، 535هـ، ونرجح ما ذكره ابن الأبار في معجمه، فقد قرأ ذلك بخط مَن يوثق به.

المراجع
  1. الفتح بن خاقان: قلائد العقيان، حققه وعلق عليه: حسين خريوش، مكتبة المنار، الأردن، ط1، 1989م.
  2. ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، ج4، ط1، 1971م.
  3. ياقوت الحموي: معجم الأدباء، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار الغرب الإسلامي، بيروت، ج5، الطبعة الأولى، 1414هـ / 1993م.
  4. ابن الأبار: معجم أصحاب القاضي أبي علي الصدفي، الناشر: مكتبة الثقافة الدينية – مصر، الطبعة الأولى، 1420هـ / 2000م.
  5. لسان الدين ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424هـ.
  6. المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، الجزء 7.
  7. ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناءوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناءوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، ج6، الطبعة الأولى، 1406هـ / 1986م.
  8. الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: 15، مايو 2002م.