تهدف تلك الدراسة إلى التأصيل الأكاديمي للفن بداخل علم السياسة عبر تشريح إشكاليتين فرعيتين رئيسيتين: أُولاهما، التأسيس لدور الفن كمستوى معرفي يُمكّن عالم السياسة من فهم وتحليل مستويات مختلفة من الظاهرة السياسية، وهي ما تعرضنا له في الجزء الأول من هذه الدراسة.

وتتمثل الإشكالية الثانية في التأسيس لدور الفن على مستوى الحركة السياسية والنشاط السياسي، ببحث دور الفن في إحداث التغيير السياسي، سواء من خلال الإنتاج الإبداعي للفنون المختلفة، أو من خلال الدور الفاعل للفنانين كفاعلين سياسيين، ودور ذلك في إحداث التغيير السياسي، وهي ما سنعرض له في هذه الجزء.


ثانيًا: التأسيس لدور الفن على مستوى الحركة السياسية والنشاط السياسي

تدفع تلك الإشكالية بدور الفن الفاعل في إحداث تأثير على مستوى الواقع السياسي سواء من خلال الإنتاج الفني من أعمال فنية أو من خلال الدور الفاعل للفنانين في النشاط السياسي ودور ذلك في الدفع بالتغيير السياسي. تذهب الدراسات كذلك لاعتبار الفنون بمثابة سلطة لكنها غير مباشرة بما تمتلكه من سلطان وإمكانات قادرة على التسلل إلى عقل ووعي المجتمع وإحداث تأثير، كذلك الفنان حين يجيد أحد أنواع الفنون فتنتقل إليه تلك السلطة بل يمتلك هو ذاته نفوذ وسلطان عليها وعلى حواسه وخياله، وكيف يستخدم كل ذلك في تمرير أفكاره والتعبير عنها، ومن هنا أتت خطورة الفن والفنانين حيث يظهر مثال بارز على ذلك وهو الأديب «مكسيم غوركي» ذلك الأديب الروسي عظيم التأثير بكتاباته ضد لينين في أعقاب ثورة أكتوبر/ تشرين الأول رغم صداقته به قبل الثورة والأمر الذي أدى لتعرضه للنفي خارج روسيا جراء كتاباته، ومن هذا المنطلق كذلك تأتي العلاقة بين الفن والسياسة، وبين الفنان والدولة ما بين التدخل والرقابة أو الدعم والاستخدام.[1]

تتدخل الدولة في الفنون من خلال فرض الرقابة، أو الدعم للقيمة الفنية ذاتها، أو التوظيف في الدعاية السياسية والتعبير عن الأيديولوجيا السياسية للسلطة

نورد في تلك السطور التالية لأربعة أنماط لطبيعة ذلك التداخل بين الفن والسياسة كما أتى بها الباحث «كيريل باريت»، حيث يعمد باريت لتصنيف ذلك التداخل إما سلبًا بتعرض الفن لتدخل الدولة ورقابتها، أو إيجابًا من خلال الدعم والاستخدام، وتلك الأنماط الأربعة تمكنا من فهم مدى تأثير وفعالية الفن للحد الذي يدفع الدولة إلى التفاعل معها والتحرك اتجاهها كما سنورد هنا.

يورد الباحث النمط الأول بتدخل الدولة في الفنون بمنع أعمال فنية محددة، أو أنواع معينة من الفنون بفرض معايير محددة أو من خلال تحجيم العمل الفني كما يحدث في اقتطاع أجزاء من الأفلام أو الروايات والمسرحيات. يتم كذلك التدخل بالتقييد من خلال فرض الرقابة من قبل الدولة على فنانين بأعينهم وتوقيع المخالفات عليهم ومنعهم من مزاولة نشاطهم الفني، وتوقع تلك المخالفات تحت دعوى حفظ الأمن والفضيلة ومراعاة الآداب العامة، إلا أن يكون خلف ذلك أسباب سياسية وأيديولوجية.[2]

