أياً كان المنهجُ الذي يتبعهُ الكاتب الروائي في صياغة أعماله والموضوعات التي يُقاربها، فهو يحتاجُ إلى مراقبة الواقع بوصفه مصدراً مُلهماً للكتابةِ كما أنَّ اختيار قوالب وأشكال تعبيرية ملائمة مع ذائقة القارئ، يتوقف على إدراك المؤلفُ لطبيعة الظروف وأبعادها الاجتماعية والسياسية والفكرية. بالطبع فإنَّ هذه الميزة لا يتصفُ بها إلا قلة من الروائيين الذين لا يكتفون بِمشاهدة ما يطوفُ على السطحِ، إنما يتعمقون في كل ما من شأنهِ أن يخدمَ مشروعهم في الكتابة والتأليف.

ولا يُنكرُ أحد ريادة نجيب محفوظ في التنوع الإبداعي سواء على مستوى الشكل أو من ناحية المضمون، إذ إن المتتبع لأعماله يلتمسُ فرقاً واضحاً في مظاهر أسلوبية، وطريقة المُعالجة وهذا يأتي إدراكاً منهُ لمُتطلبات المرحلة حيثُ يقولُ صاحبُ «الحرافيش» في أحد لقاءاته: «إنَّ الشكل الأدبي المُناسب لأزمة العصر هو المسرح باعتباره شكلاً فنياً يرتكزُ أساساً على الجدل والحوار والصراع». لذا قد اختبرَ فعليًا كتابة المسرحية كما أن مُعظم الروايات التي قد ألفها بين نهاية الستينات إلى ثمانينات القرن المُنقضي يغلبُ عليها طابعُ مسرحي.

هذا إضافة إلى أن كتابة المسرحية تصبحُ ثيمة أساسية في تلافيف هذه الأعمال، الأمرُ الذي يَتمَثلُ في رواية «أفراح القُبة» الصادرة من دار الشروق بطبعتها الثالثة، إذ يميلُ نجيب محفوظ في هذا العمل إلى التجريب ويعرضُ أطوار شخصياته في أكثر من قالب، تارةً تعرفها باعتبارها شخصيات روائية وتارة أخرى ترى حياة تلك الشخصيات نفسها معروضة في قالب عمل مسرحي، وذلك عندما تُمثلُ حياة أسرةُ «يونس كرم» على المسرح ضمن وقائع الرواية إذ يُعيدُ القارئ متابعة الأحداث من وجهة نظر أفراد الأسرة عند مشاهدتهم للمسرحية. تأتي هذه الرواية في أربعة فصول، كل فصل يحمل اسم أحد شخصيات أساسية. إذ تتداول آلة السرد بين هذه الشخصيات الأربع.


تكافؤ الأصوات

يضعكُ المؤلفُ في افتتاحية عمله داخل كواليس العمل المسرحي وقيام المخرج بتوزيع الأدوار، والصور التي تتالت أمام شخصية «طارق رمضان»، ومن ثم يدور الحوار بين طارق رمضان المكلف بوظيفة السارد في الجزء الأول وشخصيات أخرى. هنا يلجأُ الكاتبُ إلى تقنية ميتا-السرد، وذلك من خلال الحديث عن الأجواء المُصاحبة لإخراج عمل مسرحي في سياق الرواية ناهيك عن تلميح إلى تدخل الشخصيات وانطباعاتها حول حيثيات المسرحية، إذ تَنمُ مداخلة طارق رمضان، وهو ضمن فريق الممثلين، عن اعتراضه لما يتسمُ به العمل من الرعب مطالباً بإجراء التعديلات في بعض الفقرات، غير أن اقتراحه لا يلاقى إلا بالرفض، بينما يوافق المخرج ومدير المسرح «سرحان الهلالي» على حذف مشهد قتل الطفل، اقتناعا منهما بملاحظة نجم الفرقة إسماعيل عن ضرورة مراعاة مشاعر الجمهور.

بجانب ذلك لا يني طارق عن توصيف المؤلف المسرحي بالمجرم، مُلحاً على تقديمه للعدالة، وينشأُ هذا الموقفُ عن حالة الالتباس بين الواقع وأحداث المسرحية. يقتنع الممثلُ بأنَّ ما يرويه المؤلفُ ليس سوى محاكاة لحياته الشخصية وقتله لامرأته تحية، فالأخيرة كانت عشيقة لطارق رمضان قبل أن ترتبطَ بابن كرم يونس الذي كان أصغرَ منها سناً بعشرة أعوام.

ولا يتم الكشف عن هوية المؤلف المسرحي إلا مع الحوار القائم بين طارق رمضان من جهة ويونس كرم وحليمة من جهة أُخرى، فهو يؤكدُ للاثنين أن ابنهما مجرمُ ولم يتورعْ عن تحويل حياة أُسرته إلى مادة مسرحية وإزالة النقاب عن فضائحها. والأسوأ من ذلك أن عباس هو الذي وشى بمخبأ المُقامرين والمدمنين في بيت والده يونس كرم، وعلى إثر ذلك سيمضي والداه أياماً في السجن.

