هل كنت معنا في تلك الليلة التي لامس فيها «أداما تراوري» السماء؟ نعم، تلك التي قام بها بتسجيل ذلك الهدف الرائع وصناعة واحد غيره، بجانب تقديمه لعشر مراوغات ناجحة من أصل 11، في فوز فريقه وولفرهامبتون على بطل الدوري الإنجليزي مانشستر سيتي.

أداء «أداما» في تلك الليلة لم يكن طبيعيًا، ليتفاجأ الجميع أن هناك شخصًا قضى بضع سنوات على الهامش، ولديه إمكانيات كبيرة للدرجة التي جعلت مانشستر سيتي نفسه يقوم بإرسال عرض بقيمة 80 مليون يورو لانتدابه.

لذلك بما أننا نتحدث عن شخص يتعامل معه الجميع على أنه هبط من السماء فجأة ليدمر مساعي أحد الفرق في المنافسة على الدوري الإنجليزي، كان علينا أن ندقق ونبحث عن تاريخه.

المفاجأة غير السارة للبعض أنه لم يهبط من السماء ولم يفعل أي شيء غير طبيعي، بل ولد مثله مثل أي شخص عادي منذ 24 عامًا ببلدية «لوسبيتاليت دي يوبريغات»، وهي إحدى بلديات مقاطعة برشلونة، لوالدين هاجرا حديثًا من مالي.

ونعتذر لك مقدمًا لأنك لن تقرأ في الأسطر القادمة قصة كفاح درامية عن العائلة المهاجرة التي عانت من الفقر والضياع حتى انتشلهم ابنهم الموهوب منه ووضعهم على خارطة أغنياء العالم، نحن نعرف أنك تحب ذلك النوع من القصص، لكن حياة «أداما» وعائلته لا تصنف كذلك أبدًا.

حياة عادية

بل هي قصة عادية جدًا، لعائلة مكونة من خمسة أفراد وتصنف ضمن الطبقة المتوسطة. هاجر الوالدان من مالي صوب برشلونة آملين في أن توفر المدينة الجميلة فرصًا أفضل لأبنائهم الثلاثة، ربما كانوا غير قادرين على توفير أحدث الألعاب لأطفالهم، لكن كانوا قادرين على توفير لعبة كلاسيكية جدًا مثل كرة قدم صغيرة لأبنائهم الصغار، دون أن يعلموا أن تلك اللعبة ستغير حياتهم إلى الأبد.

العيش في كتالونيا محاطًا بتاريخ كروي مهيب يجسده نادي برشلونة، ساعد في توجيه فكر «أداما» وأخيه «محمد» نحو اللعبة، فبدأ الاثنان باللعب في المنطقة مع أطفال الجيران، ثم بعد ذلك انتقلا للعب «بالمركز الرياضي لبلدية لوسبيتاليت».

هناك حيث صقلت موهبة «أداما» لدرجة كبيرة لتتخطى موهبة أخيه الأكبر، وهو ما قاده بنهاية الأمر بعمر الثامنة للعب ضمن صفوف اللاماسيا، واحدة من أكبر أكاديميات كرة القدم في العالم، وحلم كل الأطفال في تلك الفئة العمرية.

لكن طريق ذلك الحلم لم يكن مفروشًا بالورود، بل تطلب من «أداما» الكثير من التضحيات؛ كالابتعاد عن عائلته قليلاً، والغياب عن أعياد ميلاد رفاقه. كان الأمر صعبًا على صبي بالثامنة، لكنه كان بمثابة تضحيات مقبولة في مقابل أن يترك انطباعًا جيدًا داخل اللاماسيا.

المثل الأعلى

قبل المواصلة، عليك أن تنتبه لشيء صغير، عندما انضم «تراوري» للاماسيا في عام 2004، كان الشاب الصغير ليونيل ميسي، واحدًا من أهم إنتاجات اللاماسيا حينها، والذي كان يتوقع له الجميع مستقبلاً مبهرًا – يلعب أولى مبارياته مع الفريق الأول لنادي برشلونة، وكان «تراوري» رفقة باقي الأطفال يتخذونه مثلاً أعلى. وبفضل ميسي، ارتفعت المعايير، وبات إثبات الناشئ لنفسه أكثر صعوبة.

لكنه استطاع أن يفعل ذلك باقتدار، بفضل قوته البدنية وسرعته الفائقة، لدرجة أن رفاقه ومدربيه باللاماسيا كانوا ينعتونه بـ «يوسين بولت»، نسبةً للعداء الجامايكي الذي يعتبر الأسرع في التاريخ، وفوق كل ذلك كان جيدًا حقًا بالكرة، لذلك كان يتم الاعتماد عليه في بعض الأحيان لمواجهة بعض اللاعبين الأكبر منه.

استمر لاعب وولفرهامبتون الحالي بالتدرج في كل الفئات العمرية باللاماسيا حتى وصل إلى فريق برشلونة ب، وهناك تمكن رفقة زملائه أن يحقق لقب دوري أبطال أوروبا للشباب عام 2014، وفي نفس العام كان بولت اللاماسيا يلعب أولى دقائقه مع فريق برشلونة الأول، وهو في الثامنة عشر من عمره، كبديل لنيمار بمباراة غرناطة في الدقائق السبع الأخيرة.

رحلة صعبة

بعد كل تلك السنوات مع برشلونة، وبعد كل تلك الشهرة الواسعة التي حققها داخل أكاديمية النادي، حدث شيء ما في حق «أداما» لم يعجبه، شيء ما رفض أن يتحدث عنه تمامًا، وهو ما جعله يقرر ترك كل شيء وراءه والرحيل عن برشلونة بعد عامين رفقة الفريق الأول للنادي متجهًا إلى أستون فيلا.