يتمثل النمط الثاني في علاقة الفن بالسياسة في دعم الدولة للفنون لأغراض تضعها في برامجها كإحداث طفرة حضارية وثقافية وهنا يكون دعم الفن لقيمته الذاتية، بينما قد تكون هناك أسباب عملية كتحسين جودة التصميم في الصناعات والتي تتطلب خبرات جمالية وفنية، أو لأسباب دبلوماسية إحداث مكانة أيديولوجية وقومية، وقد تكون المناورة السياسية على مستوى الداخلي أو الخارجي هي الدافع لذلك حيث ترغب الدولة في تقريب فنانين ذوي شعبية محليًا للاستفادة من شعبيتهم، أو لإحراز مكانة دولية وتمثيلها دوليًا لإحراز مكانة دولية.[3]

يظهر النمط الثالث في تشريح العلاقة بين الفن والسياسة في استخدام الفن للدعاية السياسية (Political propaganda). ويقصد بالدعاية السياسية المحاولة الواعية والمتعمدة والمقصودة لتمرير رسالة سياسية عبر الفنون، وتتضمن الدعاية الفنية إما النية لتمرير رسالة لإحداث تحولات على مستوى السياسات أوبتبني شكل معين من الفنون الجذابة لدرجة التجمهر حولها لكنها مع ذلك بسيطة حتى تكون قادرة على اكتساب قاعدة جماهيرية غفيرة حولها تكون من خلالها قادرة على إحداث تأثير واضح وملحوظ.[4]

ويتمثل النمط الرابع والأخير في استخدام الفن للتعبير عن الأيديولوجيا السياسية، وهنا يتم التعبير عنها إما بشكل واضح من خلال التعبير عبر أنواع الفنون المختلفة ببساطة عن مجموعة من العقائد السياسية دون أن يكون الغرض من ذلك إحداث تغييرات فعلية بل هو تعبير عن معتقد أيديولوجي وقد يلجأ لذلك التعبير أناس عاديون ليس بالضرورة فنانون. قد يتم كذلك التعبير عن الأيديولوجيا بشكل غامض غير واضح ومقصود ولكن يظهر كنوع من التجلي الداخلي لباطن الفن، ويحمل ذلك ادعائيين الأول يتمثل في القول بأن كل عمل فني هو تعبير عن أيديولوجيا سياسية سواء كان الفنان على وعي بذلك أم لا، ويتمثل الادعاء الثاني في القول بأن القيمة الجمالية للعمل الفني تحدد إلى حد ما التوجهات الإيديولوجية وهو ما تتبناه العديد من الكتابات المهتمة بهذا الصدد.

يخلص باريت في نهاية تحليله إلى أن تلك الأنماط في النهاية تبرز لنا أن السيادة في النهاية للاعتبارات السياسية التي تحدد لنا ما إذا كان العمل الفني فنيًا أم لا، جماليًا أم لا؟ كذلك يقدم لنا ما يكمل إشكالية هذا التحليل بكون أن الفن قد يسقط في مجال السياسة مثلما يسقط في مجالات عدة غيرها كالأخلاق والاقتصاد والاجتماع، ولكنه لابد وأن يُبقي على استقلاله لضمان استمرارية تأثيره حيث يمكن أن نعثر على حل فني لمشكلة سياسية بينما لا يمكن أن نعثر على حل سياسي لمشكلة فنية جمالية، وهذا هو مناط التأثير والتأثر.[5]

