فاجأت التغيرات الأخيرة في أفغانستان المجتمع الدولي، حيث تمكنت طالبان من الوصول إلى السلطة واكتساح قوات الأمن الأفغانية في بضعة أسابيع.

ولكن النظرة المتأنية تكشف أن كثيرًا من هذه الأحداث لها مقدمات أُغفلت، ولو درسنا الوقائع لوجدنا أن المفاجأة الوحيدة تكمن في تسارع الأحداث، ولوجدنا أن وصول طالبان للحكم كان من المفترض أن نتوقعه.

تدافعت مع هذه الأحداث المتسارعة مجموعة من الأسئلة: هل تغيرت حركة طالبان وصارت أكثر مرونة ومواكبةً لمتطلبات العصر؟ وهل ستفي طالبان بوعودها وتؤسِّس دولة تحترم حقوق المرأة والإنسان؟

وإذا رصدنا استمرار طالبان في صراعها على الحكم كل هذا الوقت، ألا يدل ذلك على وجود جذور عميقة لطالبان في المجتمع الأفغاني؟ فلماذا يهرب الأفغان من حكم الشريعة إذا كانت ثقافتهم الإسلامية قوية الجذور كما نعلم جميعًا؟ كيف نُفسِّر التناقضات الواضحة من رغبة أعداد ضخمة من الأفغان في الهروب إلى مجتمعات غير إسلامية؟

هل أصبحت طالبان أكثر إنسانية؟

في ١٥ أغسطس/آب 2021 وعد المتحدث باسم حركة طالبان، «ذبيح الله مجاهد»، في أول مؤتمر صحفي لطالبان في كابول، باحترام حقوق المرأة وفق الشريعة الإسلامية، وقال: «ستكون المرأة نشطة للغاية في مجتمعنا»، وسيُسمح لها بالعمل «في إطار قوانيننا الإسلامية».

ولكن من خلال أحداث الأيام والأسابيع القليلة الماضية تبدو الصورة شديدة الاختلاف، فقد فتشت طالبان منازل ثلاثة صحفيين على الأقل من «دويتشه فيله»، وتم اختطاف أو قتل إعلاميين من وسائل إعلام أخرى، إذ يُعتقد أن طالبان اختطفت «نعمة الله هيمات» من محطة تليفزيون «غرغشت» الخاصة، وقتلت «طوفان عمر» رئيس محطة إذاعة «باكتيا غاغ» الخاصة، بحسب ما ذكرته الحكومة الأفغانية السابقة في أول أغسطس/آب 2021.

وفي ٩ يونيو/حزيران 2021، قتلت الحركة عشرة عمال لإزالة الألغام في ولايةبغلان. وفي 16 يوليو/تموز، لقي المصور الهندي الشهير «دانيش صديقي» – الحائز على جائزة بوليتزر – مصرعه في قندهار، على الأرجح برصاص طالبان. وفي ٢ أغسطس/آب، قُتل المترجم «أمداد الله همدارد»، الذي كان يعمل غالبًا لصحيفة «دي تسايت» الألمانية الأسبوعية، وذلك في أحد شوارع مدينة جلال آباد شرق أفغانستان.

وفي ٦ أغسطس/آب تم اغتيال رئيس قسم الإعلام التابع للحكومة في كابول، بعد أيام من تحذير حركة طالبان بأنها ستستهدف كبار المسئولين. ثم قامت بقتل حاكم ولاية لوكر السابق بأفغانستان. وفي ١٩ أغسطس/آب قتلت الحركة أحد أفراد عائلة صحفي يعمل لصالح «دويتشه فيله» وأصابوا شخصًا آخر من أقربائه، بعد مطاردة للصحفي في أفغانستان.

والأحداث المعروضة هنا تمثل بعضًا من إنتاج طالبان فيما يقارب شهرين. والحقيقة أن تاريخ طالبان معروف للجميع؛ لذلك أترك للقارئ مجموعة الأحداث التي سردتها كأمثلة قليلة على عنف طالبان، لكي تشرح حدود التصريحات المتسامحة لذبيح الله المتحدث الرسمي باسم الحركة.