وهناك بإنجلترا، لعب أول مواسمه على الإطلاق بالبريميرليج بموسم 2015/2016 وهو في التاسعة عشر من عمره، ولم يكن التأقلم والتعود على الأجواء الإنجليزية سهلاً في ذلك السن، لذلك وبعد 777 دقيقة لعب بإنجلترا، بينهم 531 مع فريق تحت الـ21 عامًا لأستون فيلا، رحل تراوري متجهًا لمحطته الجديدة وهي ميدلزبره الصاعد حديثًا للبريميرليج.

لم يقدم تراوري حينها الأداء المنتظر منه كخريج من الأكاديمية الكروية الأشهر في العالم، ففي 27 مباراة بالبريميرليج، اكتفى الجناح الإسباني بصناعة هدف وحيد، ولم يسجل أو يقدم أي لمحات أخرى. كانت الأمور تسوء في وجهه أكثر فأكثر، حتى أن ميدلزبره لم يصمد بالبريميرليج سوى موسم واحد فقط، بعدها عاد أدراجه من جديد إلى التشامبيونشيب.

وهناك قدم تراوري أنجح مواسمه، بتسجيل خمسة أهداف وصناعة 10، بجانب معدل مراوغات وصل لـ 8 مراوغات للمباراة، ولفت بمهاراته وقوته البدنية أنظار جميع متابعي بطولة التشامبيونشيب، لينهي موسمه الرائع رفقة البورو بثلاث جوائز: وهم أفضل لاعب ناشئ للعام في النادي، أفضل لاعب للعام وفقًا لتصويت الجماهير، والجائزة الأهم وهي أفضل لاعب بالفريق.

نجاح في الأفق

ذلك الموسم الرائع الذي قدمه مع البورو لفت أنظار مدرب وولفرهامبتون «نونو إسبيريتو سانتو»، الصاعد حديثًا للبريميرليج، والذي قرر ضم الجوهرة الإسبانية في رحلته صوب أعلى منافسات إنجلترا. وفي موسمه الأول رفقة الوولفز، لم يقدم الأداء المنتظر، مكتفيًا بـ 896 دقيقة وهدف وحيد في شباك ويست هام.

لكن صبر مدربه منحه مزيدًا من الوقت، فكان «نونو سانتو» على يقين بإمكانياته الهائلة، ربما يفتقر إلى الذكاء التكتيكي في الملعب في بعض الأحيان، وربما يفتقر إلى الجودة في إنهاء الفرص، لكن كل ذلك لا يتعارض مع كونه لاعبًا قادرًا على صناعة الفارق إذا تم توظيفه بالشكل الأمثل، وهو ما فعله مدرب فالنسيا السابق في موسم 2019/2020.

يرى محرر الجارديان بول دويل، أن تراوري استفاد من غياب الظهير الأيرلندي «مات دوهيرتي» عن الفريق بسبب الإصابات، وهو ما جعل نونو سانتو يدفع الجناح الإسباني في مركز الجناح المدافع «Right Wing Back». وعلى الرغم من ضعف «أداما» في الشق الدفاعي، إلا أنه منح مدربه سلاحًا هجوميًا فتاكًا بفضل سرعته ومهارته الفذة في موقف واحد ضد واحد. ومع ارتفاع مستوى «أداما»، نقله «نونو» للعب تحت المهاجم، وهذه النقلة تحديدًا حدثت أثناء مباراة مانشستر سيتي على ملعب الاتحاد، حين ضربهم «تراوري» بهدفين.

لم يكن تطويع تراوري للعمل والنجاح داخل منظومة نونو سانتو أمرًا سهلاً، ففي البداية أسلوب الوولفز مختلف كليًا عن ذلك الأسلوب الذي اعتاد عليه هناك رفقة البورو مع مدربه الإسباني كارانكا. فنحن نتحدث عن فريق مطالب بالاستحواذ على الكرة لأطول فترة ممكنة من اللقاء -باستثناء مبارياته أمام الستة الكبار- على عكس ميدلزبره الذين كان اعتمادهم الأساسي على الهجمات المرتدة، لذلك توظيف تراوري والمهام الموكلة إليه اختلفت تمامًا عن ما كان مطلوبًا منه رفقة كارانكا.

أضف إلى ذلك أننا أمام لاعب لم يثبت نفسه بالبريميرليج لموسمين كاملين. نعم، كان صغيرًا لكن ذلك لن ينفي الأثر السلبي الناتج عن ذلك، والذي تطلب منه المزيد من العمل لتحسين نقاط ضعفه، كإهداره للفرص وعدم وعيه التكتيكي لمركزه في بعض الأحيان، لكن لحسن الحظ فـتراوري كان واعيًا لكل ذلك.

وهو الذي أتى بثماره في نهاية الأمر، حيث استطاع «أداما» حتى منتصف موسم 2019/2020 تسجيل أربعة أهداف وصناعة أربعة آخرين، وتمكن من كسر سلسلة العام الكامل بدون تسجيله لأهداف منذ هدفه العام الماضي في شباك ويست هام، وبات عضوًا فعالاً في كتيبة نونو سانتو التي تقدم رحلة مثالية حتى اللحظة بالبريميرليج واليوروبا ليج. دون أن تنسى النتيجة الأهم، فهناك عائلة من المهاجرين الماليين في إسبانيا تغيرت حياتهم الآن، والفضل يرجع إلى ابنهم أداما الصغير.