يبرز دور الفن كذلك على مستوى الحركة السياسية والنشاط السياسي في الثورات، وذلك عند تتبع الدور الفاعل للفنانين كنشطاء سياسيين. يبرز ذلك التأثير عند تشريح نمط وطبيعة العلاقة التفاعلية بين الفنانين والثوريين فنجد قوامها درجة الثقة المتبادلة ومصداقية الفنان. ويمكن تتبع دور الحركات الفنية في النشاط السياسي كما في مصر، حيث برز دورهم الفاعل في المشاركة والتأريخ لثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011م، ويعد أبرزهم الفنان الشهيد «أحمد بسيوني» الذي قتل في يوم الثامن والعشرين من يناير/كانون الثاني، المسمى بجمعة الغضب أثناء تسجيله للأحداث كما عُرضت تسجيلاته في عام 2012م في بينالي فينيسيا باعتبارها الممثل الرسمي لمصر حينها [6]، ومن ثم يتجلى هنا الدور الفاعل للفنانين في المجال السياسي بشكله غير التقليدي عما تم الاعتياد عليه حيث اختلف نمط التأثير في المشهد السياسي بانتقال الفنان إلى حيز النشاط السياسي باستخدام أدواته الفنية التي تتجاوز في تأثيرها الوجود المادي له بل تشمل هي ذاتها التأريخ لوجوده وليس فقط أن تكون مجرد إنتاج مادي معبر عن الفنان وتوجهه بل أضحت احتمالات تأثيرها ديناميكية ومرنة.

يمكننا كذلك رؤية ذلك الدور الذي لعبه الفنانين في التعبير عن أوضاع المجتمع المصري قبل انهيار النظام الملكي بسنوات قليلة، مثال ذلك اللوحة الفنية الشهيرة للفنان عبد الهادي الجزار عام 1949م، والتي عُرفت بأسماء عدة منها «خط الفقر»، و«مسرح الحياة»،والتي جسدت ثماني نساء حفاة الأقدام وفتاة يقفون متراصين بأطباق طعام فارغة، واستخدمت تلك اللوحة للتعبير عما آلت إليه أوضاع الطبقات البسطة من المجتمع المصري تحت وطأة النظام الملكي في عهد الملك فاروق.

وقد أسس عبد الهادي الجزار وأستاذه حسين يوسف أمين جماعة الفن المعاصر وجاءت أعمالهم معبرة عن الأوضاع السياسية ومعارضة للنظام الملكي وقد تم اعتقالهم لمدة عام وخروجهم بعد تدخل الفنانين «محمد ناجي» و«محمود سعيد». وبعد سقوط الملكية أرّخ الفنان «عبد الهادي الجزار» للفترة الناصرية بعمل فني عام 1961م اعتبر أيقونة للفترة الناصرية والذي يُسمى «الميثاق» وهو الآن بمتحف الفن المصري المعاصر، وفيه يصور فلاحة مصرية على رأسها تاج منقوش عليه النسر المصري وتمسك بالبيان الناصري، وبجوارها عامل ينصت إليها. ويعد هذا العمل أيقونة ثورة 1952م.[7]

يمتلئ المجال السياسي المصري بالعديد من الحركات الفنية السياسية في كل مراحله، حيث يتيح لنا بديناميكيته أن نكتشف بل نكشف أهميته عند تتبع علاقة الفنانين الحرجة بالنشاط السياسي وما يتم تعرضهم إليه من سجن واعتقال أو رقابة ومنع من مزاولة نشاطهم الفني باختلاف خلفياتهم الاجتماعية وانتماءهم السياسي، مثال ذلك الفنانة الشابة «إنجي أفلاطون» التي انضمت إلى جماعة الحرية والفنون في الثامنة عشر من عمرها، وهي ذات نشأة أرستقراطية وتعليم فرنسي لكن لم يمنعها ذلك من الانضمام للحركة الشيوعية والدفاع عن انتمائها الماركسي وقد اعتُقلت أفلاطون عام 1959م في الخامسة والثلاثين من عمرها لتكون أول امرأة مصرية معتقلة ولمدة أربع سنوات وذلك لانتمائها للحزب الشيوعي المحظور.