هل تمثل طالبان مجتمع الأفغان؟

لكي نجيب على هذا السؤال علينا أن ننتبه للأرقام، فقد أدت سنوات الحرب الطويلة وعدم الاستقرار في أفغانستان قبل أغسطس/آب ٢٠٢١ إلى نزوح أعداد هائلة، فمن أصل ٣٨ مليون أفغاني فر ما يُقدَّر بنحو ٣٫٥ مليون إلى باكستان، و١٫٥ مليون إلى إيران، بين عامي ٢٠٠١-٢٠٠٩. بالإضافة لأرقام غير محددة عن النازحين إلى الصين وكشمير وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمنستان. هذا بخلاف ما يقرب من ١٫١ مليون نازح داخليًّا، ومئات الآلاف ينتشرون في جميع أنحاء المناطق الحدودية. علاوة على ذلك، ساهم نهب طالبان لمنظمات الإغاثة الإنسانية في زيادة أعداد طالبي اللجوء إلى الخارج، ويُشكِّل النساء والأطفال الأفغان الغالبية العظمى من اللاجئين الذين يعتمدون على المساعدة الدولية.

وتشير التقارير لخروج حوالي 3 ملايين لاجئ من البلاد منذ يناير/كانون الثاني ٢٠٢١ وحوالي نصف مليون نازح داخلي. أما منذ 15 أغسطس/آب 2021 (وصول طالبان للسلطة)، فقد نقلت أمريكا ما يقرب من ١٠٠ ألف لاجئ، واستقبلت كل من بريطانيا وألمانيا وكندا وتركيا أعدادًا لم يتم حصرها بعد، في مشهد يوضح مدى هلع المواطنين الأفغان من حكم طالبان.

ويمكن ملاحظة غياب الفترة من ٢٠٠٩-٢٠٢٠ من الإحصاءات المعروضة، ولا يوجد سبب يجعلنا نفترض أن الأرقام اختلفت كثيرًا في تلك الفترة. وقد يرد البعض بأن الفترة من ٢٠٠١-٢٠٠٩ كانت أفغانستان تحت السيطرة الأمريكية، ولكن الحقيقة أن أغلب اللاجئين نزحوا من مناطق تسيطر عليها طالبان. ولا أقول ذلك دفاعًا عن الحكم الأمريكي، ولكن مجرد رصد للحقائق والواقع.

وبالنظر للأرقام المطروحة نجد أن حوالي واحد من كل أربعة أفغان قرر أن يفر من طالبان لدولة مجاورة أو لمعسكرات لاجئين، وقليل من الأفغان استطاعوا الهروب لدول غربية؛ لذلك علينا أن نسأل إن كانت طالبان تحظى بتأييد حقيقي من الأفغان، أم أنه قد أرهقتهم الحروب والمؤامرات والمكائد فقرروا قبول أي نظام؟ وهل يحلمون بأن تكون طالبان قد تغيرت وأصبحت أكثر إنسانية مع مواطنيها؟

الفرق بين حكم الدولة وتنظيم الميليشيات

بالرغم من التقارير الواردة عن اغتيالات طالبان لمراسلي الصحف الغربية ومؤيدي حقوق المرأة وأنصار تعليم الفتيات وأنصار الديمقراطية، فإنه، بنظرة بسيطة، يمكن أن ندرك أن عدد الضحايا محدود بالنسبة لطبيعة ممارسات طالبان. بالإضافة لمرور مشهد احتفال الشيعة بعاشوراء في غرب أفغانستان بسلام، وهو مشهد اعتدنا أن يصاحبه كثير من القتل والانتقام من الشيعة الأفغان. فماذا حدث لطالبان؟ ولماذا يهتم زعماؤها الآن بتقديم صورة مختلفة عن الحركة؟ وهل هذا التغير حقيقي أم مخادعة بهدف التمكن من الحكم؟