يُذكر أن الشخصيات التى تردُ أسماؤها في فضاء الرواية، يجمعها إطار مكاني واحد، وهو بيت المسرح الذي أنشأه سرحان الهلالي بما ورثه من أهله من الأملاك، والغرض من مشروعه على ما يوحي به كلام صديقه هو اصطياد النساء، إذ يبوحُ طارق رمضان بأنَّهُ يشارك مع سرحان الهلالي في خبرة واسعة ببيوت الدعارة والحانات والمُخدرات.

ما يجبُ الإشارة إليه في هذا السياق أنَّ قسماً كبيراً من هذه الأحداث تتكرر في الرواية لكن مع تغيير الراوي. في الفصل الثاني يضيفُ يونس كرم معلوماتٍ عن بيئته وموت والده، وما شهدهُ عن تطور العلاقة بين أمه والباشجاويش ،كما يستعيدُ لحظة لقائه بحليمة واصفاً جمالها في صورة استعارية: «هذه الفتاة تستحوذ عليَّ كالجوع».

وبعدما يكتشفُ سرها تدافع الأخيرةُ بأن ما تفاجأ به هو نتيجة لنزوة مدير المسرح الذي سلب العذرية من جسدها الغض. هنا يتغاضى يونس عن ماضيها، لكن ما أن يبدأ بمُعاقرة الأفيون حتى يعود شبحُ تلك الليلة مشوشاً حياة الأسرة بحيثُ يتحولُ البيت إلى الماخور، ومن جانبها تسردُ حليمة بدايات التحاقها بالمسرح كقاطعة للتذاكر، لافتةً إلى معرفتها بالمُلقن يونس بواسطة عم أحمد. إلى هنا ينتهي خيط السرد إلى الابن عباس يونس. بذلك يقيمُ المؤلف تكافؤاً في الأصوات بين الشخصيات المتناوبة على السرد.


المؤلف لا يموت

يتفردُ أسلوب نجيب محفوظ في مراوغة المتلقي، إذ يكون هناك مَجالُ ليتوقع بما سيحدثُ أثناء تعاقب الفصول، لكنْ ما يقعُ يخالفُ أفق ما ذهب إليه خيال القارئ، وبهذا تتضاعف شُحنات التشويقِ في العمل الروائي. وبما أن «أفراح القبة» تنحو صوب الهيكل المسرحي لذا كثيراً ما يتمُ الاتكاء على الحوار أداةً أساسية للتعبير عن الفكرة، وتتسمُ حركة الحوار بالسرعة والخفة والانتقال من شخص إلى آخر، يحضرُ جميع الممثلين والعاملين الذين يشاركون في المسرحية ضمن المتن الروائي ويظلُ صوت المؤلف غائباً إلى الفصل الأخير.

هنا يحذو صاحب «عصر الحب» حذوَ الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيراندللو في مسرحيته «ست شخصيات تبحثُ عن المؤلف»، طبعاً أن اختفاء المؤلف وما يتركه من رسالةِ يعلنُ فيها عزمه على الانتحار هو ما يحفظ التوتر الدرامي، كما يُولدُ مزيداً من الغموض حول اتهام عباس يونس كرم بارتكابه الجرائم استناداً إلى ما يتضمنهُ نصه المسرحي. يرجئ الكاتبُ عملية حل هذه العقد إلى الفصل الأخير حين يظهر عباس يونس كرم لِيدلي بدلوه سارداً حكاية شغفه بالمسرحية،ومن ثم ماشاهده في بيت والديه من اجتماع الشلة مبرزاً مظاهر الانحلال وتنازل والده عن كل القيم مقابل المردود المادي.

زدْ على ذلك يتوقف عند قصة غرامه بتحية وما يبنى عليها من أحلام بتأسيس حياة مغايرة لوكر ملذات والديه في باب الشعرية، ولا يسعُ المتلقي إلا أن يتعاطفَ مع المؤلف عندما يكشف عن موت تحية بمرض تيفود ويلحق بها ابنه طارق،كل ذلك يلهمُ عباس يونس بالموضوع يبحثُ عنه لبناء عمل مسرحي بعد إخفاق محاولاته السابقة لإقناع سرحان الهلالي بعرض ما ألفه.

يشار إلى أن نجيب محفوظ يحمّلُ شخصية عباس يونس بعضاً من آرائه لاسيما فيما يتعلق بمسألة الصراع بين الخير والشر حيثُ لا يشكُ ابن يونس كرم عن انتصار الخير، ويُفهم من تفنيد خبر انتحاره انحياز صاحب «أولاد حارتنا» لهذه الشخصية،ما لا يمكن تجاهله هو التقارب البنائي بين رواية «أفراح القبة» و«ثرثرة فوق النيل»، إذ يسندُ الكاتبُ في الأولى مهمة تأليف مشروع عمل مسرحي إلى عباس يونس حول البيت الذي أبصر فيه النور، وفي الثانية سمارة بهجت وهي صحافية تتسلل إلى عوامة الرجال وتقومُ بكتابة نص مسرحي عن هذا العالم الغرائبي. ربما الفرق الوحيد هو أن الثمية الأساسية في «أفراح القبة» هي مشروع المسرحية وما يؤكد ذلك أن عنوان الرواية هو عنوان للمسرحية التي كتبها عباس عن أسرته.