يمكن كذلك تتبع النشاط السياسي للفنانين خلال فترة حكم السادات، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الفنان «جورج بهجوري» الذي تم منع كتابه الذي يحتوي على رسوم كاريكاتورية لاذعة النقد لمعاهدة كامب ديفيد التي وقعها السادات ويحمل الكتاب عنوان «الأعمال الفنية الممنوعة»، يمكن كذلك الإشارة إلى الفنان الكاتب الساخر «محمود السعدني» والذي تعرض لملاحقات من نظام السادات. نجد كذلك نماذج بارزة خلال فترة مبارك وهي الشاعر «أحمد فؤاد نجم» والملحن «الشيخ إمام» واللذان تعرضا لعقوبة السجن لمدة 11 سنة.[8]


خاتمة

يظهر التأثير المتبادل بين الفن والسياسة أيضًا من خلال الدور الفاعل للفنانين كنشطاء سياسيين. ويبرز هذا في المجال المصري بقوة مرتبطا بالأوضاع القمعية أو بالحراك الثوري

نخلص من ذلك إلى أن العلاقة بين الفن والسياسة علاقة تبادلية ديناميكية، حيث يمنحنا الفن قدرة معرفية على مستوى علم السياسة تمكننا من رؤية واستبصار أكثر عمقًا لكليات الوجود الإنساني التي بالضرورة يشكل الوجود السياسي جزءًا منه حيث يمكننا الفن من كشف وتجلية ما يحيط بالظاهرة الإنسانية عمومًا والإنسانية خصوصًا فيمكننا من فحص القيم والتوجهات والسلوك المصاحب لها، كما يمكننا من التعمق في تحليل البنية النفسية والشعورية المصاحبة لها والتي كثيرًا ما تكون هي مفتاح العديد من الإشكاليات في دراسة الظاهرة السياسية، وهي المنوطة بالإصلاح لإحداث أي تغيير حيث أن البنية النفسية والشعورية تلك هي موطن ضعف العلوم السياسية والإنسانية كذلك، وذلك حين يصعب ملاحظة السلوك الإنساني وما وراءه من دوافع والتثبت والتحقق منها مرارًا وتكرارًا بينما يمنحنا الفن تلك التجربة الفكرية في العلوم الإنسانية التي تشكل بديلًا للتجربة المعملية كما في العلوم الطبيعية.

لا تكمن كذلك أهمية الفن وحدها في ذلك المستوى المعرفي، وإنما تتجاوز ذلك إلى لعب دور في الواقع السياسي وعلى مستوى الحركة والنشاط السياسي، فكما أوضحنا أنماط العلاقة الديناميكية بين الفن والدولة ما بين الدعم أو المنع والرقابة التي تبرز يقين الدولة لذلك الدور الفاعل للفن والفنانين في المجال السياسي ، وكما ذكرنا الحركة الفنية في المجال السياسي في عدة أنظمة حكم متتالية منذ ناصر وحتى الثورة المصرية وما تعرض إليه الفنانين من اعتقال أو سجن، كما سنشير في تحليلات نقدية نوردها في الفصول القادمة إلى دور الفن في تشكيل الوعي والذاكرة الجمعية للشعوب وإحياء فكرة المقاومة عند الشعب الفلسطيني، كذلك سنتعرض إلى دور الموسيقى في المشاركة السياسية وتقديم رؤية جديدة على مستوى الدراسة العلمية لمفهوم المشاركة السياسية ومحدداته، أو من خلال التحفيز الجماهيري للمواطنين والتأثير في الواقع السياسي بشكل مختلف ورؤية وأدوات غير تقليدية.


[1] Heinrich,B.(1983). Art, Imagination and Politics. Harvard International Review, Vol. 6, No. 2,PP9-10.[2] Cyril, B.(1972). Art and Politics. Proceedings of the Aristotelian Society, Supplementary Volumes, Vol. 46, PP127.[3] Ibid, PP127-128.[4] Ibid, P128.[5] Ibid.[6] Al Qassemi, Sultan.(31-10-2014). Egypt’s Long History of Activists Artists. The Tahrir Institute For Middle East Policy.Retrieved at: http://timep.org/egypts-political-art-history/[7] Ibid [8] Ibid.