لنتفهَّم مشكلة طالبان علينا أن نفهم كيف كان مقاتلوها يتحصلون على الأموال. فمصادر دخل طالبان كانت منحصرة في تجارة المخدرات، التي تطلبت منهم إقامة علاقات مع المسئولين الفاسدين في حكومة أفغانستان السابقة، كما تطلبت تأسيس علاقات مع ضباط الحدود في الدول المجاورة لتسهيل عمليات تهريب المخدرات. والمصدر الآخر كان من عمليات السطو على المجتمع المدني، فيما يشبه غارات الكر والفر الصغيرة التي توفر مصادر جيدة من الأموال. هذا بخلاف التبرعات القادمة من الإسلاميين الأغنياء المتعاطفين مع طالبان، ويتركز معظم هؤلاء في دول الخليج والسعودية.

وتلاحظ من مصادر دخل طالبان أنها – في أغلبها – لن تدوم بعد تحول طالبان من حركة جهادية إلى حكم دولة. فنظرًا لطول الحروب التي خاضتها طالبان تجد أن معظم مقاتليها لا يعرفون أي طريقة لكسب المال سوى الحرب، فهم لا يجيدون أي حرفة يدوية أو مهارة تُمكِّنهم من الانتقال لحياة مدنية. لذا فعلى طالبان أن تستمر في دفع مرتبات هؤلاء المقاتلين، وعليها أن تمنعهم من ممارساتهم السابقة التي ستكون مرفوضة الآن من المجتمع المدني.

هذا بخلاف إشكالية التعامل مع مقاتلي طالبان من الصينيين والأوزبك والشيشانيين، الذين يطمعون الآن في أن ترد طالبان الجميل وتساعدهم على تغيير الأنظمة السياسية في بلادهم. نضيف لذلك ضرورة أن تجد طالبان مصادر تمويل للدولة في ظل ما بدا من رغبة منظمات الإغاثة في ترك أفغانستان نظرًا لخطورة العمل في ظل حكم طالبان. ببساطة، ستكتشف طالبان أن المهارات المطلوبة لإدارة ميليشيات عسكرية تختلف تمامًا عمَّا تحتاجه لإدارة دولة.

ومن المتوقع أن تكون طالبان الآن أكثر ذكاءً في عرض صورتها للمجتمع الدولي، ولكن الأساسات الثيولوجية لطالبان لم تتغير. فالحركة تتبع تفاسير متطرفة من العقيدة الديوبندية السنية وتخلطها بالبشتوية التي تمثل مجموعة من التقاليد والأعراف التي تتبعها قبائل البشتون، وهي القبائل ينتمي إليها أغلب مقاتلي طالبان. ستبقي أرضيتها الثيولوجية الجامدة عائقًا في طريق تطورها؛ لأنها للأسف أرضية متطرفة تفتقد المرونة التي تؤهلها للحكم والتعامل مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.

ولكي نتفهم مدى تطرف الديوبندية البشتوية، يجب أن نقارن رفضهم لتعليم البنات وعمل المرأة بما هو معروف إسلاميًّا من دور المرأة في العلوم والعمل. ولعل قصص السيدة خديجة، والسيدة عائشة، والسيدة أسماء، تشهد على مخالفة الديوبندية البشتوية لعموم فهم المسلمين لدينهم.

تناقضات غير متناقضة

ولعل أكثر التناقضات غرابة هي تناقضات الأفغان الذين يرغبون في دولة تحمل كل المعاني الإسلامية، ولكنهم في نفس الوقت يفرون منها. ولا أرى هذا التناقض مختلفًا عن التناقضات الموجودة في منطقتنا العربية، فاستطلاعات الرأي تؤكد انتشار الرغبة في تطبيق الشريعة في المجتمع العربي. ولكن تلك المجتمعات المحبة لأسلمة السياسة، هي نفس المجتمعات التي تظاهرت لإسقاط الأنظمة الإسلامية في تونس ومصر والسودان والجزائر؛ لذلك يبقى السؤال الحائر: لماذا ترغب تلك الشعوب في أسلمة السياسة، ثم تنبذ ما ينتج عنها؟

الإجابة تتطلب دراسات مطولة لفهم أسباب رفض الشعوب لأسلمة السياسة وأسباب الفشل المتكرر للأنظمة الإسلامية برغم اختلافاتها وتنوعها. ولكن يمكن ببساطة أن نلفت النظر لمجموعة من المغالطات.

أولها أن الشعوب عادة ما تحب دينها، وأي سؤال عن تطبيق الإسلام في المجال السياسي يسقط في عقل المتلقي كما لو كنت تسأله إن كان يريد سياسة نظيفة، بدون فساد، تحمل العدالة المطلقة، تنصف الفقراء والمساكين. وسبب هذا الفهم يعود للرسالة التي تُبث للناس ليل نهار عبر وسائل الإعلام والمسلسلات وخطب المشايخ وفي المساجد ومن خلال الدروس الخاصة. فلقد تم نقل صورة الدول التاريخية المتعاقبة، من خلافة وسلطنة وإمارة، كما لو كانت الدول المثالية التي لم يحدث مثلها على الأرض أو في التاريخ. وتم تهميش وتحقير كل من يخالف هذه النظرة الأسطورية، بل محاكمته في بعض الأحيان. لذلك فكلما أُتيحت الفرصة لتطبيق المفاهيم التي يحلم بها الإنسان العربي، يُفاجأ المسلم بكل المشاكل التي توقظه من الحلم وتنقله للواقع المزري، فتجعله يتظاهر في الشوارع لإسقاط الأنظمة التي طالما حلم بها.

المغالطة الثانية أنه حتى يومنا هذا لا يوجد أي دراسة علمية رصينة لتطبيق المفاهيم الإسلامية في الدولة الحديثة. ولكن تُركِّز قيادات الإسلام السياسي على الدعوة لتطبيق الإسلام بصورة عامة، دون تحديد أي أطر عملية أو تطبيقية. وترك هذا الأمر للجماعات المسلحة عادة ما ينجم عنه تفسيرات غارقة في العنف الذي يعبر عن حياة تلك الجماعات، وما إن تفشل إحدى الجماعات حتى نسمع الجمل التقليدية من أن هذه الجماعة لا تعبر عن الإسلام. ونسمع نداءات تدعونا لتكرار المحاولة. وبالرغم أن تيارات الإسلام السياسي المعاصرة مضى عليها ما يقرب من قرن كامل، فإننا لم نرَ أي إطار عملي مقترح لتطبيق الإسلام كما ينادون به.

المغالطة الثالثة أن هذه التيارات والحركات تحاول أن تنقل الشعوب للعصور البائدة بدلًا من تفسير النصوص من خلال منظورها التاريخي. والحقيقة أن الهوة التي تفصل مجتمعاتنا عن العصور الوسطى أكبر من أن نتجاوزها أو تتجاوزها الشعوب. حتى المجتمعات الأقل اتصالًا بالحضارة الحديثة، كالمجتمع الأفغاني، ما زالت ترفض العودة لعصور بائدة، ومن الضروري أن تتفهَّم القيادات الإسلامية هذه الحقيقة.

تكثر مغالطات الإسلام السياسي، وتكثر أخطاؤه على الراصدين، ولكنه يبقى تيارًا متميزًا بصدق رغبته في التغيير وإصراره على الخروج من مكمنه، ولكن للأسف، صدق الرغبة لن يغير الواقع؛ لذلك تحتاج تيارات وحركات الإسلام السياسي إلى مراجعة مفاهيمها، والاعتراف بأخطائها علانيةً، والدخول في حوار عام حقيقي وجاد ومخلص، لكي يغيروا من كثير من المفاهيم التي لن تؤدي إلا لمزيد من الدم، مزيد من الدمار، ومزيد من الفشل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.